أحمد زويل: سر الجزيء الذي يكون كل شيء

 أحمد زويل: سر الجزيء الذي يكون كل شيء
        

لم يستطع أحد أن يرى الذرات. أو يحدد سرعتها أو يراها وهي تتمدد لتكون المواد حتى جاء أحمد زويل.

         (لو دُمرت المعرفة العلمية كلها ولم تترك للأجيال اللاحقة سوى جملة واحدة, فما هي الجملة التي يمكن أن تحتوي في بضع كلمات على معظم المعلومات)؟

         طرح هذا السؤال على نفسه ريتشارد فاينمان, الذي يعد من أعظم علماء الفيزياء في القرن العشرين وأجاب عنه بالشكل التالي: (كل الأشياء مصنوعة من ذرات, والذرات جسيمات صغيرة تدور في حركة دائمة منجذبة إحداها نحو الأخرى عندما تكون على مسافة قليلة من بعضها, لكنها تتنافر عند ضغط إحداها باتجاه الأخرى).

         تجاذب وتنافر الذرات هو الذي ينشئ كل مادة في الكون من النجوم حتى البشر. وعدد الذرات وطريقة اندماجها هما اللذان يحددان كل مادة في الطبيعة من الهواء حتى الصخور. سؤال واحد ظل يقلق (سندباد علمي) الذي يحمل في رأسه أزمان العرب كلها من عصر السومريين والفراعنة حتى الوقت الراهن هو: (كم الوقت اللازم للأجيال التي لا تملك سوى هذه الجملة حتى تكتشف من جديد كيف تتجاذب وتتنافر الذرات)؟

         المشكلة أن الذرات لا تُرى بالعين المجردة, لأنها بالغة الصغر. يبلغ قطر الذرة الواحدة جزءا واحدا من مليون جزء من المليمتر. مع ذلك حدس العلماء منذ عصر الإغريق أن الذرات هي الوحدات الأساسية لبناء كل مادة. لكن العلم عمل أكثر من ألفي عام ليكتشف أن الذرات ينبغي أن تتحدد في جزيئات لتكوين المواد المختلفة في الطبيعة. جزيء الماء يتكون من اثنين من ذرات الهيدروجين وذرة أوكسجين واحدة, وجزيء ملح الطعام يتكون من ذرة صوديوم وذرة كالسيوم. واستطاع العلم في القرن العشرين الذي يُدعى (عصر الذرة) أن يفجر الذرة ويطلق الطاقة الجبارة الكامنة داخلها, إلا أن أحداً لم يستطع أن يقيس السرعة التي تتحد فيها الذرات, حتى حقق ذلك في نهاية عقد الثمانينيات من القرن العشرين عالم مصري شاب اسمه أحمد زويل.

         وعندما التقى سندباد علمي بأحمد زويل عرف لماذا احتاج الأمر إلى أكثر من ألفي عام لرؤية ميلاد الجزيء الذي تتكون منه كل مادة في الكون, وكيف استطاع أحمد زويل, خريج جامعة الإسكندرية أن يرى لأول مرة في تاريخ العلم لحظة ميلاد الجزيء؟

مأساة هاملت

         حدث ذلك عندما ألقى أحمد زويل في عام 1990 المحاضرة التذكارية السنوية في (الرابطة الملكية) في لندن. كان الحضور يضم أكثر من مائة عالم بريطاني يمثلون النخبة الأرستقراطية العلمية في بريطانيا, بينهم اللورد بورتر واللورد دانتن والسير ببرد جفري دلكولسن, وثلاثتهم حاصل على جائزة نوبل. وعندما دخل أحمد زويل قاعة المحاضرات خفق له قلبان عربيان بشدة لا مثيل لهما ربما في تاريخ (الرابطة الملكية) التي شهدت بعض أهم اللحظات في تاريخ العلوم منذ إنشائها في القرن السابع عشر. أحدهما كان قلب الطبيبة السورية ديما الفحام عروس أحمد زويل, والآخر قلب (سندباد علمي). أضاءت صورة الشمس المشعة المشهورة في الجداريات المصرية شاشة القاعة, فيما كان زويل يشع بوسامته وأناقته (الإفرنجية) الساحرة من منصة المحاضرات في جوف القاعة إلى المدرجات التي ترتفع حتى السقف تقريبا. وعندما استهل زويل محاضرته بالقول إنه لا يستطيع أن يضاهي بالظرف نجم السينما عمر الشريف ضج الحضور بالضحك بمن فيهم عروسه ديما الفحام. أعلى الضحكات تعالت من صدر سندباد المرعوب, الذي كان على وشك السقوط من مقعده خوفاً على العالم العربي الشاب من عيون لوردات العلوم.

         وازدانت القاعة التاريخية بحبور مسرحي عندما قارن زويل لحظة التفاعل الكيماوي التي تندمج خلالها الذرات ويتكون الجزيء بمسرحية (هاملت) المشهورة للكاتب الإنجليزي وليام شكسبير. (من المستحيل معرفة ما يجري بين المشهد الأول والأخير للمسرحية لو ضغطت أحداث مسرحية هاملت بالقدر الهائل نفسه الذي تضغط فيه عملية التفاعل الكيماوي. كل ما سيراه مشاهدو مسرحية (هاملت) هو مشهد البداية, يتعرفون خلاله على أشخاص المسرحية, ثم تسقط الستارة لتنفتح عن المشهد الأخير, حيث الجثث متناثرة ولم يبق على قيد الحياة سوى بضعة أشخاص) هذا كل ما كان يعرفه العلم قبل أحمد زويل عن لحظة التفاعل الكيماوي التي تتحكم بجميع العمليات في الطبيعة من تكون الماء إلى استنشاق الهواء. كان العلم يجهل ما يحدث خلال تلك اللحظة, ويستدل عليها بما ينتج عنها مواد كيماوية, أو من خلال درس نوع الضوء الذي تطلقه الذرات أو سرعة حركة الروابط الذرية الكيماوية أثناء عملية التفاعل. وحاول علماء الكيمياء التوصل إلى تقنية جديدة لرصد الضوء الممتص أو المنبعث أو المتناثر خلال الوضع الانتقالي.

         لكن جميع التقنيات عجزت عن متابعة العملية في الوقت الفعلي لحدوثها. لم يكن العلم يعرف ماذا يحدث للرابطة الكيماوية التي تكون جزيئات كل مادة. لم يكن يعلم كيف تتحطم هذه الرابطة وبعد أن تتحطم, ولماذا يتبع التفاعل الكيماوي هذا المسار المحدد لإنتاج نوع واحد من الجزيء وليس غيره, وما الوقت الفعلي لحدوث عملية التحطم والاقتران مرة أخرى لإنتاج جزيء جديد. وسلم العلماء طيلة نحو نصف قرن بصورة تقريبية وضعها عام 1937 العالمان ماكس بورن وروبرت اوبنهايمر للحظة التفاعل واتخذوها أساساً لكل ما يجري في الكيمياء من نظريات وتطبيقات وصناعات. أطلق اسم (الحالة الانتقالية) على اللحظة المجهولة التي تتفكك خلالها الروابط الذرية للجزيء وتتزاوج مع روابط جزيء آخر لولادة جزئ جديد. وتعتبر لحظة التفاعل أساس جميع النشاطات الكيماوية داخل جسم الإنسان والطبيعة. ولم يكن علماء الكيمياء التطبيقية يتوقعون رؤيتها على الإطلاق بسبب سرعتها الخارقة. فالضوء يقطع خلال ثانية واحدة المسافة بين الأرض والقمر, أما عملية التفاعل الكيماوي فتستغرق ما يعادل الزمن الذي يقطع الضوء خلاله واحداً في المائة من سمك شعرة إنسان.

هوليوود زويل

         كيف استطاع أحمد زويل أن يصور هذه اللحظة ويقيسها لأول مرة في تاريخ العلم, ويصحح بذلك مفاهيم رئيسية تتعلق بفهم وقياس لحظة التفاعل؟

         تعالى الضحك عندما اعتذر زويل لزملائه العلماء بأن محاضرة سلفه في معهد (كاليفورنيا للتكنولوجيا) البروفيسور لينوس بولنغ كانت مكرسة لتطور الكيمياء خلال المائة السنة القادمة, فيما نطاق محاضرته متواضع جداً لا تتعدى طبقاً لعنوانها (تصوير لحظة واحدة فقط من ألف مليار من الثانية).

         وعرض زويل فيلماً يصور لحظة التفاعل الكيماوي. وتعالى الضحك مرة أخرى عندما اعتذر بأنه وتلامذته تأثروا في إخراج الفيلم بهوليوود المجاورة لمدينة باسادينا حيث يقع معهده في مدينة باسادينا. وشرح زويل كيف صمم جهاز الليزر, وهو لم يكن يعرف شيئا عنه قبل وصوله إلى الولايات المتحدة لدراسة الدكتوراه, وكيف استخدم الليزر مثل كاميرا لتصوير لحظة التفاعل التي تعجز حتى الساعات الذرية عن متابعتها. واستعان زويل بأنواع جديدة من الليزر فائقة القصر ابتكرت في الثمانينيات لبناء (الكاميرا) الجزيئية التي ترصد حركة التفاعل في الوقت الفعلي لحدوثه. ومكنته تقنية الحزم الجزيئية من عزل التفاعلات داخل حيز مفرغ, فيما أتاح الليزر فائق القصر القدرة على رصد حركة التفاعل فورياً وتصوير حركة الجزيئات خلال انفصال ذراتها ومرورها في الوضع الانتقالي لتكوين جزيئات جديدة, أي رؤية (الكيمياء). تقاس سرعة حركة التفاعل الكيماوي بوحدة زمنية بالغة القصر تدعى (فيمتوثانية), وهي تعادل ثانية واحدة من 32 مليون سنة. (كما لو كنا نشاهد فيلماً يستغرق 32 مليون سنة لرؤية ثانية واحدة منه), حسب تعبير زويل.

         بعد محاضرة لندن بشهر تقريباً وجد سندباد علمي نفسه يقف في مختبر زويل في باسادينا أمام مشهد تلك اللحظة الخارقة: (غابة) من موشورات وعدسات موضوعة على منضدة طولها 20 قدماً. تخترق الموشورات حزم من أشعة ليزر حمراء وخضراء موجهة نحو علبة ألمنيوم مفرغة من الهواء تحتوي على الجزيئات الكيماوية. وبعد تفجير أشعة الليزر القصيرة جداً والتي تحدث التفاعل الكيماوي, يجري انفجار آخر قصير جداً يستغرق بضعة ملايين من المليار من الثانية. وتقوم الجزيئات التي تحطمت أثناء ذلك بامتصاص الضوء من حزمة أشعة الليزر الثانية, وتعود تطلقه من جديد بموجة مختلفة الطول. ويتكرر إطلاق الليزر على فترات متناهية القصر للتوصل إلى تسجيل ما يشبه اللقطات السينمائية لعملية التفاعل الكيماوي كلها.

كيمياء زويل

         يحتل مختبر زويل الذي يعتبر من معالم السياحة العلمية في كاليفورنيا خمسة سراديب, تزدحم بأجهزة الليزر تتابع حركة التفاعلات في لقطات تشبه التصوير السينمائي. وكان سندباد مرتبكا كالعادة ما بين العثور على زاوية لالتقاط صورة لما يجري أمامه ومتابعة الكلام العلمي المعقد لزويل. استغل زويل فرصة التصوير ليقرب الموضوع لسندباد ويشرح له كيف استفاد في تصوير الجزيئات التي لا ترى بالعين من الأسس نفسها التي استخدمها المصورة الإنجليزي الفوتوغرافي مويبرج في سنة 1872 لالتقاط الصورة المشهورة لحركة الحصان أثناء جريه. أثبتت تلك الصورة المشهودة في تاريخ العلم والفن أن الحصان يرتفع بأقدامه الأربع عن الأرض في لحظة من لحظات الجري. استخدم مويبرج 12 كاميرا سرعة فتحات عدساتها 0.002 ثانية, وضع الكاميرات على مسافة نصف متر الواحدة من الأخرى على امتداد خط ركض الحصان. وربطت فتحات العدسات في شكل تنفتح فيه مع مرور الحصان أمامها مباشرة. وأمكن بهذه الطريقة تصوير اللحظة في لقطات عدة يكشف الجمع بينها عن الحركة الفعلية.

         يقارن الكاتب العلمي المشهور إيزاك أزيموف التقاط لحظة التفاعل بالدقة في تصويب دبوس نحو فقاعة لا يزيد حجمها عن أربعة من المليار من البوصة, وهو الحجم التقديري للجزيء. هذا سبب منح أحمد زويل جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999. فالذرات هي أصغر وحدة من المادة تساهم في عملية التفاعل الكيماوي. جزيئات كل مادة تتكون من ذرات معدودة. وتتفاعل جزيئات المادة كيماوياً عندما تتحطم روابط الذرات التي تتكون منها. وقد رصد زويل أبسط تفاعلات يمكن درسها في المختبر والتي تتضمن تحطم الروابط الكيماوية لجزيء يحتوي على ذرتين فحسب. عملية كهذه تحتاج إلى طاقة. وبعض الجزيئات تنقسم إلى جزيئين أو تنحل عند امتصاصها طاقة ضوئية. جزئ يوديد الصوديوم مثلاً ينشأ عن اتحاد ذرة صوديوم واحدة مع ذرة يود وعندما يمتص هذا الجزيء الأشعة الضوئية المناسبة (يهتاج) أحد الإلكترونات التي تربط الجزيء كيماوياً فيتحطم الجزيء.

         (كيمياء الفيمتو) هو العلم الجديد الذي أوجده زويل وقالت عنه هيئة جائزة نوبل إنه أحدث ثورة في علم الكيمياء, فيما يسمى الليزر الجديد الذي ابتكره (فيمتوليزر). وارتعشت عضلات جسم (سندباد علمي) عندما التفت نحوه أحمد زويل وهما يغادران المختبر على الدراجة الهوائية وهمس قائلا: (كيمياء الفيمتو تتيح تصميم قوانين العمليات الكيماوية وابتكار مواد وطرق لا تعرفها الطبيعة ستغير وجه الصناعات الكيماوية). في تلك اللحظة (السحرية) قريباً من سواحل المحيط الهادي شعر (سندباد علمي) أن أحمد زويل هو عالم الكيمياء العربي جابر بن حيان عاد من جديد ليحقق حلمه في (زحزحة الأشياء عن مواضعها وإعادة تنظيم المادة من جديد وخلق أشياء لم تعرفها الطبيعة).

         في عام 1989 انتخب زويل, وهو في عمر 43 عضوا في الأكاديمية القومية للعلوم في الولايات المتحدة وفي ذلك العام نفسه منح جائزة الملك فيصل وجائزة هاريسون هاو, وكلتاهما من الجوائز الممهدة لجائزة نوبل. وقضى (سندباد علمي) نحو عشر سنوات يرصد مكان زويل كلما اقترب موعد الإعلان عن منح جوائز نوبل. انتظار طويل مفروش بعشرات الجوائز العلمية العالمية, كانت أصعبها جائزة معهد وولف الإسرائيلي. سمع (سندباد علمي) النبأ من وكالات الأنباء وهو في لندن واتصل هاتفيا بمكتب زويل في باسادينا. أخبرته مساعدة زويل أنه في القاهرة وأعطته رقم هاتف الفندق الذي يحل فيه. وعندما زف سندباد النبأ تساءل زويل بصوت بعيد عما إذا كان عليه أن يقبل الجائزة أو يرفضها (ما رأيك)؟ أجاب سندباد من دون تفكير وعلى الفور (إذا كانت الجائزة هي الثمن للحصول على نوبل فاقبلها رجاء.. اقبلها). وعندما أعاد سماعة الهاتف إلى مكانها فكر سندباد أن أحمد زويل الذي صمم جميع تلك الموشورات المعقدة لتصوير لحظة التفاعل قادر على تجاوز المطبات السياسية في طريق جائزة نوبل. مع ذلك شعر سندباد بالحاجة لاستشارة أصدقاء زويل. أول وآخر واحد تحدث إليه كان هو مصطفى السيد عضو الأكاديمية القومية للعلوم في الولايات المتحدة الذي تخرج من جامعة عين شمس في القاهرة.تذكر سندباد أن السيد أخبره عندما التقى به أول مرة في مكتبه في جامعة كاليفورنيا في لوس انجليس إنه يدين لجامعته الأم بتكوينه العلمي الأساسي. وحتى في أبحاثه العلمية تابع السيد الموضوع الذي قد يفتح لمصر أبواب المستقبل. فأبحاثه حول عملية التركيب الضوئي تتيح الفرصة لابتكار أجهزة تنتج الطاقة ذاتياً من الشمس, كما تفعل النباتات. وعندما سأل سندباد السيد عن النصيحة التي يمكن أن يقدمها لزويل حول الجائزة الإسرائيلية ضحك السيـد قائلا باللهجة المصرية (أنا قلت له خُد فلوسهم يا أحمد.. خُدْ فلوسهم)!

         في الحساب الزمني يعتبر زويل الذي يشغل منذ عام 1982 كرسي أستاذ الفيزياء الكيماوية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك) من أفراد ما يسمى بجيل النكسة. فقد تخرج عام 1967 في جامعة الإسكندرية. لكن في الحساب الروحي يبدو بعيدا جدا عن نبرة التشاؤم والاستسلام الحزين التي تسود تلك الأجيال العربية. وفي لحظة مرح في منزل زويل وهو يحمل ابنه نبيل قال زويل لسندباد: (أنا شخص متفائل جداً. وعندما تبدو الأمور ميئوسا منها تماما يزداد حماسي لها)! واعترف زويل بتواضع بعامل الحظ قائلاً (كثير من الأشياء تتوقف على أن تكون في المكان الملائم مع الأشخاص الملائمين). وفكرت بعد حصوله على جائزة نوبل أنه سيحتاج إلى كثير من التفاؤل والحظ حتى يحقق حلمه الكبير بإنشاء أول جامعة عربية ليس للتدريس وتخريج الطلاب, بل لإجراء البحوث العلمية وإعداد العلماء. ولن تكون المهمة صعبة على مصري وضع وهو طفل في السابعة من العمر يافطة على باب حجرته في المنزل مكتوبا عليها (الدكتور أحمد زويل).

 

محمد عارف   
 
  




د. أحمد زويل