سوريا .. آفاق لسياحة حضارية أنور الياسين تصوير: فهد الكوح

سوريا .. آفاق لسياحة حضارية

سوريا.. ذلك المفرق العربي بين الصحراء والبحر، وبين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، كانت ولم تزل ساحة لتفاعل الثقافات، ومعرضا لإبداع التضاريس، من فيحاء القلب دمشق إلى عروس الصحراء تدمر، ومن وردة البحر اللاذقية إلى الشهباء حلب.. مضينا في غلالة من عطر الماضي وأريج الحاضر نستطلع، فنطالع امتزاج الزمان بالمكان، وتوحي إلينا هذه المطالعة بأسئلة عن صناعة حضارية تمتلك سوريا كل مقوماتها، تلك هي السياحة الثقافية، وهكذا وجدنا أنفسنا وتساؤلاتنا في القلب السوري الرحيب، لم يضن علينا بالإجابات أحد حتى رئيس الوزراء الذي آثرنا أن يكون حديثه خاتمة حسنة للمطاف الجميل في سوريا، فلقد كان هذا الاستطلاع محطات عند مفارق الزمان وألوان الأماكن، ووقفات أمام البشر، والأثر.

ما السر في ألفة الأماكن؟ ولماذا نحس في بعضها وكأن حضنا يتلقفنا فلا نستشعر غربة ولا نحس تجهما؟ ذلك هو السؤال الأول الذي تولده في النفس لقيا بعض العواصم والمدن، سواء للمرة الأولى أو كلما تكرر اللقاء، ولقد كان اللقاء أليفا مع دمشق التي وصلنا إليها قرب الضحى، هل كانت الألفة كامنة في تلك المودة التي غمرتنا بها سوريا منذ لامست أقدامنا أرض المطار، ومنذ وجدنا فى استقبالنا مندوبي وزارة السياحة ورئاسة الوزراء، أم أن الألفة كانت في وجوه الناس وعطر الروح العربية، وكلمة الترحيب السورية الحلوة "أهلين "، أم أنها في نسائم الفيحاء؟ ذلك النوع من الأسئلة يشبه مناجاة النفس ومن ثم فالإجابة تكمن فيما تراه العين وتسمعه الأذن، وفيما تحفظه الذاكرة، لتتكون الرؤية، وإنها لرؤية دمشقية بل رؤية يصح انطباقها على كل ركن سوري زرناه.

دمشق.. الدار المسقية

لا شك في أن الشعور بالوحشة يتولد في الأماكن التي هجرها نبض الحياة، ومهما بقيت جدرانها شامخة فإنها تبعث على الرهبة حتى وإن خالطها الإجلال والشعور بعظمة الأثر، من هنا فإن الشعور بالألفة مع دمشق يجد أسسه في أنها "أقدم مدينة في العالم ظلت عامرة ومأهولة باستمرار" وكل زيارة لمعلم من معالمها القديمة تجعلك تقف على حقيقة توشك أن تكون ثابتة التكرار، وهي أن هذه الأماكن لم ينقطع عنها نبض الحياة رغم تقلب الزمان، وتغير ساكنيها، ومن ثم تجد رائحة الماضى في عطر الحاضر وتجد في الملامح المعاصرة عراقة توصلك إلى بهاء القديم.

ففي سوق دمشق قرب الجامع الأموي يمكنك أن تمسك بملامح عشرة آلاف سنة من تاريخ الإنسانية في مساحة صغيرة تطوف بها في زمن محدود، فتجد العمارة الإسلامية تقوم على حجارة من معبدآرامي قديم، وبمحاذاتها قوس روماني ترفعه أعمدة عتيقة ضخمة، ستجد بقايا من الزخارف البيزنطية بجوار قباب أيوبية ومملوكية وعثمانية.

وفي السوق القديم الذى تصل إليه قدماك بعد خطوات قليلة في ظلال الأبنية العتيقة وعلى الأرض المبلطة بالحجارة، ستجد حركة البيع والشراء يختلط فيها القديم والجديد، حتى الملابس، فلسوف تجد بين المشاة الذين يرتدون الملابس العصرية شيوخا يمضون على مهل مرتدين السراويل أو " الشراويل " والعمائم الصغيرة المحبوكة على طرابيش خفيفة.

دمشق التي تتعدد أسماؤها فهي الفيحاء، أو جلق أو لؤلؤة الشرق "كما سماها الإمبراطور جوليان "، دمشق هذه أو "دامسكي " كما كانت تسمى في ألواح مملكة "ايبلا" كانت موجودة في الألف الثالث قبل الميلاد كحاضرة مزدهرة، كما أن الوثائق الفرعونية القديمة ذكرتها باسم "دمشقا" بعد ذلك برزت دمشق في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد كمركز للمملكة الآرامية يحمل اسم "دار ميسيق " أي "الدار المسقية" وهي مسقية حقا، طيبة سقياها، منذ ذلك الزمن البعيد وحتى يومنا هذا، فيكفي أن تفتح صنبور المياه العادية وتملأ كوبك في ذروة الصيف، فتشرب هنيئا مياها عذبة البرودة والصفاء، وستعرف إن سألت - كما سألنا مرافقنا- أنها مياه عين "الفيجة" التي تتدفق من ينابيع الجبال الصافية التي تشرئب رائعة خضراء في ريف دمشق.

عاصمة الأمويين

دمشق.. أو الدار المسقية هذه، لم ينقطع عنها نبض الحياة رغم العراق تعاقب العهود عليها ووقوعها تحت السيطرة اليونانية والرومانية والبيزنطية، بل كانت شأن حواجز الدنيا الكبرى قادرة على تحجيم غزاتها، وتحويلهم إلى مجرد أركان في جنبات بنيانها الممتد في عمق الزمن ورحابة المكان، حتى لقد أذعن الرومان لإرادة العظمة في دمشق التاريخ، لتكون أولى المدن العشرة " الديكابوليس " الأكثر أهمية في الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف، ولم يتوقف الإبداع الدمشقي رغم جثوم الرومان على انفاس المدينة، فلقد أنجبت على سبيل المثال "أبولودور الدمشقي " أعظم معماري في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، وهو مصمم عمود "تراجان " في روما والجسر المدهش الذي ما زال قائما على نهر الدانوب. ومن آثار هذا العهد الروماني مازالت هناك بعض الأعمدة الكورتيتية الضخمة ذات التيجان المزخرفة، التي رأيناها تنتصب شاهقة في الباحة المؤدية إلى الباب الغربي للجامع الأموي. جاء الرومان وذهبوا تاركين بعض العمارة، وجاء البيزنطيون وانقشعوا مخلفين العديد من الكنائس والأديرة التى حافظت عليها روح التسامح في دمشق العريقة، لكن المجد الحقيقي لهذه العاصمة العربية التي لم تنقطع عروبتها رغم عهود السيطرة الوافدة، كان في قيامها عاصمة للدولة العربية الأولى أيام الأمويين، فاتصل إشعاع هذه العاصمة الجديدة بألق العاصمة القديمة للمملكة الآرامية، وهي عربية في جديدها وقديمها، فلقد كان الآراميون عربا شماليين ويتكلمون اللغة العربية الشمالية التي تسمى اليوم بالسريانية.

ومنذ صارت دمشق عاصمة الأمويين وهي القلب المشع للدولة العربية الإسلامية، ولعل هذا يفسر الحس العروبي القوي الذي تلمسه داخل سوريا في عناية أهلها باللغة العربية، وفي الأسماء التي تلقاك في كل مكان لتدل على الشوارع والحدائق والميادين في دمشق المعاصرة: "ساحة الأمويين، شارع المتنبي، باب الفرج، باب السلام، ابن العباس، الحميدية، الكندي " وغيرها كثير، فالعروبة ليست شعارا فارغا من المعنى في سوريا، إنها تاريخ ممتد ينبع من الماضي ويصب في الحاضر ويتوجه نحو المستقبل بكل زخم هذا التراث.

إن التراث الذي جرت في نهره مياه شتى ظل محافظا على طابعه الذي يواجهه مباشرة عند زيارتنا للمتحف الوطني في دمشق، والذي يعد من بين أشهر متاحف العالم تنظيما وإلماما بالحضارة التي تعاقبت على الأرض السورية، ونظرة واحدة إلى واجهة المتحف يمكن أن تقول الكثير، فهي واجهة موجزة لكنها تعطي انطباعا متراميا عن جماليات الفن العربي الإسلامي، فالشرفات. والأقواس والعقود التي تكونها محلاة بالمقرنصات والنقوش المؤلفة من زخارف نباتية وأخرى هندسية تنسجم مع بعضها البعض، وتعبر عن فكرة اللانهائية في تكرارها وتواصل الخطوط إلى ما لا نهاية، ويلخص لنا الأستاذ بشير محمد زهدي مدير هذا الصرح تاريخ المبنى وتاريخ مقتنياته فيقول إنه كان واحدا من عدة قصور أموية رائعة العمارة، فالعرب المسلمون اعتبروا العمارة مرآة الحضارة ومجمع الفنون فأبدعوا أجمل المباني الدينية كالجامع الأموي وجامع قبة الصخرة، وغيرهما، وأبدعوا أجمل القصور مثل قصر الحيرة الشرقى وقصر الحيرة الغربي وقصر الرصافة، ومن سوء الحظ أن التتار بعد زحفهم ووصولهم إلى سوريا قضوا على هذه القصور ومنها قصر الحيرة الغربي عام 1259 "وهو القصر الذي أقيم مكانه المتحف الوطني" وقد كانت الأنقاض في الأرض، وعندما اكتشفت أعاد الفنانون إقامة هذه الواجهة التي تشكل مدخل المتحف الوطني، ويضم المتحف الوطني آثارا جمعت من كل أنحاء سوريا، وتوزعت على خمسة أقسام، واحد لفترة ما قبل التاريخ وبه نحو خمسة آلاف قطعة، وآخر للآثار الشرقية القديمة وبه سبعة آلاف قطعة، وثالث للاثار الكلاسيكية وبه ما يزيد على 150 ألف قطعة، ورابع للآثار العربية الإسلامية وبه حوالي 100 ألف قطعة، وخامس للفن الحديث مما تشتريه وزارة الثقافة من الفنانين السوريين المعاصرين، فكأن المتحف جرعة مركزة تعطي مجمل التاريخ السوري من وجهة نظر إبداعية لمن يريد من الدارسين وأيا كانت تخصصاتهم، منذ نشوء الحضارة على الأرض السورية وحتى يومنا، وهي فترة تقدر بمليون سنة، وتتطرق- بطبيعة موقع سوريا الوسطى- إلى تاريخ ما يجاورها، فعلى سبيل المثال كان طريق الحرير يأتي من الصين إلى الخليج، ومن الخليح إلى تدمر، وهذا ينعكس على محتويات المتحف التي تخص هذه الفترة، ولقد لفت نظرنا قسم يضم مجموعات من أقدم النقود التي ظهرت في الوطن العربي، يقول مدير المتحف بشير محمد زهدي وهو أحد الباحثين في هذا المجال: "إن هناك اهتماما خاصا بنقود تدمر، والنقود الدمشقية التي ترجع إلى عصر كليوباترا، وكذلك نقود بصرى التي لها أهمية خاصة حيث كانت بصرى منطلقا للقوافل ".

لكن الذي لفت نظرنا بحق في هذا المتحف شيئان أولتهما المجسمات القديمة عناية خاصة هما البيت والشجرة، فقد رأينا مجسما من الطين لبيت يرجع تاريخه إلى 3000 سنة قبل الميلاد، وقد اكتشف في مدينة "ماري " العربية الأموية القديمة، كما رأينا قطعا صغيرة تمثل الشجرة، وفسر مرافقنا هذا الاهتمام بأن المهندس القديم لم يكن يعرف الورق لذلك كان يلجأ إلى مجسمات الطين لتصوير مشاريعه، أما الشجرة فهي ذات أهمية قصوى بالنسبة للعربي فهي تعطيه الظل، وتدل على الطريق، وهي في البادية شىء مهم جدا حتى أن أحد الدارسين قد اعتبر الاحتفال بالشجرة تقليدا شرقيا قديما، وما الاحتفال بشجرة عيد الميلاد إلا تقليد أخذه الغرب عن أصول شرقية قديمة، وقد وقفنا في نهاية تطوافنا أمام إناء يصور عليه الفنان القديم إنسانا يزرع شجرة، وعندما كنا نودع المتحف الوطني كان الانطباع الأخير هو تلك الواجهة العربية البديعة الزاخرة من عطايا الشجر بورق بديع وفروع تتواصل إلى مالا نهاية، فكأن المتحف الوطني يوحي إلينا ونحن نتركه بفكرة التواصل التي تميز التاريخ الذي يعيش في الحاضر على الأرض السورية، وفي القلب السوري: دمشق.

جبل يطل على التاريخ

إن التاريخ الماثل فى الحاضر الدمشقي، ستجده نابضا تحت ناظريك اينما توجهت، وفي كل إطلالة عامة على المدينة التي تستطيع أن تحيط بها كاملة عندما ترقى مدارج جبل قاسيون الذي تنام في حضنه دمشق ممتدة بين سفحه ومروج الغوطة التي يلوح حزامها الأخضر محيطا بالمدينة عند أطرافها البعيدة، من قمة قاسيون سترى التاريخ مآذن وقبابا ومنائر وسقوفا قرميدية، في رحاب المدينة المغمورة بالضوء، أما قاسيون نفسه فسيبدو لك خلفية شامخة للوحة أخرى يتمازج فيها الماضي مع الحاضر إن أنت نظرت إليه من قلب المدينة، ففي النهار وعندما كنا نمر في سوق الصالحية، قادمين من قلب المدينة، وعلى الممشى الأنيق المبلط بين ضفتي المحلات العصرية البراقة، حيث يضج السوق بالحركة وبالحسن الشامي، كان قاسيون هناك أمامنا، تصعد المشاهد إليه بادئة من الواجهات البراقة التي تعرض آخر صيحات "الموضة". ثم الممشى الزاخر بالبشر، فخضرة حديقة الخالدين، ثم مسجد الشيخ محيي الدين "ابن عربي "، ثم تتعاقب البيوت الصغيرة الأليفة على مدارج الجبل حتى قمته، أما في الليل فإن قاسيون يتحول كما رأته عيوننا إلى مشهد بديع إذ يبدو جبلا من الأضواء يتعلق بمعجزة ما في سماء الليل، وما هذه الأضواء الملونة إلا ألوان الغرف التي ينعكس عليها ضوء المصابيح الداخلية للبيوت التي تغطي سطح الجبل.

من موقفنا ذلك في سوق الصالحية كنا نرى بأبصارنا الحاضر الأنيق لدمشق المعاصرة، بينما كانت بصائرنا لا تغيب عنها ملامح التاريخ الزاهر الذي يكتنزه ثرى هذه البقعة، فالصالحية منطقة جرى تعميرها في أواخر القرن الحادي عشر لإسكان النازحين من القدس بعد أن احتلها الصليبيون، وتزخر هذه المنطقة بآثار هذه الفترة من مدارس دينية قديمة وبيمارستانات، كما يميزها وجود عدد من أضرحة أشهر الفلاسفة والمتصوفة المسلمين، كمحيي الدين بن عربي، وفي حي الشيخ محيي توجد ناعورة ضخمة بنيت في القرن 18 وصممها "الجزري " أهم علماء الميكانيكا العرب وكانت ترفع المياه 12 مترا لتغذية البيمارستان القيمري، وواضح أنه كانت هناك في الحي أكثر من ناعورة إذ مررنا بزقاق يحمل اسم "زقاق النواعير".

هذه الصالحية التي كنا ونحن نمضي فيها نحس وكأننا في أحد الشوارع الأوربية لشدة معاصرة ما تعرضه محالها من ثياب وبضائع سورية تضارع أناقة ودقة مثيلاتها الأوربية، كما أن الكافتيريات الصغيرة وسط الشارع وعلى جانبيه كانت تؤكد على هذا الإحساس بالمعاصرة، هذه الصالحية كانت أولى المحطات السورية على طريق الحرير القادم من أقاصي الصين ذاهبا إلى أوربا عبر تدمر وحمص ثم مرافىء البحر المتوسط، وكانت الصالحية تسمى "دورا أوربوس "، ولم تكن طريق الحرير مجرد مسار تمضي فيه البضائع الآتية من أقصى الشرق إلى الغرب أو العكس، فمع التبادل التجاري كانت عملية المثاقفة أو تفاعل الثقافات تحدث تاركة طابعها المتفتح على المكان وأهله، كانت دائما ما تعتبر إضافة يحتويها الجسم العربي الضاربة أسسه وجذوره في أعماق تاريخ المكان.

أكبر بلد صغير في العالم

هناك تسميات تطلق على الأشياء من قبيل الاحتفاء والمبالغة، لكن إطلاق صفة "أكبر بلد صغير في العالم " على سوريا ليس فيه شيءمن المبالغة وهذا ما تأكدنا منه ونحن نجول في رحاب عاصمتها، ثم عدنا نتأكد منه مع كل خطوة خطوناها على دروب هذا الاستطلاع في هذا البلد الأليف العريق، فالماضي يعيش في قلب الحاضر والأصالة تنبض في روح المعاصرة، ودورة واحدة في المدينة انطلاقا إلى ركن من أركانها كافية لتأكيد هذا المعنى، ففي أبهاء الفندق ستلوح لك الأناقة الدمشقية التي يختلط فيها العطر العربي والزخارف العربية والطنافس العربية والبشاشة العربية بدقة توزيع الخدمات الفندقية المعاصرة وأناقة تقديمها، وبالقرب من المكان ستجد معرضا للفن المعاصر "جاليري " يبسط أمام ناظريك أحدث لمسات الفنانين التشكيليين سوريا، وفي طريقنا إلى منطقة سوق الحميدية والمسجد الأموي كانت تتعاقب صور الأصالة والمعاصرة، تعاقب اللحظات السريعة نطالعها عبر زجاج سيارتنا حيث العين ترى وصوت مرافقنا يسمى "حي المزة" حيث الشوارع العصرية والأبنية الحديثة والفيلات المحوطة بحدائقها الوارفة!! و"ساحة الأمويين " حيث يلفت النظر مبنى "مكتبة الأسد" الضخمة التي تزخر بعطائها الثقافي المتجدد من مؤتمرات ومعارض كتب وندوات فكرية، "ساحة المرجة" التي تضج بالحياة اليومية شأنها شأن العواصم العربية المزدحمة، حيث الفنادق البسيطة ومحال الصيارفة، ودكاكين المكسرات والحلوى والملابس منخفضة الأسعار، ثم نجد أنفسنا فجأة أمام التاريخ حيث بقايا سور دمشق القديم، و"باب العمارة" و"باب الفرج ". ونترك سيارتنا ونترجل عند سوق الحميدية فتختلط طبقات الزمان بروائح البخور وهفهفة المنسوجات الدمشقية من الحرير المطبوع والموشى بـ "البروكار أو الصايات "، كما ستجد الطرابيش والشراويل والعباءات والسيوف الدمشقية الشهيرة ومصنوعات النحاس المطروق والصناديق المطعمة بالصدف والزجاج الملون.

كل هذا الزخم ستجده على جانبي الممر المغمور بالظل في سوق الحميدية الذي يمتد من باب النصر وحتى الجامع الأموي، وقد أخذ اسمه عن السلطان عبد الحميد، إذ جرى إنشاؤه خلال العهد العثماني، والسوق مغطى بسقف حديدي مليء بالثقوب حتى ليبدو في النهار وكأن نجوما كثيرة تلمع في عتمته، وإذ ينقطع الظل في أعقاب خروجنا من سوق الحميدية تتلقفنا نسائم سوق الحرير، القريب من الجامع الأموي، الذي تبيع دكاكينه الصغيرة الزاخرة الأقمشة والمطرزات والعطور ولوازم السيدات، وعن هذا السوق تتفرع خانات قديمة هي عبارة عن مجمعات لعدد من الحوانيت أشهرها ما كان يسمى بحمام القيشاني، وترى فيه أكداس البضائع الزاهية تقوم على خلفية آنيقة من القيشاني اللامع.

ومن أسواق الحميدية والحرير والبزورات دلفنا إلى بقعة الروح فأحسسنا بأن المكان يتسع فجأة والظلال الحانية تلفنا فنستريح ونخشع، إذ إننا وقفنا على أبواب الجامع الأموي، ورغم أعمال التر التى كانت تجرى فيه، إلا أن سحر الجامع الكبير شملنا مما جعلنا نثمن أكثر جهود الترميم التى عرفنا أن الرئيس السوري أولاها اهتماما خاصا وأمر بتشكيل لجنة تشرف على إنجاز ترميم هذا الأثر الديني والحضاري المهم، وقد أخبرنا وزير السياحة بالموقف فقال: "لقد وجدنا بعض الخلل في بعض المواقع، فالمئذنة الجنوبية الغربية منه كان بها ميل وصل إلى 5 ر15 سم، كما أن رأس المئذنة تساقطت بعض أحجاره بتأثير عاملي المطر والزمن، وهناك الجدار الشمالي وجد به انحراف وصل إلى أكثر من 65 سم، كما أن قواعد الأعمدة اهترأ البعض منها بعامل المطر، وجار الزمن على خشب الأسقف، وهذا استدعى أن تجرى عملية ترميمية متكاملة للجامع الأموي حتى يظل هذا البناء دليلا على عظمة وعبقرية الفنان العربي القديم ".

وإنها لجهود تستحق دعم كل عربي مسلم، هذا ما استشعرناه ونحن نودع الجامع الأموي الذي رغم أعمال الترميم ظلت سامقة مآذنه الشامخة الثلاث ذات الطرز المختلفة، كما ظل صحنه رحيبا ومصلاه وسيعا، وقبته ذات اللون الأزرق الرمادي المسماة "قبة النسر" تحلق عالية في زرقة السماء الصافية الرحيبة.

في رحاب الملكة.. زنوبيا

وكأننا نعيد سيرة الماضي ننطلق من دمشق إلى حمص قاصدين تدمر، فنكون كمن يستعيد ذكرى طريق الحرير، ففي هذه المواضع الثلاث كانت المحطات السورية على الطريق القادم من الصين متجها إلى أوربا، في دورا أوروبوس بدمشق " الصالحية الآن " كانت المحطة الأولى، وفي تدمر كانت المحطة الثانية، وفي حمص كانت المحطة الثالثة، ومن بعد ذلك كانت مرافىء البحر المتوسط تتكفل بنقل أحمال القوافل عبر البحر. المسافة بين دمشق وحمص، التي تقع شمال العاصمة تبلغ 160 كيلومترا، وعبر هذا الطريق البري وامتداداته الساحلية التي تصل إلى أقصى الشمال السوري، نلمس مدى التقدم الذي أحرزته سوريا في إنشاء شبكة طرق حديثة جيدة تيسر الحركة بين أنحاء هذا البلد الزاخر بالتنوع، ففي أعقاب الخروج من دمشق نجد الطريق الواسع المزدوج يمر عبر سلسلة جبال بلون الشفق، ويظل الطريق ينحني بنعومة بين ضفتي الجبل حتى ينطلق عاليا كاشفا عن سمة مميزة لتضاريس الأرض السورية قرب الساحل، فالجبال والتلال تتعاقب آخذة ألوانا تتباين وتتدرج كلما ابتعدت، تبدأ باللون الأشهب الفاتح ثم اللون الزيتوني وأخيرا تبدو سلسلة الجبال المتصلة بسلسلة جبال لبنان وكأنها بلون دخان بنفسجي، وتظل آفاق الطريق تتماوج حتى تدخل في سهل منطقة حمص فتقابلنا غابات أشجار السرو، ونخترق مدينة " ابن الوليد" مارين بمسجده وضريحه ذي الطراز العثماني، إذ تلوح عالية وراء هامات النخيل في حديقة المسجد تلك القبب المعدنية الضخمة التي تتوهج بلون الفضة تحت الشمس والمئذنتان الباسقتان، ونلمح جدران المسجد المبنية من حجارة بيضاء وسوداء متناوبة في صفوف أفقية، ومن حمص ننطلق صوب الجنوب موغلين في بادية الشام.

كالحلم تظهر فجأة في بحر الرمال الصفراء الممتدة حتى الأفق واحة نخيل وأعمدة تنتصب شاهقة شامخة، فندرك أننا صرنا في رحاب عروس الصحراء "تدمر"، ونترجل فتمشي خطانا على آثار خطو الأقدمين الذين ساروا على هذه الأرض منذ أربعة آلاف سنة كما تسجل ذلك واحدة من الرقم الآشورية.

وتتلقانا الوجوه العربية البشوش التي تعكس رغد هذه الواحة في قلب الصحراء، ويصحبنا مدير متحف تدمر الأستاذ خالد الأسعد، فيحكي لنا جوانب من تاريخ المكان وجغرافيته ودلالات ما نراه من آثار حضارة تركت بصماتها على وجه الصحراء، وفي قلب هذه الواحة التي تحتمي من الشمال والغرب بسلسلة من الجبال أعلاها جبل هيان 850 مترا، وجبل المزار 600 متر، وتفتح صدرها إلى الشرق والجنوب نحو الصحراء الرحيبة، وتحيط بها غوطة واسعة من الزيتون والنخيل والرمان يبلغ عدد أشجارها نصف مليون شجرة، فكأن إكليلا من الغار يحيط بجيد الأطلال والأعمدة الذهبية وأبراج الأسوار والمدافن ومعبد"بل "، وفي الذرى تقف قلعة ابن معبد"التي يرجع تاريخها إلى القرن الثاني عشر الميلادي " محلقة كنسر يظلل بأجنحته الأفق الغربي.

لقد ولدت هذه البقعة مع تفجر نبع ماء حار اسمه "أفقا" يقع قريبا من فندق ميريديان الذي أقيم حديثا في تدمر، فاخضرت الصحراء وتجمم البشر الذين تعود أصولهم إلى العرب الآراميين والأنباط، وصارت الواحة محطة مثالية في طريق القوافل، ومع مجيء الرومان ازدهرت بشكل استثنائي كنوع من المجابهة مع. الإمبراطورية الفارسية، غريمة الرومان التقليدية، وأطلقوا على تدمر "بالميرا" أي مدينة النخل، أما تسمية تدمر فقد اشتقه المتنبي اشتقاقا بديعا من معنى الدمار، ويقول العامة "تطمر" إشارة إلى أن الرمال قد طمرتها، واشتدت هجمات فارس فاستنجد الرومان بحاكم تدمر العربي "أذينة" الذي صد هجمات الفرس فلقب ب "زعيم الشرق "، لكنه سرعان ما تم اغتياله في ظروف غامضة، وتولت من بعده زوجته زنوبيا التي تحولت إلى أسطورة لفرط ما كانت تتمع به من جمال وذكاء وثقافة، وكانت طموحا وقادرة في طموحها حتى أنها أزاحت سلطان الإمبراطورية الرومانية وبسطت سلطانها على سوريا ومصر وآسيا الوسطى حتى البوسفور، وعندما احتشدت الإمبراطورية الرومانية أوقعت الهزيمة بجيش زنوبيا التى سيقت إلى روما مصفدة بأغلال من الذهب الخالص ! ولم تكن أغلال مملكة تدمر وحدها من الذهب، بل إن هناك من يدعي أن مياه نبع أفقا الذي تعيش عليه تدمر تقدر بالذهب، كما يقول لنا شيخ وقور من سكان الواحة، فهذه المياه المعدنية الكبريتية مفيدة لأمراض الجلد والكبد والصدر والتهاب المفاصل وحالات فقر الدم كما أنها منشطة للهضم وللدورة الدموية وتضفي على البشرة نعومة وجمالا، ولعلها كانت "سر جمال ملكة تدمر الشهيرة"!! "أليس كذلك "؟ سألنا الشيخ التدمري ضاحكين، لكنه لم يضحك بل أجاب بجدية بالغة وباللهجة السورية الطيبة: "إيه معلوم.. معلوم ".

وارتوينا من نبع أفقا قبل أن نمضي، ليس فقط طمعا في العاقبة، بل أيضا لنواصل الترحال غير عطاشى على طريق الحرير إلى حمص قاصدين مدينة النواعير: حماة، ومن بعدها مدينتا الشمال: حلب واللاذقية.

مدن الماء والخضرة

قد يبدو غريبا أن نجمع بين مدن ثلاث متباعدة، حماة في الوسط السوري، وحلب في الشمال الشرقي، واللاذقية في الشمال الغربي على شاطىء المتوسط، لكن هناك رابطا إن شئنا الربط، فهذه المدن الثلاث كما لاحظنا تشكل المياه عنصرا مهما في تكوينها، ففي حماة النواعير الشهيرة التي تعمل على مياه نهر العاصي، وفي حلب رغم تأثرها بمشاريع المياه خارج الحدود السورية إلا أن بساتينها العامرة وشجرها الوارف يجعل الإنسان يحس يقينا بأن نهرا يرويها إن لم تكن أنهارا، أما اللاذقية فرغم أنها تطل على مياه البحر الأبيض المالحة فإنها تشكل أحد ألغاز الطبيعة بتلالها الخضراء التي تطل على البحر وشجر. شوارعها الذي لا يغيب عن النظر.

الماء إذن، والخضرة، والوجه الحسن، بالطبع- فلسنا بحاجة إلى التأكيد على حسن الوجوه السورية- هذه الثلاثية لا بد أن نضيف إليها: والقلب الحسن، والمقصود بالقلب ليس فقط الطباع النفسية والروحية العربية، ولكن ما نقصده هنا هو القلب الحضاري الذي ينبض داخل هذه المدن الثلاث كجزء من نبضه الشامل في هذا البلد ذي الأغوار الحضارية العميقة والمتشعبة عبر طبقات الزمان وفسحة المكان.

ففي حماة، رفعنا وجوهنا نتابع دوران النواعير في ذراها العالية وهي تأخذ الماء من مجرى نهر العاصي وتعيد صبه في الأعالي ليجري في أنهر صناعية بنيت فوق أسوار شاهقة، وكانت تلك حيلة هندسية بارعة لري الأراضي المرتفعة. ويخبرنا عبد الرزاق زقزوق مدير آثار حماة بأن هذه النواعير قديمة قدم حماة، فلقد وجدت نقوش لها على الصخر وفي لوحات فسيفساء آفاميا المحفوظة في المتحف الوطني بدمشق، وعلى غناء النواعير المفعم بالعمق وكأنه قادم من أغوار الزمان مضينا، شربنا قهوتنا في مقصف صغير شديد النظافة رغم قدم عمارته وهو مكون من غرف تعطيك إيحاء بالألفة وكأنك في بيتك الذي تفتح نوافذه على مشهد النواعير الدوارة، وعلى صوت النواعير مضينا فظلت أصداؤه في آذاننا حتى بلغنا آفاميا التي تقع على بعد 55 كيلومترا غربي حماة على الضفة اليمنى لنهر العاصي، وكان منظرا فريدا ذلك الذى رأينا فيه قلعة شيزر التي تعلو تلة مرتفة تكسوها الأشجار والخضرة والبيوت الصغيرة المتدرجة، تلك القلعة الصغيرة لم يفلح في غزوها الصليبيون لكن زلزالا مدمرا أتى عليها وأعاد تعميرها المماليك، وهذه القلعة ترتبط ارتباطا وثيقا بالثقافة العربية، إذ كان أميرها هو الشاعر العربي أسامة ابن منقذ الذي رثاها رثاء لا نظير له مع غيرها من أطلال وطنه الذي سحقه الزلزال في ذلك الديوان الكبير المسمى "المنازل والديار".

ومن حماة عدنا إلى الساحل، وظلت سيارتنا تنهب الطريق فنلاحظ تميز التضاريس كلما اتجهنا شمالا حيث تتماوج التلال ويتكاثف شجر الشمال من فصيلة الصنوبريات حتى وصلنا إلى حاضرة أخرى من حواضر الماء في سوريا، لكن ماءها هو ماء البحر المتوسط الذي تطل عليه من ذراها الخضراء، اللاذقية، التي وإن بدت خالية من المعالم الأثرية التي لم يبق منها غير بقايا من صرح روماني عبارة عن أربعة أعمدة وقوس، إلا أنه على مبعدة 16 كيلومترا من الشمال كان موقع "رأس الشمرة" الذي يعتبر من أهم المواقع في التاريخ الثقافي للبشرية، ففي هذا الموقع كانت تزهو مملكة أو غاريت التي شهدت عصرها الذهبي فيما بين القرن 16 والقرن 13 قبل الميلاد، وهذه المملكة هي التي قدمت للبشرية " الأبجدية الأولى في العالم" وهي الأبجدية التي تدين لها بالفضل معظم اللغات الأوربية، وقد وجدت هذه الأبجدية محفورة على أصبع من الطين المجفف شاهدناه محفوظا في المتحف الوطني بدمشق.

ومن شمال اللاذقية إلى شرقها وعلى بعد 35 كيلومترا كانت سيارتنا تصعد وتهبط حتى أوقفها مرافقنا على طريق يكون خندقا لإحدى القلاع الشهيرة في التاريخ، القلعة التي أقامها الصليبيون وحفروا خندقها في الصخر وأبقوا من الحفر مسلة شهيرة مازالت قائمة هناك تمثل مرتكزا لجسد يوصل بين القلعة والهضبة، فإذا رفع الجسد انعزلت القلعة، ورغم أن الصليبيين أقاموا هذه القلعة المذهلة في عدة سنوات إلا أن صلاح الدين استولى عليها في يوم واحد.

ويوم واحد لم يكن يكفي للوقوف على أسرار هذه القلعة وحدها، فكيف تكفي عشرة أيام للإطلال على تاريخ أزمنة وحضارات متعاقبة تختزن أسرار حيويتها الأرض السورية، لم تكن الأيام العشرة كافية، بل أن عشرة أيام لا تكفي لتملأ أبصارنا من آخر مدينة مررنا بها قبل عودتنا إلى دمشق، تلك كانت حلب الشهباء بقلعتها المعجزة وأسواقها الساحرة القديمة، وحدائقها الكثيرة الغناء، وأصداء التاريخ الثقافي العربي الزاهر بين جنباتها، وفي بلاط أميرها سيف الدولة الحمداني الذي جمع من حوله المتنبي وأبي فراس وابن خالويه اللغوي والفارابي العالم والفيلسوف.

كوكبة من مصابيح الثقافة العربية التي ما زالت تضيء في حلب موجات وراء موجات من أجيال المثقفين والفنانين، وإنه لوعد بالعودة إلى حلب قطعناه على أنفسنا ونحن نغادرها عائدين إلى دمشق.

السياحة الثقافية بين ثلاثة أضلاع

خلال جولتنا في ربوع سوريا، كانت المشاهد تستدعي أسئلة، وكان الأفق يوحي بأسئلة، عن الحاضر وعن المستقبل، وكنا قد جمعنا أجوبة ظلت تتفاعل معا في جولة الخاطر الذي لم يتوقف عن التفكير فيما يمكن أن نسميه بالهم السياحي العربي، وماذا في سوريا من إجابات. ولو تصورنا أن العربي تحمل آراء الفرقاء وتمثل ضلعا في مثلث للحوار، فإن ضلعيه الآخرين هما ممثل الحكومة السيد محمد أمين أبوالشامات وزير السياحة السوري، وممثل القطاع الاقتصادي الحر " أو الخاص " الدكتور عثمان العائدي، لقد التقت العربي كلا منهما على حدة، لكننا هنا نجمع الحوار ونجمله لنكمل أضلاع هذا المثلث.

لقد بدأ العالم يفتح عينيه على قضية السياحة في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وأخيرا الثقافية، نعم اكتشف الباحثون أن الهم الثقافي يكاد يكون في ذيل قائمة اهتمامات السائح العام، ففي تقدير عالمي إشارة إلى أن عدد السياح في العالم قد وصل إلى 425 مليون سائح في أوائل التسعينيات، ذهب ربعهم إلى بلدان العالم الثالث، بينما بلغ العدد في مطلع الثمن فقط " إلى العالم الثالث الذي يضم في التصنيف "حوالي الثمانينيات 285 مليونا ذهب 35 مليونا منهم "حوالي الثمن فقط" إلى العالم الثالث الذي يضم في التصنيف دول آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية، هذه الزيادة التي تبلغ الضعف قد تشير إلى أن هذا منطقي، حيث إن دول العالم الثالث التي تضم "العالم القديم " هي نحزن الحضارات القديمة وكنز التراث الشعبي العالمي أو بمعنى آخر كتاب حي للتاريخ وعلم الإنسان والبيئة والفنون البكر، لكن الباحثين لاحظوا أن هذه الزيادة المطردة هي سياحة للمتعة لا للثقافة، سائح يبحث عن مناخ جيد وطعام جيد وترف وترويح، وقد يكون هذا مقبولا كجزء من تطلعات سائح يرنو إلى المعرفة فى إطار من الاستمتاع بوقت طيب، أما أن يقتصر الأمر على الترويح وإدارة الظهر للتراث الهائل لحضارات الشعوب العريقة فهذا نوع من الإهمال يحمل في طياته طابع الاستهانة ومخاطر اكتساح التقاليد والاعراف المحلية ليفرض السائح تقاليده وأعرافه بل حتى ذوقه في الطعام والشراب. مواجهة ذلك قال وزير السياحة السوري محمد أمين أبوالشامات إن الحكومة وضعت خطة وطنية للسياحة حتى عام 2000، بدأت متدرجة، واهتمت بالبنية التحتية في إنجاز الفنادق وإيجاد شركات النقل والتسويق السياحي ثم الاشتراك في المعارض الدولية بغية الجذب والتسويق السياحي، وقد كان مردود الخطة هو زيادة عدد السياح من مقيون وأربعمائة ألف عام 1991 إلى مليون وسبعمائة ألف عام 1992، ويتوقع وصولهم إلى مليوني زائر هذا العام، والملاحظ أن سياح الخليج يمثلون 70% من هؤلاء السياح. وهناك تسهيلات للدخول، وصارت مطارات دمشق واللاذقية وحلب تقدم الخدمات السياحية، أما عن السياحة الثقافية وهي جزء مهم من العملية السياحية فإن المديرية العامة للآثار والمتاحف التابعة لوزارة الثقافة تسهر عليها، وهناك خطة لمديرية الثقافة والآثار والمتاحف لترميم الأجزاء التي بحاجة إلى ترميم، أما الجامع الأموي فإن الرئيس حافظ الأسد قد أصدر قرارا بتشكيل لجنة لترميمه.

وفي الإطار الثقافي أيضا لوحظ أن المهرجانات التي تقام في سوريا تجمع بين الترفيه والثقافة، فمهرجانات الخيول وسباق الجمال تجري في تدمر التي تكون في الربيع من أجمل المناطق السياحية في البادية إضافة لتراثها في هذا المضمار، وفي بعدها التاريخي، ويذكر وزير السياحة "أن هناك ثلاثة آلاف موقع سياحي أثري في سوريا، وتعتبر هذه الأماكن من نقاط الجذب السياحي العالمي ".

أما الدكتور عثمان العائدي الذي يعتبر من رواد القطاع الخاص السوري ومن المعنيين بمشاريع التطوير السياحي، فهو أحد الذين جمعوا بين المال والعلم، ومن ثم فإن رؤيته للعملية السياحية لا تقف عند إنشاء مجموعة فنادق الشام ذات المستوى العالمى والطابع العربي، بل يرى أن السياحة في سوريا "أهم عنصر للتنمية فالطبيعة جميلة والتراث الحضاري متعدد فهي متحف لآثار الحضارات القديمة".

وقد لا نضيف كثيرا إلا القول: نعم إن في سوريا متحفا كبيرا لآثار الحضارات القديمة، إلا أنه متحف حي، وهذا أدعى للحيوية الثقافية، وسط الشعب السوري الذي يعتبر من أكثر الشعوب العربية اهتماما بالثقافة، ولعل لقاءنا الأخير جاء تأكيدا لذلك.

مع رئيس الوزراء

حقا لقد كانت جولتنا في سوريا وقفات أمام الأثر والبشر، الأثر بما يكتنزه من تاريخ حضاري وثقافي، والبشر بانعكاسات هذا التاريخ الثقافي والحضاري عليهم، ولقد كانت لفتة حضارية وثقافية من رئيس الوزراء السوري المهندس محمود الزعبي عندما بادرنا بحديثه عن مجلة العربي وأبدى إعجابه بدورها الريادي بين قراء العربية، ولم يكن حديثه عن العربي حديث مجاملة بل كان حديث مثقف صاحب رؤية للعمل الثقافي، عندما قال: "إن مجلة العربي تعد جامعة حقيقية، فموضوعاتها مختلفة وجديدة فضلا عن أنها تأخذ شكل كتيب، أي تكاد تكون كتابا في روحه لكنه كتاب متنوع، بعكس الكتاب المقصور على موضوع واحد". وفي لمحة ذكية ودالة على تقدير حقيقي للجهد الثقافي- كل جهد - وكونه مكسبا إنسانيا يعم ولا يخص، قال رئيس الوزراء السوري: إن مجلة العربي التي توزع ستين ألف نسخة في سوريا، هي أيضا مجلة سورية، فهي تدخل معظم البيوت وتجد لها شريحة من القراء لا تتوافر لمطبوعة أخرى. بعد ذلك كان طبيعيا أن الحديث مع رئيس الوزراء عن السياحة في بعدها الثقافي باب مفتوح، ومن هذا الباب دلفنا.

قبل أى حديث عن السياحة في بعدها الثقافي من الطبيعي أن تكون حبة القمح هي السياج الذي يمنع السياحة من الانحراف عن غاياتها الحضارية، بمعنى: هل هذا البلد ينتظر نقود السائح ليأكل خبزه أم لا؟ وعندما سألنا عن قضية الاكتفاء الذاتي من الطعام في سوريا وهل هناك خطة خمسية- على سبيل المثال- لإنجازه؟ ضحك رئيس الوزراء قائلا: لسنا في حاجة إلى خمس سنوات ولا خمس ساعات ولا حتى خمس دقائق، فسوريا الآن مكتفية ذاتيا، بل لدينا فائض في الإنتاج الزراعي والحمد لله. بعد ذلك تطرق الحديث إلى البنية التحتية اللازمة للنشاط السياحي، فلمس رئيس الوزراء في حديثه انتشار الفنادق الحديثة ووصولها إلى نقاط الإشعاع الثقافي مثل تدمر وكذلك شبكة الطرق الجيدة والتوسع في خدمات الطيران والمواصلات، وتوقفنا معه عند موضوع الهواتف، فقال رئيس الوزراء السوري: "إن هناك خطة لـ 700 ألف خط جديد تم تطويرها إلى نحو مليون خط، وكان هذا المشروع بمساعدة الإخوة فى الكويت الشقيقة"، وعن الاستثمارات السياحية أشار رئيس الوزراء إلى أن الباب مفتوح وأن مناخ الأمن والاستقرار وقوانين حماية الاستثمارات كالقانون رقم 10 تفتح مجالا جيدا لكل من يريد استثمار أمواله في هذا المجال. وإلى قلب موضوعنا- السياحة في بعدها الثقافي- صوب رئيس الوزراء كلماته ردا على سؤال لنا حول التغيرات الاجتماعية غير الحميدة التي تأتي كآثار جانبية للتدفق السياحي، فقال: "عن العادات والتقاليد الغريبة فنحن في غنى عنها، أما بالنسبة للسياح العرب والخليجيين فالعلاقات بيننا وبينهم حميمة جدا، وهناك علاقات وجدانية مشتركة تربطنا بهم، هم يأتون إلينا للتمتع بالثقافة وجمال الطبيعة الساحر في طمأنينة، نحن نعيش في هدوء وأمان واستقرار، وطبيعة الناس هنا طبيعة محافظة فلا خروج على المألوف، هنا يجدون الآثار والمتاحف وجمال الطبيعة وبالتالي فإن إخواننا من أهل الخليج بصفة عامة يشعرون بأنهم في بلادهم ولا يشعرون باي فرق نظرا لتقارب العادات والتقاليد".

ولقد كان رئيس الوزراء السوري الذي غمرنا بفيض المودة السورية محقا فيما قاله، وكان قوله يتأكد لنا مع كل خطوة نخطوها، إذ كنا نشاهد في طريقنا ظاهرة يمكن تسميتها "السياحة العائلية" بمعني أن الأب والأم وأبناءهما بنين وبنات، يمضون عطلتهم معا في دعة وطمأنينة في رحاب سوريا ذات التقاليد العربية الراسخة والطمأنينة التي تتيح للجسم والعقل السلام.

يقول معاون وزير السياحة أحمد حلواني إن آفاق التعاون العربي كبيرة في مجال الاستثمار في السياحة، وقد وضعت الخطوات الأولى لاتفاق كويتي- سوري، أقرته اللجنة المشتركة السورية الكويتية العليا، لإقامة فندق دولي من الدرجة الممتازة في وسط دمشق، والمشروع عبارة عن أرض تقدمها وزارة السياحة السورية والتمويل تقدمه المجموعة العقارية الاستثمارية الكويتية، وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على مدى الثقة التي تضعها المؤسسات العربية في سوق السياحة في سوريا.

وإذا كانت هناك بلاد يألفها المرء منذ الخطوة الأولى، وسوريا إحداها، فان هناك بلادا يفتقدها المرء وهو في الخطوة الأخيرة قبل أن يغادرها، وقد كانت على هذا النحو سوريا، افتقدناها قبل أن نودعها، قبل أن نفترق، فالمحبة لا يعرف قدرها حقا إلا ساعة الفراق، لهذا لم نقل لسوريا وداعا .. بل: إلى لقاء.

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





سوريا آفاق لسياحة حضارية





قصر الحيرة الغربي بعد نقل أجزاء منه إلى المتحف الوطني بدمشق





خريطة سوريا وعليها المواقع التي زارتها بعثة المجلة





صناعة حفر الزخارف على الخشب





الأسواق الشعبية في حلب مكتظة بالناس





بشير محمد زهدي مدير المتحف الوطني بدمشق





خطة الوطنية التي يرعاها الرئيس الآسد ويشرف عليها وزير السياحة لترميم المسجد الأموي





مسابح خشبية منحوتة باليد من الحجم الكبير ومعروضة للسياح في أحد المحلات





رئيس الوزراء السوري يتحدث للزميل أنور الياسين بحضور الزميل إلياس مسوح





معبدبل في تدمر من أهم المعالم الآثرية التي يحرص السياح على زيارتها





اسد اللات من منحوتات القرن الأول الميلادي في متحف تدمر





نواعير حماة ناعورتا الجعبرية والصاهونية شاهد على الحضارة العريقة





أمثلة من تماثيل الحضارة العريقة





لوحة تمثل نوعا من الكتابات القديمة





قلعة حلب الأثرية





قلعة صلاح الدين مساحتها خمسة هكتارت وتتسع لـ 4000 جندي





تمثال صلاح الدين في وسط دمشق





حصون قلعة صلاح الدين من الخارج





وزير السياحة السوري محمد أبوالشامات





إحدى أهم القطع الأثرية التي اكتشفت أخيرا في مدنية تدمر وقد عرضت للعالم للمرة الأولى في معرض عالمي باليابان في منتصف العام الحالي





المذيعة بالتلفزيون العربي السوري هيام أبوسمرة





الأجيال الحديثة تقبل على المتاحف لتطالع تاريخ بلادها





قوس الشارع الرئيسي في تدمر





خالد أسعد مدير آثار متحف تدمر





الشاطئ الأزرق في مدينة اللاذقية





الدكتور عثمان العائدي رئيس مجلس إدارة فنادق الشام





قلعة حلب





معاون وزير السياحة أحمد حلواني





فندق حلب الشام واحد من أهم الفنادق في سوريا