الرحالة ابن بطوطة الموسيقي

الرحالة ابن بطوطة الموسيقي
        

          لقد كانت رحلة ابن بطوطة فعلاً صورة صادقة لحوار الحضارات في العصر الوسيط، حيث استطاع الرحالة المغربي ابن بطوطة أن يعطينا فرصة لنعيش مع عوالم أخرى كانت بعيدة عنا بعد أن استمتع هو بمشاهدتها والتعايش معها زهاء ثلاثة عقود بالرغم مما يبدو وكأنه يعوق عن ذلك الاتصال!

          كانت رحلة ابن بطوطة، على ما يقوله المستشرق الفرنسي أندري ميكيل أعظم رحلة في تاريخ البشرية جمعاء بالنظر لما احتوت عليه من كل الخصوصيات التي تميز كل أمة من أمم عالم الأمس مما يفسر ترجمة الرحلة إلى أكثر من خمسين لغة، وأنها تقتحم كل بيت من بيوت القارات الخمس أو الست إذا شئت أن تقول!

          وتقديرًا لهذا الرحالة العظيم أعطي اسمه، في سطح القمر، للتركيب الحلقي الذي يقع في الدرجة السابعة من خطوط العرض الجنوبية، والدرجة الخمسين من خطوط الطول الشرقية، وذلك باقتراح من فريق خبراء المؤتمر العالمي لتنميط الأسماء الجغرافية الذي سبق أن احتفل به في نيويورك بمناسبة مرور ثلاثين سنة على إنشاء المؤتمر المذكور.

          وقد كان في صدر ما لفت نظري في شخصية الرحالة المغربي ابن بطوطة علاوة على كل مزاياه، ظاهرة اهتمامه بحوار الحضارات وتعايش الثقافات وتساكن المعتقدات حتى كانت رحلته عندي مصدرًا مهمًا للتاريخ الدولي في العصر الوسيط، مصدرًا مهمًا يعتمد عليه الناس حول العلاقات بين الشرق والغرب والشمال الجنوب، وخاصة العلاقات بين بلاد آسيا وإفريقيا وأثر تلك العلاقات على حاضرنا باعتبار أن يومنا امتداد لأمسنا.

          ولما كانت مظاهر الحضارة في الرحلة متعددة ومتنوعة فقد رأيت أن أختار منها جانبًا من أنماط الحضارة كان نقطة لقاء الجهات جميعها.. ويتعلق الأمر بجانب الموسيقى، بأهل الطرب، ومختلف آلات الموسيقى بأسمائها وصفاتها ونعوتها شرقًا وغربًا.. مما يعني أن الموسيقى كانت محل «وفاق» من مختلف رجال الفكر، ومما يعني أيضًا أن ابن بطوطة كان منفتحًا على الدنيا التي يعيشها بمختلف مظاهرها ومكوناتها.

          إن الرجل كان يعيش بطنجة، وما أدراك ما طنجة! نقطة وصل وتواصل بين المغرب وأوربا وأرض الميعاد لكل التحف والطرف، وقد كان في صدر تلك التحف والطرف ذلك التراث الرفيع الذي لاتزال بلاد المغرب الأقصى تعرفه إلى الآن، ويتعلق الأمر بموسيقى الأندلس التي توجد على مرمى حجر من المغرب! هذه الموسيقى التي تحمل عند عامة الناس اسم «الآلة» تمييزًا لها عن الطرب الذي يقتصر على السماع والغناء من دون آلة.

          ويتأكد أن هذه التسمية بالآلة كانت شائعة منذ عهد دولة بني مرين، (القرن الرابع عشر الميلادي)، عندما وجدنا الرحالة المغربي يستعمل هذا المصطلح وهو يجول على أطراف العالم في قارتي آسيا وإفريقيا على ما سنرى.

رجل أريحية وتسامح

          كان ابن بطوطة رجل أريحية وتسامح، فهو رغم أنه مالكي المذهب على ما نعرف: يسأل في مصر عن قاضي المالكية، ويسترحم في المدينة المنورة على قبر الإمام مالك بن أنس، ويعتمد في بعض أحكامه على ما يقوله هذا الإمام، إلا أنه مع ذلك كان يخالف ما ورد في رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني حول الطرب والغناء.

          وهكذا فابتداء من انطلاقه نحو بلاد المشرق، مرورًا بمصر والحرمين، والعراقين إلى إفريقيا الشرقية إلى أوزبكستان، والقسطنطينية، إلى الهند، ثم الصين، إلى أن ختم رحلته بالتنقل إلى بلاد السودان بإفريقيا الغربية.. في كل تلك الجهات بدا أن الرجل كان ذا حس موسيقي عالٍ.

          وهكذا فقد أُخِذ في مصر بأهل الطرب والموسيقى، وأُعجب بطريقة ترتيلهم للقرآن بالأصوات الحسان التي كانت تعتبر عنده عملاً موسيقيًا يُعمل في العقول ما يعمله الغيث في الحقول على نحو ما أُعجب بالحداة وهم يحتفون بالمحمل الذي يقصد البقاع المقدسة.

          وكذا كان حاله وهو يعرج على بلاد الشام: دمشق التي شنّفت أسماعه بالتلاحين الشجية، التي تكاد النفوس تطير لها رقة.

          وحتى عندما قصد بلاد الحجاز، حركه الحديث عن الطبول التي كان الحجاج يسمعونها في كل ليلة جمعة عند الموقع الذي استشهد فيه أهل بدر.. لقد استوقفته أسطورة «جبل الطبول» لأنه كان مولعًا بإيقاع الطبول وما يتصل بالطبول.

          وفي مكة المكرمة سمع عن عادة أهلها في شهر رجب عندما يظهر أمير مكة محفوفًا برجال الموسيقى الذين يزمرون في البوقات ويضربون الطبول الكبيرة والصغيرة مما عرف في ذلك الزمان بالدبابات، إشعارًا بدخول شهر رجب.. كان ينسى أنه يعيش مناسك العمرة فيتبع جوقة الطبالين والغياطين التي تنقر على نقيب الأشراف الذي عينه ملك العراق، على ما جرى عليه العرف من إدخال السرور على الجمهور بمثل تلك النقرات التي لها معانٍ ودلالات.

المؤمن طروب

          لقد كانت الموسيقى بالنسبة للرحالة المغربي بمنزلة النفَس الذي يدب في جسده فهو متى رأى آلة الطرب، أيا كان نوعها، اقتفى أثرها لأنه يرى أنها طريق مؤدية إلى السعادة والهناء والوفاق حتمًا، وقديمًا قالوا: المؤمن طروب.

          وعندما وجد نفسه في محلة السلطان التتري أبي سعيد بهادور، ملك عراق العرب والعجم، سحر بأهل الطرب الحافين بالركب السلطاني بمناسبة العيد: كل أمير من الأمراء بعسكره وطبوله وراياته، ويتقدم أمام الملك الحجاب وأهل الطرب، وهم نحو المائة، يلبسون الثياب الحسنة، وأمام أهل الطرب عشرة من الفرسان يتقلدون عشرة من الطبول، وخمسة من الفرسان لديهم خمس صرنايات وهي الليرات أو الغيطات.. يضربون تلك الأطبال وينفخون في الصرنايات ثم يمسكون، ويغني عشرة من أهل الطرب نوبتهم، فإذا قضوها ضربت تلك الأطبال والصرنايات، ثم أمسكوا وغنى عشرة أخرون نوبتهم وهكذا إلى أن تتم النوبات العشر.

          لم يجد ابن بطوطة حرجًا في أداء هذا الوصف الدقيق ليشعر بدور الموسيقى في سير الحكم وحياة الشعوب باعتبارها، كما يقول المؤرخون، شعارًا من شعارات الدولة وهذا نفس التقليد الذي جرى عليه الملك الناصر ملك مصر والشام عند قيامه بمناسك الحج.

          وكأن ابن بطوطة كان موكلاً فقط بتتبع أخبار الموسيقى، وهكذا وجدناه ينص أيضًا على هيام أهل اليمن بالطرب عندما يخرجون أيام السبوت في موسم التمور ليسهموا بدورهم في تنشيط الاحتفالات الشعبية المقامة بهذه المناسبة، ويتنقل إلى مقديشو فيحكي عن سلطان البلاد الذي تحضر بين يديه الطبول والأنفار والأبواق والصرنايات.. حيث ينعم الجميع، في كل جمعة، بأهازيج ينتشون بها إلى جانب مليكهم.

          أما كلوة فقد كان من عاداتها أن تستقبل ضيوفها النازلين بساحتها بترتيب خاص يقوم هو الآخر على العزف والنقر إلى أن يبلغ الضيف مأمنه عند حاكم البلاد.

فرقة الأخية الفتيان

          وقد بهت ابن بطوطة وهو في آسيا الصغرى عندما تعرف على سلاطينها وأمرائها وعادات فرق «الأخية الفتيان» فيها عندما أمست الأيادي تتهاداه من إمارة إلى أخرى، ومن بيت إلى بيت، وكانت الظاهرة التي سجلها ولم يستطع حماية نفسه من ترديدها هي الطرب والموسيقى في كل فضاء حيث كان يجد نفسه ومزاجه!

          فمع فرق «الأخية الفتيان» تحدث عن الغناء والرقص، وعند سلطان أكريدور تأثر بالأصوات الحسان التي يرتل بها القرآن، والتي تنفعل لها النفوس وتخضع لها القلوب، وتقشعر لها الجلود على حد تعبيره.

          وهكذا في مدينة لاذق، وفي مدينة قونيه حيث روضة مولانا جلال الدين الرومي، وفي مدينة برصى التي سمع فيها الترتيب بترجيع عجيب قبل أن يستمع إلى الغناء باللسان العربي ويسمونه «القول»، ثم باللسانين الفارسي والتركي ويسمونه «الملمع».

          هل هناك حديث عن حوار بل تحالف الحضارات أكثر من هذا؟ ثلاث قوميات كبرى على ذلك العهد لها نفوذ وجاه وقوة، ومع ذلك يجمعها قاسم مشترك: النغم في حضرة واحدة. وفي بلاد أوزبيك، وبالقسطنطينية عندما صحب الأميرة بيلون إلى أهلها.. لا عيش للناس من دون الموسيقى، فهي التي تجمعهم وهي التي يجدون فيها الراحة من عنائهم.

          إذا عجزت عن إسماع مخاطبك عن طريق اللغة، أي لغة، فعليك أن تسلك طريق اتصال آخر فإنك لا محالة واصل، هذا الطريق هو طريق الموسيقى. إن هذه الأدوات الصماء البكماء بتناغمها، وتناسقها، وبما يصحبها من أصوات حسان، ناطقة بالطيب من القول، والجميل من الكلام هي التي تحمل مخاطبك على الالتفات إليك والالتفاف بك، والاعتكاف ببابك.

          لم تقدم لنا شهادة إلى اليوم حول تعايش الحضارات وحوار الثقافات مثل التي قدمها إلينا شاهد عيان في العصر الوسيط يحمل اسم ابن بطوطة.

          ولقد كان حريصًا في بعض الأحيان على أن يعرف بالقوم الذين كان يحضر مجلسهم ويعرفهم على بلاده، وهكذا وجدناه وهو يحضر احتفال السلطان محمد أوزبيك خان في أجواء عاطفية ممتعة، يذكر ملوك الدنيا: ملك المغرب، وسلطان مصر والشام، وسلطان العراقين، والسلطان أوزبيك. وسلطان تركستان وما وراء النهر. وسلطان الهند، ويختم بسلطان الصين الذي سيخصص له حيزًا خاصًا من مذكراته.

          وهو في ضيافة الشيخ السياحي بضاحية بخارى، وقبل أن يتبرك بزيارة ضريح الإمام المحدث أبي عبدالله البخاري، حضر مجلس جماعة من القراء بالأصوات الحسان.. وقاموا بأداء نوبات بالتركي والفارسي على طريقة حسنة كما يقول رحالتنا.

موسيقى الوفاة

          وقد نقل إلينا لقطة رائعة عن أجواء موسيقية تصحب الأمير علاء الدين وإلى مدينة لاهري في رحلته عبر نهر السند، لم تتوافر هذه الفرصة لأحد إلا لابن بطوطة الذي شاهد مدى إحساس الناس بضرورة حضور الموسيقى معهم أثناء تنقلاتهم، فهنا الطبول والأبواق والأنفار والصرنايات: كان جوقًا كبيرًا اشترك في مركبين، وهناك جوق ثانٍ اتخذ مركبين آخرين أيضًا، فتضرب الطبول والأبواق نوبة، ويغني المغنون نوبة، ولايزالون كذلك من أول النهار إلى وقت الغداء، ويأتي أهل الطرب إلى مركب الأمير فيغنون إلى أن يفرغ من أكله.

          وقد استغرب ابن بطوطة عندما شاهد أن الموسيقى تحضر أيضًا في مناسبات الوفاة، عندما ترافق النساء الهنديات اللاتي يحرقن أنفسهن حدادًا على أزواجهن، ولما رأى الطبول والأبواق بين يدي المرأة التي كانت في طريقها إلى اللهب أغمي عليه، وكان عجبه أكثر وهو يسمع أن الغناء والطرب يستمر ثلاثة أيام قبل الإقدام على هذه العملية المروعة التي كانت تدخل ضمن بعض العادات.

          لقد كان ابن بطوطة يعرف تقاليد الوفاة التي تجري في العالم الذي يعرفه، حيث تجري في جو من الحزن والحداد وليس في ذلك الجو الصاخب بالأبواق والطبول حيث يحضر سائر أصدقاء الأسرة المنكوبة بمن فيهم المسلمون..! إن التعايش في الهند بين مختلف المذاهب والديانات كان أيضًا مما يهم ابن بطوطة تسجيله واستحسانه.

أمير المطربين

          لقد كتب إليّ زميلي الأستاذ البريطاني تيم ماكينطوش سميث يقول: إنه وقف على البقعة التي حكى عنها ابن بطوطة والمعدة لعملية الإحراق والقريبة من مدينة أمجري، مما يؤكد لنا مصداقية الرحالة فيما كان يرويه ويحكيه.

          لقد أخذت بلبّه تقاليد الهند على اختلافها، وأعجب بنمط التعايش، والاحترام المتبادل بين سكان الهند بالرغم من تعدد ثقافاتهم وتنوع معتقداتهم، وعزا ذلك لحكمة وتبصر القادة الذين وصف خروجهم لصلاة الأعياد بما كان يصحبهم من أجواق موسيقية متعددة القوميات، مزودة بالطبول والأبواق والصرنايات والشعارات والرايات علاوة على أسراب المغنيات.

          ولم ينس ابن بطوطة بطبيعة الحال، ما كان يجري في أعراس القصور التي يسهم فيها سماه «أمير المطربين» التبريزي الذي يكون مصحوبًا بفرق من الرجال المغنين والنساء المغنيات والرواقص، وهكذا نسمع أن هناك مؤسسات خاصة تشرف على هذاالإطار الموسيقي وتستدعى كلما اقتضى الأمر استدعاءها لتزيد في بهاء النزه التي تحدث أو تتجدد على نحو ما نراه عندما يخرج السلطان للصيد بصحبة الأمراء والوزراء.

          وهنا أيضًا يكون حضور أهل الطرب الذين يحتلون، في رتبة التشريفات، درجة الحجّاب الملازمين للسلطان على ما قرأنا، لقد كان نصيب الفن أوفر من نصيب الآخرين.

          وإذا أردنا أن نعرف درجة ولوع الرحالة المغربي شخصيًا بأمر الموسيقى وشأن الطرب، فيكفي أن نعرف أنه هو بذاته ولحمه وشحمه، وهو الذي كان اعتذر - في ظروف خاصة - لأحد الأمراء في بلاد فارس، عن أن يحضر مع أصحابه مجلس سماع، هو نفسه يخبرنا بأنه خرج في نحو من ثلاثين من رفاقه، واستصحب معه في بعض الأسفار أخوين من المغنين المُحسنين يسمعانه النوبات المطربة في أثناء الطريق، ولما وصل إلى بلدة بِجنَور وجد بها ثلاثة إخوة آخرين من المغنين فاستصحبهم فكانوا يغنون له نوبة، ويستمع إلى الأخوين الأولين نوبة أخرى.

طرب أباد

          وقد كان فيما بين دهلي ودار الخلافة ما كان معروفًا باسم «الحوض الخاص».. كان على جانبه نحو من أربعين قبة، ويسكن حوله أهل الطرب، وكان موضعهم يسمى «طرب أباد» ولهم سوق هناك من أعظم الأسواق ومسجد جامع، ومساجد سواه كثيرة.

          وقد أخبرنا ابن بطوطة - وهذا من أطرف الأخبار التي يرويها - أن النساء المغنيات القاطنات هناك يُصلين التراويح في شهر رمضان بتلك المساجد مجتمعات ويؤم بهن الأئمة وعددهن كثير، وكذلك الرجال المغنون.

          وقد شاهد الرحّالة المغربي أهل الطرب في عرس الأمير سيف الدين غدا بن مهنّى، لكل واحد منهم مصلى (سجادة) تحت ركبته، متى سمع الآذان قام فتوضأ وصلى.

          كان الفنانون المتدينون لا يتحرجون من الغناء، كانوا يعتبرون أن كل شيء في وقته عبادة على ما سمعته من أحدهم في بغداد، العبادة لها وقتها، وراحة النفس لها وقتها.

          وقد قدم لنا ابن بطوطة معلومة مهمة عن التاريخ الذي كان يربط الهند بجارتها الصين، عندما كان يصف الهدية الضخمة التي بعث بها ملك الصين إلى سلطان الهند، في عهد أسرة يوان (1271-1368) ابتغاء الحصول على إذن لبناء معبد على أرض كانت تابعة للهند، وبها «معلمة» يحج إليها أهل الصين، في معرض ذلك يتحدث ابن بطوطة عن «الهدية الضخمة» الفخمة التي أجاب بها ملك الهند إمبراطور الصين وأنها كانت أحسن وأثمن، إذ كان فيها مائة جارية ما بين راقصة ومغنية.

          ولابد أن ابن بطوطة لم يسق هذه التفصيلات عبثًا، ولكنه كان يريد القول بأن أباطرة الصين كانوا يرتاحون من أمر مثل هذه الهدايا الفنية، ولاشك أن كل واحد منا يقدر معنى وجود مائة جارية بما يصحبها من أدوات وترتيبات وتكليفات.

          ولابد أن أنبه مرة أخرى إلى أن ابن بطوطة كان في صدر الرحالة - إن لم أقل الوحيد - الذين وظّفوا المرأة في رحلتهم وجعلوا منها عنصرًا فاعلاً في جعل الرحلة مادة مرغوبًا فيها من لدن الجميع.

          ومن المهم أن نفتح صفحة طريفة للحديث عن سوق المغنين لمدينة دولة أباد وهي تحمل اسم «طرب أباد» على نحو ما ذكرناه وهو بين دهلي ودار الخلافة، كان سوقًا من أجمل الأسواق وأكبرها، فيها الدكاكين الكثيرة، وكل دكان له باب يفضي إلى دار صاحبه، وللدار باب غيره! والحانوت مزين بفراش، وفي وسطه نصب مهد كبير تجلس فيه المغنية أو ترقد وهي مزينة بأنواع الحلي بينما جواريها يحركن المهد.

          وفي وسط السوق قبة عظيمة مفروشة مزخرفة يجلس فيها «أمير المطربين» بعد صلاة العصر من كل يوم خميس وبين يديه خدامه ومماليكه، وتأتي المغنيات طائفة بعد أخرى فيغنين بين يديه ويرقصن إلى وقت صلاة المغرب ثم ينصرف، وفي تلك السوق المساجد للصلاة ويصلي الأئمة فيها التراويح في شهر رمضان، وكان بعض سلاطين غير المسلمين بالهند إذا مر بهذه السوق ينزل بقبتها، ويغني المغنيات بين يديه، وقد فعل ذلك بعض سلاطين المسلمين أيضًا.

          وهو في مدينة قالقوط تحدث عن الأجواق الموسيقية التي تصحب رجال الحكم في المدينة، لقد كان حسّه الفني لا يسمح له بأن يمر على مشهد موسيقي دون أن يسجله، لا فرق عنده بين أن تكون الموسيقى مدنية أو عسكرية، للعرب أو لغيرهم.

          وهو في جزر المالديف يرى أن الطرب من مستلزمات الدولة، ولو أن حاكمة البلاد كانت هي السلطانة خديجة التي كانت من الصالحات القانتات.

          وهو في زيارته لسومطرة التي موّلت رحلته للصين وعودته منها، يرى ويسمع أهل الطرب الذين استحضرهم السلطان للتغنّي بين يديه، بل أحضروا الخيول المجللة بالحرير والمحلاّة بالخلاخيل الذهبية لترقص على نغمات المطربين، مثل ما شاهده وهو يقيم في بلاد الهند. 

شهادة في تعايش الحضارات وحوار الثقافات

          ولم تقدم إلينا شهادة لتعايش الحضارات وحوار الثقافات - أقولها ثانية وثالثة ورابعة - مثلما قدمها إلينا الرحالة ابن بطوطة عن بلاد الصين، فهو يقول عن حكام الصين، إنهم يتدينون بدين غير الإسلام لكنه يقول في الوقت ذاته: إن المسلمين ببلاد الصين لهم مساجدهم وهم معظمون محترمون. المسجد إلى جانب الكنيسة، لا فرق بين هذا وتلك، فليس الأمر على نحو ما كان من سابور ملك الفرس الملقب بذي الأكتاف، يثقب أكتاف معارضيه، ويعلقهم منها حتى لا يعود أحد لمعارضته أبدًا. إن حكام الصين يجعلون من كلمة «الوفاق» مبدأ لهم في التعايش والتناقش.

          وصل ابن بطوطة إلى الصين عام 746هـ-1346م.. وهنا أمكن له أن يزور وبكل حرية، خارج مدينة الزيتون، زاوية من زوايا الشيخ أبي إسحاق الكازروني التي يدفع إليها التجار ما نذروه من مال أثناء معاكسة الرياح أو القراصنة للمسافرين وهم يمتطون السفن.

          وهنا أيضًا يشهد آثار الموسيقى وأهل الطرب بما يتوفرون عليه من طبول وأنفار وأبواق يشترك في استعمالها والاستمتاع بها المسلمون واليهود والنصارى، وحتى عَبدة الشمس كذلك.

          وهنا، وهو بالصين - يحكي عن الأمير الصيني الكبير قُرْطى أمير أمراء في مدينة الخنساء الذي كان - على عظمة منزلته - يناولهم الطعام بيده.

          والمهم ليس هذا ولكن المهم أن نسمع أن أمير الأمراء المذكور بعث ولده مع الرحالة المغربي ابن بطوطة وصحبه إلى خليج موجود على مقربة من المدينة بقصد النزهة، وهنا يحكي ابن بطوطة أنه أعدت له سفينة مع أصحابه، بينما ركب ابن الأمير سفينة محاذية، ومعهم أهل الطرب والموسيقى، قال: وكانوا يغنون بثلاث طرق: على الطريقة الصينية، والطريقة العربية، والطريقة الفارسية.

          قال: وكان ابن الأمير يبدي إعجابه بالغناء الفارسي، فغنوا قطعة من الفارسي، وأمرهم الأمير بتكرارها مرارًا حتى حفظها ابن بطوطة من أفواههم، قال: ولها تلحين عجيب، وذكر هذا الشعر:

          تَادِلْ بِه مِهْرَتْ دارِه أَمْ دَرْ بَحْرِ فِكْرْ افتَادَهِ أَمْ جُونْ دَرْ نَمَازْ إسْتَادِهْ أمْ كُوبِى بِهِ مِحْرابمَ دَرِي

          لقد كان هذا البيت من الشعر، وليس بيتين - كما رواه الناشرون جميعُهم - لسعدي شيرازي، من قصيدة له مشهورة مطلعها:

          آخِرْ نِكَاهِي بَازْكُنْ وَقْتِي كِه بَرْمَا بِكَذَري
          يَا كِبْرْ مَنْعَتْ مِيكُندْكَزْ دُوسْتَان يَادْ أوَرِي

          ومعناه: عندما نستسلم للأحزان نقع في متاهاتِ المرض لكننا عندما نقف للصلاة نعود أقوياء أمام المحراب.

          ولابد لنا من وقفة مع شعر سعدي شيرازي المتوفى سنة 612هـ-1291م.. فكيف وصل الشعر إلى الصين؟ ومَن تقبل هذا الشعر؟ ومن وضع تلحينه ليصبح أنشودةً يرددها المطربون في مجالس الأمراء؟ وكيف أن هذه الطبقة العليا في البلاد تمكن منها هذا الشعر الفارسي الذي كان يغنى في النُّزه؟

أسمعني وأسمعك

          أسئلة كلها تصب في الموضوع المطروح اليوم على كل العالم، وعلينا نحن أن ننشدَ الطريق المثلَى لاتصال أوثق وأحق كيف يصل الناس اليوم إلى حياة يسودها الأمن والسلام والوفاق على نحو ما كان الناس عليه بالأمس البعيد؟!

          مثل هذه اللقطات وهذه المحطات هي التي كانت تضع أصابعنا على نمط العيش في تلك الجهات التي كانت تؤمن بأن مبدأ «اسمعني وأسمعك» هو الشعار الحكيم الجدير بالاقتداء.

          ويعود ابن بطوطة من تلك النزهة الخليجية إلى دار الأمير قُرْطي حيث يجد أهل الطرب أيضًا يستقبلونه بأنواع من الغناء العجيب الذي كان يحرّكه لتسجيل انطباعاته عنه.

          ولما تحدّث ابن بطوطة عن عودة الخان الأعظم من قتال ابن عمه ذكر أن المدينة زيّنت جميعها لاستقباله، وكان من الطبيعي أيضًا أن تضرب الطبول والأبواق وتستعمل الأنفار، ويشتغل أهل الطرب لمدة شهر كامل لمشاركة الشعب أفراحه بالنصر.

          ولابد أن نتحدث عمّا شاهده الرحالة المغربي وهو يعود إلى وطنه المغرب عبر بلاد فارس.

          والجدير بالذكر، قبل أن نتتبع خطوات العوْدة.. أن ننبه إلى خطأ وقع لابن جُزي الذي نسخ الرحلة ونمّقها عندما ذكر أن ابن بطوطة زار جنوب فارس في بداية رحلته عام 727هـ-1327م، والحالة أن ابن بطوطة كان في هذا التاريخ بالذات، بدمشق الشام ينسخ بخط يده مخطوطة للإمام القرطبي الأنصاري معروفة تحت عنوان «المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم».

          ونحن اعتمادًا على ما استصوبناه حول ترتيب الرحلة نعود لذكر انطباعات ابن بطوطة عن اهتمام بلاد فارس بأمر الموسيقى في تلك الأصقاع أثناء عودة الرحالة لبلاده أواسط الأربعينيات.

          نعم لقد تحدث رحالتنا عن الدفوف والطبول والمزامر والمغنين وآلات الطرب والسماع وهو في جنوب فارس، بمدينة تُستر.

          وهكذا كان حديثه عن «شيراز» مسقط رأس سعدي شيرازي وهي مشهورة بأهل الطرب، ولم يسمع بتلاوة للقرآن أحلى وأوقع في النفس مما سمعه في شيراز.

من الشرق الأقصى إلى أفريقيا

          ولم يكتف ابن بطوطة بتتبع الطرب وأدواته وأهله بما أشار إليه وهو يزور الشرق الأقصى، ولكنه عاد ليقدم لنا ما شاهده في إفريقيا، في بلاد السودان عندما دخل قصر المَنْسَى (السلطان) سليمان حيث وجد أيضًا أهل الطبول والأبواق.. قال: وبوقاتهم من أنياب الفيلة، وبعض آلات الطرب عندهم مصنوعة من القصب والقرع، وتضرب (أي تعزف) بما سمّاه السطاعة وهي جِعَاب على شكل الليرة، ولها صوت عجيب يقول ابن بطوطة.. ولعل القصد هو الآلة المؤلفة من قضبان يعزف عليها بمطرقتين صغيرتين خشبيتين على نحو الآلة التي يستعملها أصحاب المقام العراقي في بغداد والتي تسمى «السنطور»، وهي تقارب في شكلها آلة القانون المعروف بالمملكة المغربية.

          قال: وعند جلوس المنسى سليمان على الكرسي تضرب الطبول والأنفار، وهكذا لم تستثن أمة من الأمم من الاهتمام بالموسيقى والاعتماد عليها كوسيلة من وسائل الترفيه.

          وعند صلاة العيد يجلس السلطان بعد صلاة العصر، ويُنصب كرسي لمن سمّاه «دوغا» الترجمان، يجلس عليه ويضرب على الآلة التي ذكرنا: القصب وتحته قريعات (جمع قرع)، ويُغنّى شعر في مدح السلطان، يذكر غزواته وحملاته وفضائله، وتغني النساء والجواري كذلك ويلعبن بالقِسي.

          وأخبرنا ابن بطوطة أن هذا العرف منهم لم يزل قديمًا عندهم قبل الإسلام فاستمروا عليه.

          ومن الطريف أن نجد في هذا الشعر ما ينبه الملك إلى أن غيره ممن جلس على عرش ملوك السودان فعل كذا وكذا واكتسب من الذكر الجميل كذا وكذا، ينبهونه إلى المصير، على نحو ما كان السلطان سليمان القانوني ينصب أمام عرشه نعْشًا يذكره بعالم الأموات!

الحالة في المغرب

          ولاشك أن ابن بطوطة وقد عاد نهائيًا إلى عاصمة فاس وجد الاهتمام نفسه بالموسيقى وأهل الطرب عند السلطان أبي عنان. ولقد قرأنا في سيرة هذا العاهل المغربي العظيم المتوفى سنة 1358 ما كان يتوافر عليه من أطر موسيقية كانت أحيانًا أطرًا نسوية، حيث كانت الجواري أثناء تنقلاته يغنين أعذب التلاحين وبأرق الأصوات النافذة إلى الأعماق لإفاضة الوجدان وتحريك العواطف، وكانت الطبول تقرع على نسب موسيقية وطرائق شرقية وغربية على حد تعبير ابن الحاج النميري.

          وتأثرًا بهذا المناخ الذي كان ابن بطوطة يعيشه وهو يتتبع أدوات الطرب يمكننا أن نفهم الحالة في المغرب أواخر عهد بني مرين عندما نقرأ للقاضي أبي سالم إبراهيم الفجيجي (ت954هـ-1547م) قصيدته المعروفة بروضة السلوان التي يشبه فيها الذين لا يهزّهم الوتر ولا يتأثرون بالنغم ولا يقومون برحلات للصيد بأنهم متخلّفون في مزاجهم، بل إنهم أشبه بالأنعام منهم بالإنسان

          فَمَن لمْ يحرّكْه الربيعُ وزهرُه
                                        ولا العُود حين تعتريه الأصَابع
          ولَمْ يتأثر بالسماع ونحوِه
                                        ولم يستمِلْه الصَّقْر إذْ هو دافع
          فذاك مختلُّ المِزاجْ حقيقةً
                                        ولاشك للحِمَار فيه طبائع!

          وبعد، فإن الذي أريد أن أخلص إليه من خلال رصد حديث ابن بطوطة عن الموسيقى كمحطة لقاء مهمة تجمع بين الشعوب، هو الدعوة إلى إنشاء مؤسسة أو البحث عن شخصية هاوية للموسيقى تقوم بالتقاط جيّد لأنماط من الإيقاعات في كل البلاد التي زارها ابن بطوطة، مما ذكرته بالاسم أو أشرت إليه، التقاط كل تلك المحطات لنسجل فيها هذا الموسيقي الذي ننشده موضوعًا يحمل عنوانًا، مثلاً «الموسيقى بآذان ابن بطوطة».

          لا أعتقد أن هناك صعوبة في ذلك مادامت الأمم التي زارها ابن بطوطة تحتفظ إلى اليوم بتراثها وتعتز به وتقدمه للناس في مختلف المناسبات.

          لقد كان القصد من تعقّب هذا الجانب الحضاري الذي وجد فيه الرحّالة المغربي ابن بطوطة العنصر البارز الذي يجمع بين الناس في الشرق والغرب، هذا الجانب الذي ينبهنا - في واقع الحال - إلى ضرورة البحث عن كل الجوانب الحضارية الأخرى في الرحلة التي من شأنها أن تقرب بين القارات أو بالأحرى أن تقربنا بعضنا بعضًا. إنّني إذ أقدّر دعوة مؤسسات المجتمع المدني للاهتمام بالندوات، أرجو، هذه المرة، أن ينظم مهرجان «حول اهتمام ابن بطوطة بالموسيقى والسَّماع والنَّغم في العصر الوسيط، وأعتبر ذلك مما يساعد على كتابة تاريخ الموسيقى بين الأمس واليوم.

          لقد كنت أتمنى، ولا أزال أعرب عن هذه الأمنية، أن يعنى فريق موسيقي متخصص بتتبع رحلة ابن بطوطة موسيقيًا، أي يقوم الفريق بتسجيل قطع موسيقية عتيقة من البلاد التي زارها ابن بطوطة وأشار إلى وجود طبوع موسيقية بها، انطلاقًا من مصر ومرورًا ببلاد الشام والحجاز.. إلى اليمن وإفريقيا الشرقية وآسيا الصغرى وبلاد أوزبيك والقسطنطينية وسومطرة وبلاد السند والهند والصين وإفريقيا العربية وبلاد السودان إلى ديار المغرب.

          هكذا سنتوفر على تشكيلة من مظاهر العصور الوسطى تعبّر عن مدى تواصل الحضارات وخاصة فيما يتصل بالموسيقى التي تظل أداة لتهذيب الشعوب وتبقى الوسيلة الوحيدة لدعوة الناس إلى الاسترشاد بالتراث من أجل الحوار الذي يهدف لدفع مسيرة الغد.

-----------------------------

          قالتْ تماضرُ إذ رأتْ مالي خوى
                                        وجفا الأقاربُ، فالفؤادُ قريحُ
          ما لي رأيتُكَ في النّديّ
                                        منكَّساً وَصِباً، كأنّكَ في النّديّ نَطيحُ؟
          خاطِرْ بنفسِكَ كي تُصيبَ غنيمةً
                                        إنّ القُعودَ معَ العِيالِ قبيحُ
          المالُ فيه مهابةٌ وتجلَّةٌ
                                        والفَقْرُ فِيهِ مَذلّة ٌ وفُضُوحُ

عروة بن الورد

 

عبدالهادي التازي