مساحة ود

مساحة ود
        

الإنسان.. قطعة خشب!

          على ضفاف النهر، امتزج لون السماء بلون المياه فخرج لون جديد بينهما في الفضاء يبدو أنه لون النقاء والصفاء، تبارزت لآلئ الشمس المودعة في قلب الماء في الصعود على صفحة النهر والتلألؤ للرائح والغادي. جعلت المراكب تمخر عباب النهر في تبختر لا مثيل له، وكأنها تعيش قصة حب راقية مع صفحة النهر.

          واشتمت الأشجار رائحة الصفاء، فسكنتها العصافير والطيور البيضاء، كون كبير يعيش على جانبي النهر، مدارات لكواكب سيارة تدور في فلكه العميق، أفكار عميقة ولآلئ إنسانية تفكر من حوله في المؤتمر العلمي الذي ضم صفوة الأطباء في مجال جراحة العظام وتشرفت بحضوره.

          استيقظت من سباحتي في مدارات النهر على يد تربت على كتفي من الخلف، يد كانت تتعجب لمكوثي الطويل أمام النهر والتفكر في بديع خلق الله فيه، وجدتها سيدة صغيرة السن تبدي تعجبها وإعجابها بحبي للإبداع، طلبت مني أن تريني إبداعًا قد صنعته شركتها المتخصصة في مجال أمراض العظام وجراحتها.. فوافقت.

          رأيت أمامي أجزاء من عظام البشر على هيئة بلاستيكية، فهيكل للعمود الفقري، وفقرات عنقية وصدرية وقطنية وعجزية، وسيقان ومفاصل، هكذا هو الإنسان عظام تُبنى فوقها عضلات وجلود وشرايين وأعصاب، وقامت السيدة بإجراء جراحة عظام صناعية أمامي، لتريني كيف أن الإنسان قطعة خشب.. دون أن تدري.

          بمهارة قامت بوضع شريحة على بعض فقرات العمود الفقري وقامت بدق المسامير بشاكوش طبي حتى قامت بتثبيتها، وكأنها تعمل في قطعة خشب، بعد قليل قامت بتثبيت كسر في الساق  بالطريقة نفسها بدق المسامير والشرائح بعناية فائقة، ثم قامت بتغيير مفصل الركبة وكأنه مفصلات باب خشبي قد ذبلت وحان وقت تغييرها.

          كطبيبة كنت أعلم كل ما تفعل طبيًا، ولكن ذلك الإنسان ضعيف جدًا، لا يعلم أنه قابل للتصليح مثل الأخشاب التي تنكسر، بشاكوش وشرائح ومسامير ومفاصل صناعية وبمبضع جراح ماهر وغرفة عمليات وفريق طبي وأجهزة تنفس صناعي ورسم قلب ومنظار ، لا يعلم الإنسان أنه مثل قطعة الخشب يحتاج إلى التصليح بل إن تصليح الأخشاب أسهل بكثير من تصليح عظامه المنكسرة، فحتى قابليته للتصليح مرهقة ونسبة نجاحها ليست كبيرة.. وليست صغيرة أيضًا، فتصليح قطعة خشب مكسورة يتم في دقائق، أما تصليح عظمة واحدة مكسورة فيأخذ ساعات وساعات.

          وخارج الجسد والعظام، يظن الإنسان أنه الأول فوق الكون أجمع، يتفاخر ويتكبر ويتعالى، يسير في شموخ وكبرياء وكأنه بلغ الجبال طولا والبحار عمقًا، والسماء عرضًا وهو لا يدري أنه عندما ينكسر يكون إصلاحه أصعب من إصلاح قطعة خشب!.
------------------------------
* كاتبة من مصر.

 

 

أسماء الطناني