أصداء الحروب الصليبية في الفن والأدب الغربي

أصداء الحروب الصليبية في الفن والأدب الغربي
        

          خمدت نيران الحروب الصليبية ولم يتبق منها سوى رمادها ورائحة الدخان، وتلاشى خطر الدولة العثمانية على أوربا الشرقية والوسطى بعد أن مالت موازين القوى لصالح الغرب الأوربي في القرن الثامن عشر. وكانت النتيجة المباشرة لذلك على مستوى الفكر والثقافة أن تبنى الغرب نظرة أكثر استرخاء تجاه المسلمين من ناحية، ونظرة رومانسية وردية إلى العصور الوسطى من ناحية أخرى. وقد شملت هذه النظرة الرومانسية إلى العصور الوسطى الحروب الصليبية بطبيعة الحال. فقد أخذ الكتاب والأدباء والشعراء، والفنانون المسرحيون والموسيقيون، والفنانون التشكيليون، فضلاً عن الزعماء وكبار السياسيين، في الغرب في القرن التاسع عشر، يرون في هذه الحروب الظالمة تجليات الفروسية المسيحية المشتبكة في قتال بطولي شرس ضد العدو المسلم «الدخيل».

          لقد راجت في القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين صور وتصورات عن الحروب الصليبية شكلت المنظور الغربي الحديث عن المنطقة العربية، وعن العصور الوسطى أيضا.

          كانت هذه النظرة مزيجًا من محاولة التعرف على التاريخ والاستسلام لأوهام الأسطورة، وعلى الرغم من أن النظرة الغربية بشكل عام كانت مؤيدة للحروب فقد كتب إدوارد دانييل كلارك في كتابه «رحلات في بلاد أوربية مختلفة» الذي نشر سنة 1812م يقول: «إنه لخطأ شائع ما نفترضه من أن كل شيء همجي جاء من جانب المسلمين، وأن ننسب إلى المسيحيين في تلك الفترة رقيا وتحضرا أكثر مما كانوا عليه بالفعل». والواقع أن المسلمين، حسبما قال هذا الكاتب، كانوا أكثر استنارة وتحضرا من الذين غزوا ديارهم تحت راية الصليب، ويقول أيضا: «.... لم يكن هناك ما يفوق خيانة المسيحيين وسلوكهم المخزي، في أثناء تلك الحروب التي جرت في الأرض المقدسة إلا في القليل النادر...».

          بيد أن هذه الرؤية الاستثنائية لا تنفي الحقيقة القائلة إن الغرب عموما كان قد حول الحروب الصليبية إلى حدث وردي رومانسي تغلفه الأسطورة ويتوه في ضبابية الوهم، بل لقد تحول مصطلح «صليبي» إلى مصطلح يشي بالنبل والشهامة والعمل ضد الشر وهو المعني الذي لايزال الغرب يستخدمه حتى اليوم. فقد كتب المؤرخ والكاتب الفرنسي «شاتوبريان» في سنة 1811م كتابا بعنوان «رحلة من باريس إلى القدس» بعد زيارة الأراضي المقدسة تحت راية الصليب متقمصا دور واحد من الصليبيين وتم تعميده فارسا صليبيا وأقسم القسم الصليبي التقليدي الذي كان الصليبيون في القرن الحادي عشر والقرون التالية يقسمونه بالحج والدفاع عن الأماكن المقدسة ضد العدو! وكانت مراسم هذا الاحتفال الرمزي تتمثل في استخدام سيف جودفري البويوني (أول حاكم صليبي لمملكة بيت المقدس الصليبية بعد الاستيلاء عليها سنة 1099م) ومهمازه وملابسه. وفي هذا الكتاب هاجم شاتوبريان الذين شككوا في الجدارة الأخلاقية للحروب الصليبية. وقد كان هذا الكتاب أكثر الكتب التي كتبت عن فلسطين انتشارا في أوائل القرن التاسع عشر. وكان شاتوبريان قد نشأ على الحكايات التي تمجد فروسية الصليبيين والتي قرأتها له أمه وحكت له عن جده جودفري شاتوبريان الرابع الذي كان من الفرسان الصليبيين الذين صاحبوا لويس التاسع في حملته الفاشلة، وربما يفسر هذا ما ذكره هو بقوله: «... سافرنا تحت راية الصليب إلى القدس، وربما سأكون آخر فرنسي أترك بلدي في رحلة إلى الأرض المقدسة بالأفكار، والمشاعر، والأهداف التي كان الحاج الصليبي يحملها».

طقوس احتفالية

          ومن المثير أن هذا الاحتفال الرمزي صار من أهم عناصر الرحلة التي يقوم بها كبار الشخصيات الأوربية لزيارة فلسطين، فيستخدمون سيف جودفري البويوني، وسلسلته، ودرعه وتعقب ذلك وليمة فاخرة يدفع تكاليفها أولئك الفرسان الأدعياء الذين تم تكريسهم في تمثيلية كان يشاهدها العرب وهم جالسون في المقاهي القريبة يدخنون الشيشة ويحتسون المشروبات، دون أن يخطر ببالهم ما تنطوي عليه هذه الاحتفالات الغريبة بالنسبة لهم من مغزى ودلائل... وخطورة.

          كان من أشهر الذين قاموا بهذه الرحلة، ومارس طقوسها الاحتفالية الرمزية «بنيامين دزرائيلي» الذي صار فيما بعد رئيس وزراء إنجلترا. وقد قام برحلته سنة 1827م وهو في السابعة والعشرين من عمره. وزار مقابر الفرسان الصليبيين وأشهر المواقع في القدس. وقد كتب ثلاثية روائية عنوانها «إنجلترا الفتاة» كان الكتاب الثاني منها بعنوان «تنكرد» وعنوانه الفرعي «الصليبي الجديد» (1874م)، وهى رواية بطلها شاب صليبي نبيل اشتهر بأنه أنقذ حياة ريتشارد قلب الأسد في أثناء الحملة الصليبية الثالثة. وفى هذه الرواية يتبنى دزرائيلي فكرة نبل الحروب الصليبية وشرف مقاصدها، ويقول دزرائيلى في كلمات رنينها الأسى والرثاء : «قبل أكثر من ستة قرون كانت إنجلترا قد أرسلت فارسا، وزهرة نبلائها وشعبها لإنقاذ القدس من أولئك الذين اعتبروهم كفارا، والآن بدلا من الحملة الصليبية الثالثة يبددون طاقاتهم الزائدة في بناء السكك الحديدية».

          وقد قام بهذه الرحلة أيضا قيصر ألمانيا فيلهلم ورتبها له توماس كوك في سنة 1898م. وزار القيصر الألماني المستعمرة التي كانت قد بنيت منذ وقت قريب في القدس لفرسان المعبد الألمان. وقد تصور نفسه واحدا من الصليبيين، أو وريثهم على الأقل، وكان يريد دخول المدينة على صهوة حصانه تقليدا للقادة الصليبيين وهو يرتدي زيا احتفاليا تشبها بهم.

لورنس وتوين وجيمس فين

          وكان لورنس، الذي اشتهر باسم لورنس العرب، واعيا تماما بالماضي الصليبي، فقد كان بحثه في التخرج عن القلاع الصليبية في بلاد الشام وفلسطين، كما كان أحد أجداده وهو «روبرت لورنس» قد صحب ريتشارد قلب الأسد في الحملة الصليبية الثالثة. وكتب لورنس في كتابه «أعمدة الحكمة السبعة» أنه استلهم أفكاره الإستراتيجية من الفتح الإسلامي لبلاد الشام ومن الحروب الصليبية.

          وممن زاروا المنطقة الكاتب الأمريكي الشهير مارك توين سنة 1869م الذي زار ميدان معركة حطين، وكان معجبا بسيف جودفري البويوني وقال: «.. إنه يثير داخل الإنسان ذكرى الحروب المقدسة التي كانت نائمة في الذهن على مر السنين... ويحدثه عن بلدوين، وتنكرد وصلاح الدين، وريتشارد قلب الأسد العظيم».

          ومن ناحية أخرى، تكشف مذكرات القنصل البريطاني في القدس جيمس فين (1845-1863م) عن المنافسات التي كانت تجري بين القناصل الأوربيين في الأرض المقدسة والتي كان بعضها يرجع إلى ما تم زمن الحروب الصليبية. وكان قنصل فرنسا يتيه عجبا على الباقين لأن أسلافه كانوا أبرز الصليبيين (بطرس الناسك، ولويس التاسع، وأوربان الثاني الذي دعا إلى الحروب الصليبية، بل مجمع كليرمون نفسه الذي عقد على الأرض الفرنسية). وقد ذكرت زوجة هذا القنصل أن الأمير إدوارد، الذي صار فيما بعد الملك إدوارد السابع، قد نصب خيمته سنة 1862م تحت شجرة الصنوبر الضخمة التي كان جودفري البويوني قد أقام معسكره تحتها أثناء الحملة الصليبية الأولى. وكان الأمير الإنجليزي أول شخصية ملكية إنجليزية تزور فلسطين منذ الحملة الصليبية التي كان اللورد إدوارد قد قام بها سنة1270م.

روايات صليبية

          وقد شهد العصر الفيكتوري انجذابا هائلا نحو الحروب الصليبية وأفكار الفروسية في العصور الوسطى وانعكس في عدد كبير من الروايات «التاريخية»، إذ كرس «ديجبي» روايتين من رباعيته التي تحمل عنوان «حجر الشرف العريض» لاثنين من الأبطال الصليبيين ودافع عن الحروب الصليبية بحيث اتخذ مصطلح صليبي معنى جديدا، فالشهامة والمروءة صارتا صفتين صليبيتين. وصار شعراء ذلك العصر يمتدحون من يرون أنهم من أهل الشهامة والمروءة بأنهم صليبيون يستحقون أن يعيشوا في تلك الأيام الخوالي التي دارت فيها الحروب الصليبية وحيث كانت الشجاعة تمتزج بالتدين (وهو أمر لا نجد له سندا فيما كتبه المؤرخون الأوربيون الذين كانوا شهود عيان على هذه الحروب على أية حال). ومن الواضح أن بلاد أوربا شهدت الكثير من الفخر والمباهاة بالانتساب إلى واحد أو آخر من الأسلاف الذين شاركوا في الحروب الصليبية، ففي فرنسا إبان ثلاثينيات القرن التاسع عشر كانت هناك منافسة شرسة بين العائلات لوضع أسلحة أسلافهم ومخلفاتهم في قاعات الحروب الصليبية بقصر فرساي. والطريف أن بعض هذه العائلات لجأت إلى تزوير الوثائق لوضع أسماء عائلاتهم ضمن أسماء أولئك الذين جلبوا المجد لفرنسا بمشاركتهم في الحروب الصليبية.

          وفى الروايات التاريخية كان الروائيون ينطقون أبطالهم بعبارات مقتبسة من الصليبيين، وهو ما يبدو واضحا من كتابات لورنس ووالتر سكوت...وغيرهما. والمثير أن هذه الأجواء الصليبية التي سادت صفحات الأصناف الأدبية قد أدت ببعض المهووسين دينيا إلى محاولة القيام بحملة صليبية إنجليزية في القرن التاسع عشر، ولكن المحاولة باءت بالفشل لأسباب تتعلق بالتجنيد والتمويل.

          وكان سير والتر سكوت أكثر كتاب الرواية التاريخية شعبية في القرن التاسع عشر, وقد كتب عددا من الروايات حول الحروب الصليبية، كانت رواية «إيفانهو» (1819م) أكثرها رواجا وشعبية. وقد ألهمت عددا كبيرا من الموسيقيين وكتاب الدراما والمسرح والفنانين التشكيليين، إذ ألف روسيني أوبرا مستوحاة من رواية «إيفانهو» وتحمل الاسم نفسه، وحضر والتر سكوت عرضها في باريس سنة 1826م، كذلك ألف السير آرثر سولليفان أوبرا مستوحاة من رواية «إيفانهو» التي كتبها والتر سكوت. لقد كانت روايات والتر سكوت التي دارت حول موضوع الحروب الصليبية ملهمة لأعمال موسيقية ولوحات وأعمال تشكيلية عديدة. كذلك كانت هناك أوبرات ولوحات قامت على رواية «التعويذة» التي كتبها سكوت والتي تدور أحداثها زمن الحملة الصليبية الثالثة، والشخصيتان المحوريتان فيها هما صلاح الدين وريتشارد. لقد استولت الحروب الصليبية على خيال كتاب المسرح والروائيين والشعراء من أمثال تشارلس كينجسلي الذي كتب رواية جمعت بين الشعر والنثر بعنوان «مأساة القديس»؛ والشاعر ووردزورث الذى كتب أربع قصائد من النوع المعروف باسم السونيت Sonnet عن الحروب الصليبية.

الفنون والموسيقى

          وعلى الرغم من أن القرن التاسع عشر شهد، أيضا, بداية البحث العلمي الأوربي في تاريخ الحروب الصليبية، فإن الأعمال الأدبية والفنية التي استوحت الحروب الصليبية هي التي استولت على خيال الناس وعقولهم. وفى مجال الموسيقى كانت الحروب الصليبية ملهما للفنانين الذين ألفوا أعمالا كثيرة حولها، فقد ألف روسيني أوبرا بعنوان «أرميد», وعرضت لأول مرة في ستة 1817م، وألف برامز كانتاتا (أي قصة درامية موسيقية) بعنوان «رينالدو»، كما ألف فيردي أوبرا أرولدوا التي عرضت للمرة الأولى سنة 1857م.

          وهناك لوحة للألماني كارل فردريخ ليسينج بعنوان «يقظة الصليبي» يرجع تاريخها لسنة 1826م تكشف عن أن هذا الفنان كان يستلهم سكوت على نحو غير مباشر، والحقيقة أن الحروب الصليبية كانت الموضوع المفضل لهذا الفنان ولمدرسة دوسلدورف. كما أن الفنان الأمريكي جورج إينيس في لوحته التي أسماها «زحف الصليبيين» يرسم لهم صورة تغلفها الرومانسية، كما أن رساما آخر هو وليم سكوت رسم لوحته «العودة من حملة صليبية طويلة» ليصور بشكل رومانسي صليبيا يعود إلى أسرته بعد طول غياب وهى لا تكاد تتعرف عليه.

          وعلى المسرح تجسدت قصة الحروب الصليبية كثيرا، ففي إنجلترا القرن التاسع عشر كان المسرح المدرج في لندن مكان العروض المسرحية، وفى سنة 1810م قدم آستلي مسرحية بعنوان «فارس الدم الأحمر» استمر عرضها مائة وخمسا وسبعين ليلة وحققت أرباحا كبيرة. وفى سنة 1835م عرضت مسرحية بعنوان «حصار القدس» كان عرضها يستغرق المساء بطوله، وفي سنة 1843م عرضت مسرحية «ريتشارد وصلاح الدين»، ولم تكن هذه هي كل المسرحيات بطبيعة الحال. بيد أن بعض الباحثين يرون أن المسرح الأوربي في القرن التاسع عشر لم يقدم الكثير عن موضوع الحروب الصليبية على الرغم من الحقيقة القائلة إن عددا لا بأس به من نصوص الأوبرا كانت الأساس الذي قامت عليه نصوص مسرحية كثيرة تتحدث عن الحروب الصليبية: مثل مسرحية «حكاية الحملة الصليبية الأولى» للألماني أوجست فون كوتزبي، ومسرحية «الصليبيون» لآرثر جونز. ومن المهم أن نشير إلى أن السمة الرومانسية والمزاجية كانت الغالبة في هذه المسرحيات.

الحروب الصليبية في الفن التشكيلي

          كان للفن التشكيلي أيضا نصيبه من أصداء الحروب الصليبية التي جاءت تسعى إليه عبر القرون مثقلة بالخيال الوردي والأساطير، فهناك كثير من اللوحات التي رسمها فنانو القرن التاسع عشر حول هذا الموضوع، وتكشف عن نوع من الولع الخيالي بالحروب الصليبية. وقد رسم الفنان الفرنسى ليون كوجنييه Leon Cogniet لوحة بعنوان Rebecca And Sir Brian De Bois Guilbert وهى الآن ضمن مجموعة والاس بمتحف لندن.

          ولما كان البطل الظاهر بالنسبة لإنجلترا هو ريتشارد قلب الأسد، كان طبيعيا أن يكون موضوعا لكثير من اللوحات المرسومة، كما خلده تمثال قائم حاليا قبالة مبنى البرلمان في لندن. وفى فرنسا كان الملك لويس التاسع هو البطل المقابل، كما أن قاعات الحروب الصليبية Salles De Croisades في قصر فرساي بباريس تمثل تاريخا تصويريا للمشاركة الفرنسية في الحروب الصليبية. وهناك مثال تشكيلي آخر يتمثل في لوحة ديلاكروا التي تحمل عنوان «دخول الصليبيين القسطنطينية». وفى إيطاليا أشاعت قصيدة بعنوان «اللمبارديون في الحملة الصليبية الأولى» مشاعر الزهو لدى الإيطاليين بإنجازات أسلافهم في الحروب الصليبية، وانعكس ذلك الزهو في عدد كبير من اللوحات والأعمال التشكيلية ذات المضمون التاريخي.

أصداء الحروب الصليبية في القرن العشرين

          ثم جاء القرن العشرون ليكشف عن استمرار أصداء الحروب الصليبية واستلهامها في شتى مجالات الحياة: سياسة وأدبا وفنا. وقد استغل الساسة، كدأبهم دائما، الحروب الصليبية في خطابهم السياسي والعسكري على حد سواء. فقد هرب بعض ذوي العقول الحساسة من ويلات الحرب العالمية الأولى وهى المجزرة الكبرى الأولى في تاريخ البشرية ليحتموا بنظرة رومانسية إلى الحروب الصليبية رأت فيها حملة نبيلة جاءت دفاعا عن الحرية! وكان ذلك إسقاطا مباشرا على النزعة العسكرية الألمانية. وقد استغل لويد جورج، رئيس الوزراء البريطاني، هذه النظرة الرومانسية في خطاباته الحماسية الموجهة للجنود البريطانيين على الجبهة، وتم نشر مجموعة من خطبه فيما بين 1915م 1918م.

          وفى مجال الأدب نشر أوردي F. W. Orde Ward ديوان أشعار وطنية بعنوان «آخر الحملات الصليبية»، كما كتبت كاترين تينان، التي خدم ولداها في الحرب، قصيدة تقول فيها إن الحرب كانت «الحرب الصليبية العظمى». وتحدث شعراء آخرون كثيرون عن الحرب العالمية الأولى بمصطلحات الحروب الصليبية. ونشرت فيفيان جلبرت كتابا عنوانه «حكاية الحملة الصليبية الأخيرة مع أللنبي إلى القدس» وكرسته «لأمهات جميع الأولاد الذين حاربوا من أجل حرية الأرض المقدسة»، وهذه الرواية ترى في حملة أللنبي العسكرية في الحرب العالمية الأولى ومعركته ضد الأتراك العثمانيين «حملة صليبية نبيلة من أجل الحرية»!

          وتوضح بعض النصب التذكارية عن الحرب العالمية الأولى مدى استغلال صورة الحروب الصليبية، ففي سلدمير بيوركشاير، موطن مارك سايكس الذي كان طرفا في اتفاقية «سايكس بيكو» الشهيرة (التي تم فيها تقسيم العالم العربي بين إنجلترا وفرنسا) أقيم نصب تذكاري على شكل صليب إليانور، وعندما مات الرجل سنة 1616م، وضع له تمثال يصوره على هيئة صليبي يرتدي درعه ويحمل سيفه.

          وفي الحرب العالمية الثانية عادت أصداء الحروب الصليبية بقوة ، فقد نشر الجنرال دوايت أيزنهاور، الذى صار رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد، تقريره عن الحرب سنة 1948م تحت عنوان «الحملة الصليبية في أوربا». وفى مجال الرواية نشر ستيفن هايمس رواية سنة 1950م بعنوان «الصليبيون» وصف فيها الحرب العالمية الثانية بأنها «... حملة صليبية مقدسة وضرورية لإيقاف الطاغية...».

التصور الشعبي

          إن وجود الحروب الصليبية في شكلها الرومانسي الوردي الجديد والمختلق في الفن والأدب في الغرب في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين يكشف بصورة حاسمة عن أن التصور الشعبي في الغرب عن الحروب الصليبية مثقل بالخيال ولا تربطه بالحقيقة التاريخية سوى رابطة واهنة واهية للغاية، فقد أطلق الأدباء والفنانون الموسيقيون والتشكيليون والشعراء العنان لخيالاتهم لكي تمرح في مروج التاريخ بلا قيد... وزرعوا في وجدان الناس هناك مفاهيم رومانسية وردية عن الشرق العجيب وعن الحروب الصليبية التي كان بينها وبين النبل والشرف خصام شديد في الواقع التاريخي، وخلقت الزهو والمباهاة بأبطال تلك الحروب الظالمة... ولكن الإشادة بالحروب الصليبية وأبطالها قامت على أسس تتعلق بالحاضر أكثر مما تنتمي إلى حقيقة ما حدث في الماضي. وتكشف دراسة التصورات الغربية عن الحروب الصليبية في النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى الآن، عن المزيد من أسباب الانحياز الغربي ضد العرب... ولكن هذه قصة أخرى.

---------------------------------

          ونحن صَبَحنا عامراً، إذ تمرّسَتْ
                                        عُلالة َ أرمَاحٍ وضَرباً مذكَّرا
          بكل رقاق الشفرتين مهند
                                        ولَدْنٍ من الخطّيّ قد طُرّ أسمرا
          عجبت لهم إذ يخنقون نفوسهم
                                        ومقتلُهم تحتَ الوغى كان أعذرا
          يشدُّ الحليمُ منهمُ عَقدَ حبلِه
                                        ألا إنما يأتي الذي كان حُذّرا

عروة بن الورد

 قاسم عبده قاسم