من المكتبة العربية: «القاهرة .. أو زمن البدايات»

من المكتبة العربية: «القاهرة .. أو زمن البدايات»
        

          «أكتب على سرير غرفة النوم قليلة الإضاءة بحيث لا يسعني أن أرى الحروف تبكي على الورقة، تذكّرت أن الكثير من معارك التاريخ الفاصلة دارت في ظلام دامس وكذلك المكابرات والمكائد».. هكذا يقول الشاعر العماني سيف الرحبي في متن كتابه «القاهرة.. أو زمن البدايات» الصادر عن دار الفرقد بسورية بالتعاون مع النادي الثقافي بمسقط، متتبعًا مزيجًا من الشعرية والرهافة واللغة السردية التي تقتفي أثر ذاكرة الرحبي في تجربة حياته بالقاهرة لثماني سنوات في السبعينيات، ثم زياراته المتتابعة للمكان القاهرة - الذي يجسد جزءًا رئيسيًا من ذاكرته وتكوينه وربما هويته.

          وبين الذكريات ترتسم لوحة تجريدية للقاهرة بين زمنين، أولهما «زمن الثورة والمشاريع والأحلام، زمن الحشود والجماعات التي لا يجد الفرد موطئًا لقدم إلا تحت رايتها واسمها وإطارها، زمن الالتحام بين الشارع والنظام محمولين على بهاء الحلم السعيد نفسه». وثانيهما الزمن المنعطف الذي تغلي كل عناصره وحيواته في مرجل الثورة الكبير، على امتداد الساحة العربية لتعيد وحدة الهوية الممزقة، وعلى مستوى العالم بأكمله، حيث الأمم المضطهدة يوحدها حلم العدالة والتحرر ضد عدو بالغ الوضوح ومطلق الشر»، وصولاً إلى أسئلة يطرحها الرحبي عما آلت إليه الأمور من خيبات وهزائم وترديات في المنطقة العربية كلها.

          الكتاب يتنقل برشاقة بين الأحياء القاهرية وخصوصا حي الدقي الذي آلفه سيف الرحبي، حيث كان سكنه الأول عندما أقام مع زميل دراسة عماني طرده من السكن حين توقفت المنحة الشهرية التي كانت تصله للإعاشة، وظل يحوم حول الحي نفسه في تلك الفترة، للسكن فيه، بل ولسنوات طويلة حتى قرر أن يشتري بيتا في زمن لاحق في الشارع نفسه الذي عرف فيه ما يسميه أجمل ذكريات العمر.

          يرسم الكتاب صورًا عدة للشوارع من الدقي إلى وسط البلد، ومن الأوبرا إلى الزمالك، وغيرها، وللبيوت، للنزهات مع أصدقاء، للشوارع والأجواء القاهرية في ذلك الزمن. كما تتناثر وجوه عدة..حبيبات، أصدقاء، نماذج من الشخصيات المصرية العادية، حارس عمارة، سيدة تنظف البيت، وغيرهم، يعبرون الذاكرة والنص لأنهم على ما يبدو وكما يراهم سيف «في رحيل دائم يرحلون فجأة تاركين مرارة الصدمة. ثمة شرط قدري صارم يندفع ضد المشاعر والعواطف الانسانية، هذا الشرط هو الذي قُدَّ منه الغياب والتلاشي».

          وبين الوجوه الكثيرة العديدة التي يذكرها عبورًا، هناك بعض الوجوه التي يتوقف عندها، ويستدعيها ويعيد تأمل تجربتها في الحياة والإبداع على السواء، خصوصًا الشاعر المصري الراحل أمل دنقل، وعلي قنديل الذي رحل في منتصف السبعينيات، والكاتب الفلسطيني الراحل غالب هلسا. يحكي عنهم وعلاقته الروحية بكل منهم وعن القاهرة بهم وما تعنيه لكل منهم.

          ثمة لمسة من الرهافة التي تشمل هذا النص بروحه الخاصة، عبر اللغة التي يستخدم فيها سيف الرحبي ضمير المتكلم عادة، وضمير الغائب في بعض الأحيان تدليلاً ربما على النأي الذي تراه الذاكرة أحيانًا للذات في زمن آخر بعيد، وربما لأن السيرة أحيانًا تشبه المرايا، نرى فيها ما نود أن نتحدث عنه كأنه ذات تنفصل عنا بشكل ما.

          إضافة إلى المستوى الشعري لهذه اللغة التي يطوعها سيف لخلجات الروح أو لرهافة البشر والمدينة وطراوة الذكرى، أو حتى بالشعر المحض حين يقوم بدوره في سد بعض فجوات النص أو الذاكرة، إضافة الى النصوص الأخيرة في الكتاب التي جاءت كقصائد تستكمل سيرة سيف الرحبي عن القاهرة.
------------------------------------
* شاعر من عمان ورئيس تحرير مجلة «نزوى».

 

تأليف: سيف الرحبي*