من المكتبة العربية: الفن والغرابة

من المكتبة العربية: الفن والغرابة
        

          ربما تكون قضية الغربة والاغتراب والتغريب قد تمت مناقشتها من قبل العديد من الحقول المعرفية كعلمي النفس والاجتماع، إضافة إلى الفلسفة، لذا تبدو مناقشة هذه القضية في علاقتها بالفن موضوعًا جديدًا في اللغة العربية، خاصة أنه ينطلق من الحقل الفني الجمالي ليتقاطع مع جميع الحقول المعرفية الأخرى السابقة، لكن يظل الكتاب بحثًا أصيلا في علم الجمال يحلق بالقارئ في عوالم الغرابة بالفن، فالفن هو ميدان الغريب والغرابة والغربة، وكلها مفاهيم متقاربة وإن كان المؤلف يضع فوارق بين دلالات كل منها.

          يناقش المؤلف هذا الموضوع على ثلاثة مستويات، الأول مستوى الإبداع الفني لدى الفنان، الثاني تجليه في الأعمال الفنية المختلفة بأنواعها، والثالث لدى المتلقي أو مستقبل العمل، هذه المستويات حاضرة سواء في النصف الأول من الكتاب الذي خصصه المؤلف لتحديد المفهوم وأبعاده أو في النصف الثاني الذي تم تخصيصه لمناقشة المفهوم وتجلياته في الفنون المختلفة.

الغرابة، الغربة، والاغتراب

          الغرابة كما يحددها المؤلف هي شعور غير مكتمل، يوجد في تلك الفجوة الموجودة بين الإدراك والمعرفة، وهو شعور مثير للاهتمام لأنه كامن غير معلن، ملتبس غير واضح، نسبي متغير، ويقع في مرحلة وسطى بين المعلوم والمجهول، الغياب والحضور. والغرابة مثيرة للاضطراب لأنها مرتبطة بالتوجس واحتمال وقوع أحداث مفاجئة أو تغيرات في مسار الحدث الجاري.

          ثمة مظاهر عدة لمفهوم الغرابة في التاريخ يرصدها المؤلف، فهو عند أفلاطون وأوغسطين على علاقة قوية بالفضول المعرفي بالبحث عن الغريب وغير الجميل أو المنفر في الحياة. كما ارتبط المفهوم في العصور الوسطى بفكرة الجليل، وقد استمر هذا الارتباط عند بيرك وكانط في القرن الثامن عشر.

          إن المؤلف لا يقدم تحليلا لمفهوم الغرابة فقط بل لاشتقاقاته اللغوية أيضًا، كالغربة Strangement التي تشير في جوهرها إلى غربة عن المكان أو في المكان، والاغتراب Alienation الذي يشير إلى حالة من الشعور بأن المرء غريب عن ذاته، والتغريب Estrangement الذي هو حيلة فنية تهدف إلى نزع الألفة عن المألوف. والفن بالتالي غريب لأنه يكشف الحجب عن الواقع، ولأنه كذلك يمتلك القدرة الخاصة على الإيهام.

الجمال والجلال

          أحد مستويات الغرابة في الفن هو ذلك الانفعال الذي ينتاب المتلقي عندما يواجه بعض الأعمال الفنية الغريبة. فالغرابة، هنا، إحساس جمالي يرتبط بالدهشة والارتياب والشك والخوف.. ويمكن القول بأن المؤلف هنا في تعريفه للغرابة يربط بين الجميل والجليل، وهو الربط الذي قام به كانط وهيجل من قبل، فالشعور بالجمال يختلف عن الشعور بالجلال، الأول شعور ممتع يتخلله إعجاب وانجذاب غير مصحوب بخوف أو فزع، والثاني شعور ممتع لكنه ممتزج بالرهبة والشعور بعظمة الشيء الذي يكون المتلقي في حضوره، تمامًا كالفرق بين الوقوف أمام مبنى معماري جميل والوقوف أما أهرامات الجيزة، الأول شعور بالجمال والثاني بالجلال.

          وبالفعل فقد توقف المؤلف في الفصل الثاني الخاص بنظريات الغرابة أمام مصطلح الجليل Sublime طويلا، ليقوم برصد الامتداد التاريخي للمصطلح منذ القرن الأول الميلادي عند لونجينوس مرورًا ببيرك وكانط وهيجل وشوبنهاور وحتى معناه عند ليوتار ودريدا. لكن ليس شرطًا أن يكون الغريب جليلاً، فقد يكون الشعور بالغرابة مرتبطًا بأسلوب تعبيري مختلف غير مألوف أو حتى بمضمون جديد. منطقة جديدة تثير الدهشة لدى المتلقي لا الرهبة والخوف، وكل هذا يندرج أيضًا تحت مفهوم الغرابة واللامألوف.

غرابة التحريف وغرابة المكان

          ينتقل المؤلف في الفصل الثالث لمناقشة الغرابة في الفن، فالأدب والفن كانا من أبرز الوسائل التي تجسد من خلالها ذلك الجزء الغريب من الذات، وقد ارتبط هذا التجسيد بفكرة التحريف والإيهام التي تم اعتمادها في الفن الحديث. فظهرت في الفنون التشكيلية، على سبيل المثال، الأعناق الطويلة والسيقان القصيرة أو الطويلة، والأنوف بالغة الضخامة، والأسنان بالغة الحدة، وإلى غير ذلك من التحريفات، كما اهتم الإنسان بتجسيد المكان من خلال فكرة المنظور وغيرها، وظهرت التكوينات التي تمزج بين الإنسان والحيوان والنبات.

          ثمة تحليل شاعري للمكان، يقترب من تحليل باشلار في شاعرية المكان، يقدمه المؤلف في الفصل الثالث المعنون بـ«الغرابة والمكان»، فالمكان مشحون بالمعنى والإحساس إنه ليس بالمكان الهندسي، المليء بالنقاط البيانية في نظام من ثلاثة أبعاد، ولا أعني المكان الديكارتي، بل مكان مليء بالواحات المضيافة والمخاطر التي نتفاداها، ومليء بالموانع المألوفة، والأماكن المُوحشة، وبنقاط اللقاء والوداع، فكل مكان يحمل معنى بالنسبة لنا، وهذا المعنى مرابض فيه ولسنا نحن الذين نخلعه عليه، ولهذا فإنه يخلق لنا عالمًا مبهمًا أو كئيبًا.. مليئًا بالشجن أو مشحونًا بالتوتر، وللسبب نفسه نعرف لماذا يختار الشعراء والمصورون أماكن بعينها دون غيرها باعتبارها أماكن «موحية».. وهذا ما يطلق عليه البعض الإحساس بالمكان أي القدرة التي يمتلكها مكان معين على إحداث معانٍ مشتركة واستحضارها، لكنها تتسم بالخصوصية في الوقت نفسه.

الغريب في الفنون

          في النصف الثاني من الكتاب يبدأ المؤلف في الانتقال إلى الجانب التطبيقي محاولاً الكشف عن مفهوم الغرابة ودلالاته كما تجلت في الفنون المختلفة. وتحت عنوان «الغرابة التكنولوجية» يناقش المؤلف الخداع والسحر البصري المعتمد على الحيل التكنولوجية، وهي مسألة مرتبطة بتحريك المخزون النفسي لدى الفرد من الصور والأخيلة المرتبطة بالخوف والظلام والموت. يركز المؤلف في الفصل التالي «الغرابة في الفنون التشكيلية» على فكرة اللعب بالظلال خاصة في فن الرسم، فالظل ظاهرة لها قوتها المستقلة الخاصة المميزة لها، لها قوة محركة خاصة بها، تتحرك في المنطقة الواقعة بين الوعي واللاوعي، وتثير قوى الخيال والإحياء. وقد اعتمد المؤلف في هذا الفصل بصورة كبيرة على التحليلات الفرويدية لمفاهيم الغرابة والقرين والظل..إلخ.

          أما فن المسرح، الذي هو موضوع الفصل السابع، فيذهب المؤلف إلى أن ثمة روحًا شبحية في هذا الفن، ثمة غيابًا حاضرًا، وحضورًا غائبًا، ثمة قوة للتكرار، للغريب الذي يكون حضوره مثيرا للشك والدهشة، الغريب الموجود في داخلنا. من هنا يناقش المؤلف ظهور الشبح والقرين على المسرح، وما استدعاه ذلك من ظهور أدوات مسرحية جديدة كالعرائس والدمى والأقنعة من أجل تجسيدها. وثمة اعتماد كبير من المؤلف على مفهوم الاختلاف والتكرار، وهو مفهوم ما بعد حداثي، يشير إلى أن كل عودة هي عودة للمختلف، فالشيء لا يجتر ذاته أبدا، ونحن لا ننزل النهر نفسه مرتين لأن مياهه تتغير باستمرار كما قال هيراقليطس من قبل.

          وتبدو السينما أيضًا من الفنون التي ارتبطت منذ نشأتها بالغرابة، لأنها ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالتطور التقني والإيهام، إذ إن السينما تعتمد في الأساس على فكرة الإيهام بالحركة، كما أنها تمتلك القدرة على استحضار الخيالات البصرية من أعماق النفس، وتقدمها لنا بشكل يثير الاهتمام، شكل ممتع أو مخيف، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك أفلام الرعب التي يتوقف المؤلف بالتحليل عند بعضها في الفصل الخاص بـ«الغرابة والسينما».

          وفي الفصل الأخير «فنانون وغرباء» ينتقل المؤلف من الأعمال الفنية إلى مبدعيها، فيحلل تجارب بعض الفنانين من أمثال كليمت، وفان جوخ، وفرنسيس بيكون ومينوخ، وما انطوت عليه حياتهم من غرابة تستدعي التأمل، وتجسدت بصورة من الصور في أعمالهم الفنية.

          هذه بعض الأفكار المتناثرة التي يحويها كتاب الغرابة والفن، فهو من المؤلفات التي لا يمكن اختصارها، لأنه مليء بالتفاصيل والأمثلة التطبيقية العديدة. ويمكن القول أخيرا إن هذا الكتاب كتب بحس فني مرهف فعباراته سلسة متدفقة تجعل القارئ شغوفا بفعل القراءة. وإذا كان هذا الأمر متعلقًا بالناحية الأسلوبية فإن موضوع الكتاب جديد تماما في اللغة العربية، وربما في اللغات الأخرى أيضًا، وقد تمت مناقشته من جوانب عديدة وافية, بالإضافة إلى أن الكتاب به كم هائل من المعلومات الموظفة كلها لخدمة موضوع الدراسة، ما يجعله في النهاية مرجعًا مهمًا في تاريخ العديد من الفنون.
-----------------------------------
* أكاديمي من مصر.
** مدرس علم الجمال - كلية الآداب - جامعة القاهرة.

----------------------------------

          ما بالثّراءِ يسُودُ كلُّ مُسوَّدٍ
                                        مُثرٍ ولكن بالفعال يسودُ
          بل لا أُكاثِرُ صاحبي في يُسرهِ
                                        وأصُدُّ إذ في عيشِهِ تَصْريد
          فإذا غنيت فإن جاري نيلُه
                                        من نائلي ومُيسِّري معهودُ
          وإذا افتقرْتُ، فلن أُرَى متخشَّعاً
                                        لأخي غنى معروفه مكدودُ

عروة بن الورد

 تأليف: د. شاكر عبد الحميد*