العمارة .. صورة لسلطة الدولة

  العمارة .. صورة لسلطة الدولة
        

          في مصر الفرعونية اكتشف الفراعنة أهمية الصورة في السيطرة على الجمهور، لذا نقشت جدران المعابد بنقوش مصورة تحكي عظمة الفرعون وهيبته وهيبة دولته وجذوره المقدسة، فكان يستخدم لهذا الغرض الهيروغليفية وهي علامات تصويرية كان يفهمها كل المصريين كأداة لإيصال هذه الرسالة.

          تعد قبة الصخرة والحرم القدسي الشريف، حولها أبرز العمائر التي تحمل مضامين حضارية. يعود تشييد القبة إلى العصر الأموي، الذي شهد نزاعًا حضاريًا بين الدولة الأموية والدولة البيزنطية على السيطرة على العالم القديم. واتخذ هذا النزاع صورًا متعددة. منها تعريب طراز أوراق البردي التي كانت تصنع في مصر. وتعريب للنقود في إطار سياسة رسمها عبدالملك بن مروان الهدف منها إرضاء الشعور الديني والسياسي للمسلمين، ورغبته في إعادة حق ضرب النقود إلى الخلافة في شخص الخليفة كمظهر من مظاهر الملك والسلطان بعد أن انتزع حق ضرب النقود كثير من الولاة والثائرين فكان الإصلاح النقدي سببا مهمًا في القضاء على الفوضى السائدة تحقيقا للاستقرار السياسي. فضلا عن أن النقد العربي الخالص يعبر عن سيادة الدولة وخروجها من تحت عباءة النفوذ الاقتصادي البيزنطي، لذا اتجه عبدالملك إلى الاستقلال الاقتصادي بتعريب النقود، فضلا عما يتيحه هذا من توحيد النظام النقدي في دولة تمتد عبر مساحات شاسعة من الأراضي.

          اتجه عبدالملك بن مروان في إطار هذا المخطط الشامل إلى العمارة التي ترمز إلى سيادة الدولة واتجاهها الفكري، ففي القدس تبنى مشروعا ذا طابع سياسي ديني حضاري، يرتكز على الاهتمام بعمارة الحرم القدسي الشريف خاصة قبة الصخرة والمسجد الأقصى، لارتباط هذا الحرم بالعقيدة الإسلامية فهو أولى القبلتين، وفيه صلى الرسول [ بالأنبياء واليه كان إسراؤه ومنه كان معراجه. ولما كانت عمارة الحرم آنذاك بسيطة لا تتناسب مع ما حولها من كنائس، خاصة كنيسة القيامة المقدسة لدى المسيحيين، ومع ما قد تحدثه عمارة الكنائس في نفوس بعض المسلمين، ورغبة عبدالملك في إثبات الهوية الحضارية الجديدة للمدينة. تبنى مشروع عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى.

          ويلفت الانتباه من هذا المشروع قبة الصخرة، أبرز آثار الحرم، فهي تعد أول عمل معماري واعٍ لعظمته بل متباهٍ بها، انتهى من بنائها عام 72 هـ / 692 م. وهى تُرى من مسافات بعيدة، وهى مبنية فوق صخرة مقدسة، حولها ممران يدوران حولها بمسقط مثمن، شامخة في الهواء في مركز الحرم القدسي على تل من تلال القدس. وهذه القبة ذات التصميم الهندسي الذي يصل لحد الكمال والروعة كانت مزخرفة بالفسيفساء على كل سطوحها داخلاً وخارجًا، وكانت ومازالت تبهر الرائين حتى أن كثيرًا منهم لم يملكوا أنفسهم من إضفاء كل صفات البريق واللمعان عليها، مهملين في الوقت نفسه، للأسف، أن يخبرونا ماذا كانت تلك اللوحات الفسيفسائية تمثل، ولا نستطيع أن نحكم على موضوعات فسيفساء القبة حكمًا كليًا لأن جزءًا كبيرًا من الفسيفساء الأموية قد فقد، ولكننا نملك بعض الشواهد على هذه الموضوعات من فسيفساء الرواق المثمن الداخلي، يمكن عند ربطها بدقة عمارة القبة الانتهاء إلى الرمزية السياسية لها.

دلالات رمزية

          إننا هنا أمام تساؤلات عديدة تطرح نفسها هذا المبنى ورمزيته. إن التوجهات السياسية والإعلامية والعقدية تبرز في الآيات القرآنية المختارة بدقة، وفي تركيز وضع صور تيجان الملوك في الرواق حول القبة وبمواجهتها. فالنص القرآني يحتوي على كل الآيات التي تتكلم عن المسيح في موقعه الإسلامي المختار كنبي مرسل. والتيجان تبدو أشبه ما يكون بالتيجان الحقيقية للملوك المغلوبين، التي كان أباطرة الرومان والبيزنطيين يضعونها في معابدهم و كنائسهم كعلامات نصر ورمز إيمان بأفضلية معتقدهم. بالتالي يمكن هنا أن ننظر إلى هذين العنصرين الزخرفيين على أنهما بالنسبة لبناة قبة الصخرة وسيلتي دعاية لدينهم ولدولتهم المنتصرين، خاصة إذا تذكرنا أن قبة الصخرة قد بنيت في القدس التي كان أغلب سكانها المسيحيين مازالوا يدينون بالولاء لإمبراطور القسطنطينية البيزنطي، في وقت كانت الدولة الأموية فيه في خضم صراع مرير مع البيزنطيين في شمال بلاد الشام.

          فالقبة مبنى معماري ذو رمزية سياسية ينبئ في القدس عن رغبة الدولة الأموية في بث حضارة جديدة تعبر عن أتباع الدولة المقيمين في المدينة، ويوجه رسالة إلى الآخرين عن مدى قوة الدولة ومضمون رسالتها. وظلت قبة الصخرة بلونها الذهبي، رمزا لمدينة القدس، يعلوها الهلال الذي يوازي اتجاه القبلة. وعندما استولى الصليبيون على القدس نزعوا الهلال من فوق قبة الصخرة، وأقاموا مكانه صليبًا من الذهب. وعندما استرجع صلاح الدين القدس مرة أخرى سنة 583 هـ / 1187 م. تسلق بعض المسلمين القبة واقتلعوا الصليب، وأعادوا الهلال إلى مكانه. هكذا شكل الموقع الذي شيدت عليه قبة الصخرة جانبًا من الرمزية السياسية.

ضريح تاج محل

          كان الضريح معلمًا بارزًا من معالم السلطة السياسية ورمزيتها في العديد من مدن العالم الإسلامي وأبدع المعمار في تكوينه وزخرفته ليصبح أحد مفاخر السلطة، وبلغ هذا الأمر ذروته في ضريح تاج محل في الهند، يقع الضريح على الضفة اليسرى من نهر جمنا، وهو عبارة عن ضريح من النوع المعروف بأضرحة الحدائق. تتقدمه حديقة فخمة بها حوض ماء تنعكس فيه صورة المبنى نفسه.

          وعلى البعد وراء الضريح بناء آخر عبارة عن مسجد. ويتقدمه خان يستخدمه حاليًا بوابة ضخمة. والضريح مصفح بالمرمر الناصع البياض في حين أن البناءين أمامه وخلفه من الحجر الأحمر. وهذا يؤدي إلى إبراز الضريح بمرمره الأبيض. والضريح مشيد على مسطبة مربعة طول ضلعها حوالي 50 مترا يزخرفها وحدة مكررة من دخلات معقودة قليلة الغور ومسطحة من الداخل، وفي كل ركن من أركان المسطبة مئذنة. والضريح مقام وسط المسطبة. وهو بناء مشطوف الأركان، وفي كل شطف عقدان فارسيان ضخمان (مدببان) وفي كل من جانبي المدخل عقدان يتماشيان مع عقدي الأركان ويفصل بين العقود جميعًا أعمدة رشيقة مندمجة ترتفع إلى ما فوق سطح الضريح، وحجر المدخل عميق بعض الشيء ويؤدي إلى باب الضريح، وهو باب معقود وفوقه نافذة تكاد تساويه في الشكل والحجم. ويعلو البناء قبة بصلية ضخمة فوق رقبة طويلة. وفي أسفل القبة شريط من وحدات نباتية أشبه بشجيرات محورة تبدو كأن القبة تنبثق منها. وتحف برقبة القبة قباب أربعة تقوم على ثمانية عقود مفصصة ترتكز على دعائم، أما في الداخل فيوجد قبران من المرمر هما قبر شاه جهان وزوجته ممتاز محل. وسطح البناء من الداخل على هيئة قبة نصف كروية هي القبة الداخلية التي تعلوها القبة الخارجية البصلية. جمع تاج محل إذن بين الفخامة في المظهر والدقة في النسب المعمارية والجمال في العناصر الزخرفية.

          يعرف نموذج تاج محل بأضرحة الحدائق، وإن كان بناؤه ارتبط بوفاء شاه جهان لزوجته، إلا أنه ضريح سلطوي يعبر عن قوة السلطة واستقرارها في الهند، ومن أبرز نماذج هذه الأضرحة في الهند ضريح همايون في دلهي 1565 م. وهو إن كان أقل جمالاً من تاج محل إلا أنه يشبهه، ويشكل ضريح تاج محل قمة التطور نحو الكمال الفني والمعماري.

قبة آيا صوفيا

          يقودنا استخدام القبة في العمائر الضريحية، إلى لفت الانتباه إلى أن القبة كمفردة معمارية تغري بتحميلها بمدلول رمزي، ظهر هذا في صورة تحد حضاري قبله العثمانيون حينما أرادوا التفوق على آيا صوفيا، فعندما فتحت القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح دخلها ثم زار كنيسة آياصوفيا، وأمر بأن يؤذن فيها للصلاة إعلانا بجعلها المسجد الجامع للمدينة. وأعطى الفاتح حرية العبادة للديانات في المدينة عقب ذلك.

          ومنذ ذلك الحين مثلت قبة آيا صوفيا بضخامتها وارتفاعها الشاهق تحديًا حضاريًا للعثمانيين. أخذ المعماريون هذا التحدي مأخذ الجد. وكان هدفهم ليس تقليد آيا صوفيا بل التفوق عليها. ومن هذا المنطلق اتخذوا من القبة المركزية رمزا للدولة العثمانية والإسلام. حيث اعتبر المسجد هو الرمز الحي للإسلام الذي تسعى الدولة لنشره كدين، وتمثل القبة المركزية بالمسجد الدولة بينما تمثل القباب الأصغر الأقاليم والولايات التابعة لها. ويؤكد هذه الرمزية استخدام القبة كوسيلة رئيسية للتغطية قبل فتح القسطنطينية. وكانت القبة عند قدماء الأتراك تمثل السماء. ومن المحتمل في ضوء ذلك أن تكون القباب عندهم رمزا للسماء التي تغطي وتحمي الدولة خاصة مع ملاحظة أن الأعمدة والدعائم التي كانت تحملها يسجل عليها أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة الذين اعتبروا عند الصوفية أقطابًا يحملون أركان العالم.

          علقت قبة آيا صوفيا أذهان العثمانيين والأوربيين، خاصة مع التأثير الضخم الذي تركته كنيسة آيا صوفيا (هاجيا صوفيا) منذ إنشائها في القرن السادس الميلادي بكل فخامتها، على عمارة الكنائس في أوربا. وفي هذه الكنائس استخدمت القبة شبه الكروية بشكل تغلب عليه الرمزية. ولم يكن قطر قباب هذه الكنائس يتعدى العشرة أمتار، ورفعت على أعمدة عالية، وهى طريقة لم يستخدمها المعماريون العثمانيون.

          لقد حافظت القبة في أوربا على دلالتها الرمزية، ففي كنيسة «سانت بيتر» في روما كان إنشاؤها مشروعا يحمل مفهوما مثاليًا ونظريًا تصوره ليوناردو دافنشي في أول الأمر ثم قام برامانت بتطويره، ولكن الذي بناه ميشيل أنجلو الذي أضاف عليه المزيد من التحسينات الإنشائية. ولعل استمرار التنويع في تصميم القبة يوضح مدى رسوخ القبة كمفهوم رمزي في التقاليد الأوربية. بدءًا من استخدامها في الكنائس حتى بناء قاعات الاجتماعات في القرن العشرين.

          شاع في أوربا اختلاف الشكل الخارجي عن الداخلي للقبة. إذ شيدت القباب بصدفتين واحدة خارجية وأخرى داخلية. وأولى المعمار مطلق عنايته للشكل الخارجي، وهو ما يبين مدى رمزيتها في التعبير عن المبنى عن بعد. ويختلف المعمار العثماني عن الأوربي في ذلك، فهو يطبق حساب المثلثات للقباب شبه الكروية ذات الشكل الخارجي والداخلي الموحد مع تطوير تكاملها في ملامح الشكل الخارجي المركب والفراغ الداخلي، مما أوجد لديهم معالجة مكانية أصلية كاملة. جوهرها الإنشائي هو البساطة المتفردة في تاريخ طراز القباب. باستثناء معابد الآلهة الرومانية. وكذلك عناصر الأضرحة الإسلامية في الشرق.

          دأب الأتراك تبعًا لسيطرة فكرة آيا صوفيا على أذهانهم على المقارنة المعمارية ما بين تخطيط مسجد بايزيد وتخطيط آيا صوفيا. شيد مسجد بايزيد بإستانبول بين عامي 1501 و1506 م، على يد المهندس خير الدين، وبصرف النظر عن وجود قبة مركزية ونصفي قبة في المسجد، فإنه لا وجه لمقارنة أحد المبنيين بالآخر لا من حيث التخطيط ولا من حيث أسلوب البناء. والحقيقة أنهما يختلفان تمامًا، وكل منهما عالم مستقل بذاته. فمسجد بايزيد يمثل تطورا طبيعيا للعمارة العثمانية السابقة عليه. أما آيا صوفيا، فإنها وإن أثارت إعجاب المعماريين العثمانيين، إلا أن الأفكار التي أوحت بها إليهم كانت موجودة في أسالبيهم وفنون عمارتهم.

المعماري سنان

          استمر المعماريون في إستانبول في تطوير عمارة القباب، فشيد مسجد سليم الأول بقبة بلغ قطرها 24 مترا، وهي بذلك تمثل نجاحًا رائعًا من الناحية التقنية، إلا أنها تفتقد دفء الإبداع. فثقل القبة يقع على الجدران. وهى غير مرتفعة وهو ما عكس ضعفها وعدم تعبيرها عن قوة السلطة أو قوة عمارتها. وكان على العمارة العثمانية أن تنتظر سنان.

          ظفر عصر كل من السلطانين سليمان القانوني وسليم الثاني بالمعماري العظيم سنان. قام سنان في أول أعماله باستكشاف ما يمكن أن يعطيه الفراغ المتاح آخذا في الاعتبار استمرارية التقاليد المعمارية العثمانية التي ظهرت في أزنيك وبورسة وأدرنة. وتظهر أهم مراحل عبقرية سنان المعمارية من خلال ثلاثة آثار عظيمة هي: مسجد شهزادة ومسجد السليمانية بإستانبول والسليمية بأدرنة.

          كان بناء شهزادة بأمر من السلطان سليمان القانوني لسنان، وكان ذلك العام 1548م، واستغرق هذا العمل أربع سنوات، ونرى فيه المحاولة الأولى لسنان في معالجة مشكلة قباب آيا صوفيا وبايزيد، عندما ابتكر النموذج المثالي للمبنى ذي القبة المركزية وأنصاف القباب الأربعة حولها. وسنان بهذا العمل يكون قد حقق أحلام مهندسي النهضة.

          بنى سنان بعد ذلك مجمع السليمانية للسلطان سليمان القانوني على واحدة من ربوات إستانبول التي تطل على خليج القرن الذهبي المؤدي لمضيق القرن - البسفور. واستفاد من مدرجات هذه الربوة في تصميمه، قام التصور الذي وضعه سنان للمسجد على أن يكون وحدة مستقلة لها فناء ذو بوائك، وأن يعكس تخطيطه الداخلي مظهره الخارجي، وجعل قطر القبة الرئيسية بالمسجد 5, 26 متر وارتفاعها 53 مترًا، وهي أكثر قباب إستانبول ارتفاعا بعد آيا صوفيا وترتكز القبة على أربع دعامات ضخمة، ولزيادة اتساعها من ناحيتي المدخل والقبلة أضيف لهما نصفا قبة من كل ناحية بارتفاع 40 مترًا. ثم وسعت هاتان المنطقتان بحنيات ركنية إضافية. أما المساحتان الموجودتان إلى اليمين واليسار فقد غطيت كل منهما بخمس قباب. وبدلا من الرتابة التي قد تنجم عن استخدام قباب صغيرة متماثلة. فقد عمد سنان إلى ابتكار جذاب غير مألوف يتلخص في تبادل بين قبة صغيرة وأخرى كبيرة حسب المساحة التي تغطيها القبة. وكانت القبة الوسطى هي الأكبر وتتعادل في اتساعها مع القبة الركنية، وبهذا يكون قد تم نوع من التكامل بين منطقة وسط المسجد ومنطقة البلاطات الجانبية، ويكون المظهر الخارجى كشف بوضوح عن داخل المسجد بكل تفاصيله الدقيقة. وإذا كان الداخل إلى المسجد يمتلئ بإحساس باللانهائية، فما ذلك إلا نتيجة لارتفاع القبة الشاهق ولإبداعات الزخارف الخزفية التي تكسو القبة.

تذكرة البنيان

          أبدع سنان وهو في الثمانين من عمره، مسجد السليمية في أدرنة، واشتمل هذا المسجد على كل الابتكارات والتجديدات التي استحدثها سنان حتى ذلك الحين، بالإضافة إلى مستحدثات العمارة العثمانية، استغرق بناء هذا المسجد خمس سنوات من 1569 إلى 1574م. وهو يمثل الرمز الحي لمدينة أدرنة وللدولة العثمانية. أنشئ هذا المسجد بأمر من السلطان سليم الثاني. يظهر هذا الأثر متجليًا من بعيد بقبته الكبيرة ـ ذات قطر يبلغ 5ر31 متر - أي أكبر من قطر آيا صوفيا - وبمآذنه الأربع الرشيقة، التي تدور حول رقبة قبته المثمنة، وتتوافق ضخامة القبة وارتفاعها مع المساحة الكبيرة في الداخل، حتى لكأنها يمكن اعتبارها قمة التطور في بناء القباب في العالم بأسره. وجاء في «تذكرة البنيان» التي يقال إنها من إملاء سنان، وصف لهذه المنشأة بقوله.. «وترتفع المآذن الأربع عند أركان القبة الأربعة، ولكنها ليست غليظة كالبرج، مثلما هو الحال في مآذن أوج شرفلى. ولا يخفى بالطبع ما هناك من صعوبات تواجه بناء مآذن سامقة كمآذن السليمية، التي تضم كل منها ثلاثة سلالم منعزلة. وإذا كان قد شاع بين المهندسين المسيحيين القول بتفوقهم على المسلمين، لأنه لم تقم في العالم الإسلامي كله قبة تضارع أو تنافس آيا صوفيا، فقد حز في نفسي كثيرًا أن يقال إن بناء قبة بمثل ضخامة آيا صوفيا، ربما يكون من الأعمال العسيرة ولهذا قررت مستعينا بالله ـ إقامة هذا المسجد ـ في عهد السلطان سليم خان، جاعلاً قبته أوسع من آيا صوفيا بمقدار ست أذرع وأعمق منها بمقدار أربع أذرع»، وقبة السليمية محمولة على ثماني دعامات قوية، لها سنادات طائرة».

          هكذا أصبح سنان أستاذًا كبيرًا في بناء القباب وفي تنسيق المساحات، وعبقريًا باقتدار ونجاح في تصميم القباب المركزية التي كانت الأمل والمثل الأعلى عند معماري عصر النهضة في إيطاليا. وبراعة سنان أتت من المفهوم المعماري الذي انطلق منه، والذي يهدف إلى نسق بنائي سليم ومساير لمتطلبات حل مسائل الفراغ والحجم. ويبدو أن تصور سنان نابع من التجليات العضوية للعمليات المعمارية التي يتحكم المعماري في كل خطوة من خطواتها. ففي المساحات الداخلية الواسعة قد نتصور الأبدية في التعبير عن المنحنيات السماوية للقباب والعقود الكبيرة مقارنة بالتسطيح أو الامتدادات السطحية للحياة البشرية ممثلة في الخطوط الأفقية المستقيمة للأجزاء السفلية. وفي الواقع أن هذه الازدواجية أعلى وأسفل تلك الفراغات الضخمة هي التي توجد المضمون العاطفي في عمارة سنان.

قباب خضراء

          وإذا كان للقباب في بعض استخداماتها رمزية سياسية مباشرة كانت أم غير مباشرة، فقد استخدمت أيضًا للتعبير عن مقر الحكم أو العرش بصورة صريحة فقد كان يعلو قصر الإمارة في دمشق قبة خضراء أعطت القصر اسمه. كما قام الحجاج بتقليد سادته بإقامة قبة خضراء لدار الإمارة في واسط. وكان يعلو قاعة العرش أو الحكم بقصر الذهب في بغداد قبة كبيرة خضراء على رأسها تمثال فارس بيده رمح يعبر عن قوة الدولة وبطشها في مواجهة أعدائها.

          وفي سامراء تميزت الدار الخاصة بالخليفة المعتصم بجناح قاعة العرش المؤلف من قاعة مربعة مركزية مسقوفة بقبة.

          واستخدمت القبة الخضراء كذلك لتسقيف دار العدل في قلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة، التي شيدها الناصر محمد بن قلاوون لتكون مقرا لنظر المظالم ولاستقبال السفراء وكذلك للعرش المملوكي، ومقرًا للاحتفالات الرسمية، هكذا كان للقبة مدلول سلطوي رمزي منذ فترة مبكرة في تاريخ العمارة الإسلامية.

          استمر هذا النمط من التفكير في عصرنا هذا، فالملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل في مسجده الكبير، كان يخاطب الحس الديني الصوفي لدى أهل المغرب. واختياره أن يكون معمار مسجده مغربيًا يخاطب من خلاله الحس التاريخي لدى المواطن المغربي الذي يرى في فاس ومكناس والرباط مترادفات من هذا الفن هنا وهناك تذكره بأمجاد المغرب في العصور الماضية، فهو هنا يستنطق بصورة غير مباشرة التاريخ في وجدان المواطن المغربي، أما كبر المسجد فهو يجسّد الروح العربية في الزهو والافتخار وفي نفس الوقت يقيم الرهبة تجاه هذا الملك.

          إن استخدام العمارة في إثارة الرهبة أو للتدليل على العظمة والقوة أمر غير مستغرب ليومنا هذا، فمحطات التلفاز تقدم عناصر القوة المعمارية كدليل على الإنجاز الحضاري، هذا ما حرصت عليه ماليزيا في برجي بتروناس، بل إن تنظيم القاعدة حينما دمر برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، كان في حقيقة الأمر يهاجم الرأسمالية الأمريكية في أعظم صورها، وحين قامت مصر بإحياء مكتبة الإسكندرية كمشروع ثقافي مصري، أرادت أن ترسخ دورها الثقافي في الساحة الدولية، وأن تعيد بناء صورتها أمام العالم كدولة تؤمن بالتعددية الثقافية، مستغلة بذلك جذورًا تاريخية لها رواجها الدولي.

 

خالد عزب   
 




القبة مبنى معماري ذو رمزية سياسية ينبئ في القدس عن رغبة الدولة الأموية في توجيه رسالة عن مدى قوة الدولة









نموذج تاج محل في العمارة يعرف بأضرحة الحدائق





تاج محل.. بناء مشطوف الأركان كما نرى في الصورة





تصميم مميز للقبة الداخلية من جامع السليمية بأدرنة تصميم المعماري العبقري سنان





جامع السليمانية في استانبول