اللغة حياة: العدالة والخِيرة غير العدل والخِيار

اللغة حياة: العدالة والخِيرة غير العدل والخِيار
        

          يخلط الناس أحيانًا بين مصادر الفعل الواحد، فيستعملون بعضها مكان بعض، وهم من حيث المبدأ على حقّ، لأنّ تلك المصادر تعبّر غالبًا عن معنى واحد أو مشترك؛ لكنّ هذا المبدأ قد ينقضه الاستعمال، لأنّ الأزمنة المتعاقبة، والبيئات اللغويّة المختلفة، والاختصاصات المتنوّعة، والحاجات المتبدّلة، كلّها ممّا يحكم معاني الألفاظ، فيبدّلها أو يطوّرها على الأقلّ، وربما بدّل صيغتها.

          ولا يجوز تجاهل هذه الحقيقة والنظر إلى اللفظ بوصفه مجموعة أحرف، منتمية إلى جذور ثابتة المعاني، وكأنّ زعم بعض اللغويّين بأنّ للحروف معاني خاصّة صحيح، أو كأنّ رأي ابن فارس في حصر الجذر اللغويّ بمعنى مشترك واحد، أو بمعنيين، دقيق؛ فالألفاظ كائنات حيّة، متغيّرة التكوين، متبدّلة الدلالات، لأنّها تعبير عن الإنسان في مختلف أحواله وأزمانه؛ فالطائر الذي كان اسمًا للحيوان الذي يرتفع في الجو بجناحيه وذيله، ويُطلَق على الذكور والإناث من غير تاء تأنيث، دخلت عليه التاء فقطعت صلته بالحيوان، وصار يدلّ اليوم على الآلة التي تصعد في الجوّ بقوّة محركاتها؛ وكلمة الطيّار التي كانت تدلّ على ما يطير كثيرًا بجناحيه أو ما تذروه الرياح، صارت تعني قائد الطائرة؛ والسيّارة التي كانت تدلّ على القافلة أو الجماعة السائرة، صارت تعني تلك الآلة المعروفة التي تسير بقوّة محرّكها أيضًا. ولو قرأ أحدنا نصًا فرنسيًا أو إنجليزيّا قديمًا فإنّه لن يفهم معناه بالعودة إلى معاجم اللغة الحديثة، بل لا بدّ له من العودة إلى معاجم اللغة القديمة، والفرنسيّة في فرنسة غيرها في كندا، والإنجليزيّة في إنجلترا غيرها في الولايات المتّحدة، وهاتان غير إنجليزيّة الحاسوب.

          وسنعرض في هذه المقالة لحالتين من حالات التطوّر اللغويّ التي تكاد تخفى على بعض المنشئين العرب، الأولى تتصّل بمصادر «عَدَلَ»، والثانية بمصادر «خارَ» (بمعنى اختار).

          فعلُ عَدَلَ يدلّ أصلًا على الاستقامة والسويّة؛ فاليوم المعتدل هو الذي تتساوى الحرارة والبرودة فيه؛ والناقة المعتدلة هي الحسنة المتّفقة الأعضاء؛ والقامة المعتدلة هي القامة المستقيمة غير المنحنية؛ وعبارة سَوَّاكَ فَعَدَلَكَ  في القرآن الكريم تعني: جعلك متّفق الخلق؛ وتعديل الصفوف في الصلاة: تسويتها بحيث تصبح مستقيمة؛ ويشبّه الحديثُ النبويّ المؤمنَ بالشجرة الغضّة «تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً - أي تُميلها-، وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً» أي تقيمها؛ والعِدْلان هما حملا الدابة لتساويهما. وفي المعاجم ثلاثة مصادر لِعَدَلَ هي: العدْل والعدالة والعدولة، فضلًا عن المصدرين الميميّين: المعدَلة والمعدِلة. لكن لنراقب الاستعمال:

          1 - في القرآن والحديث كلمة عَدْل، وليس فيهما كلمة عَدالة. وحتّى الزمخشريّ لم يورد غير هذا المصدر في معجمه «أساس البلاغة». والعدْل في القرآن الكريم لا يأتي إلاّ بمعنى الإنصاف، أي إعطاء الناس حقوقهم والحكم بتجرّد وصحّة نظر ووفق النصوص الشرعيّة. فمن الآيات الكريمة فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا  ومنها وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا  - والشنآن: البغض - ومنها وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى  ، ومنها هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ  ومنها فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ . ولم ترد فيه كلمة العَدْل بمعنى العادل، ولا بمعنى الصالح الصحيح الحواسّ والعقل، الذي سنعرض له من بعد.

          وأحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه تنحو المنحى نفسه، ومنها ما قاله بعض العَبْسيّين في أحد عمّال عُمَر :«لا يَقسِم بالسويّة، ولا يعدِل في القضيّة»؛ ولمّا رأت نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم إيثاره زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت له زوجته زينب بنت جحش رضي الله عنها بلسانهنّ: «إن نساءك  ينشدْنَك اللهَ العدلَ في بنت أبي قحافة». وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم عندما رأى إيثار أحدهم ابنًا له بأُعطية دون سائر أبنائه : اعْدِلُوا بَيْنَ أوْلادِكُمْ .

          ويربط ابن المقفّع بين العدل والإنصاف، وممّا يدخل في العدل في كتابه «كَلِيلة  وَدِمْنَة» «الصدقُ والإحسان والمراقبة وحسن الخلق». وسَنن العدل فيه يقوم على الأخذ للدَّنِيّ من الشريف، والمساواة بين القويّ والضعيف، وردّ المظالم والاعوجاج ضدّ العدل. واستعمل ابن المقفّع كلمة عدل صفة للقويم الخلق الصحيح الحواسّ والعقل.

          ويجعل الجاحظ العدل والعفّة ضد الهوى والجَوْر، ويصف الله تعالى بالحَكَم العدْل الذي يقف الناس بين يديه: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ، مستعملًا كلمة عدْل بمعنى عادل.

          2 - أمّا كلمة العدالة فنشأت على ما يبدو بعد صدر الإسلام، أواخر العصر الأمويّ وبداية العصر العباسيّ، إذ نقرأ في «كَلِيلَة ودِمْنَة» في اصطفاء الأصدقاء عبارة «فإنّ مَن أَقدَمَ على مشهور العدالة من غير اختيار كان مخاطرًا في ذلك». والعدالة، عنده، هي غلبة الصلاح على المرء، وبعده من الجَوْر. وشاعت الكلمة كثيرًا في كلام نقّاد الحديث حتّى كادت تختصّ بهم، ونشأ عنها علم الجرح والتعديل، أي الطعن على الرواة، أو تزكيتهم، ونفي الريبة عنهم، وتوثيق نقلهم للحديث. وخلاصة شروط العدالة أن يكون الرجل مسلمًا حرًّا بالغًا عاقلًا غير مرتكب لكبيرة، ولا مصرّ على صغيرة، وتغلب عليه المروءة. واليوم تطلق هذه الصفة على الكاتب والشاهد. فيقال: كاتب عدل وشاهد عدل.

          وهذا يدعو إلى وجوب التفريق بين مصدري العدل والعدالة؛ فالعدل صفة من يحكم بين المتخاصمين بالحقّ، مِنْ فِعل: عَدَلَ عدْلًا؛ والعدالة صفة الإنسان الموثوق بخلقه وعقله. وقد حاول أحد اللغويّين التفريق بين الأمرين فنسب العدالة إلى فِعل: عَدُلَ المبنيّ للمجهول، وليس ذلك مقنعًا؛ وكلّ ما في الأمر أنّ علم الحديث اقتضى مصطلحًا جديدًا لمفهوم جديد، فاستعمل مصدرًا جديدًا، أو قليل الاستعمال، وخصّه بذلك المفهوم. ففي استعماله تطوير واستحداث.

          لذلك تحدّث الناس بعدل الحكّام والقضاة، وبعدالة المحدِّثين والرواة والشهود. وتبدو عبارتا قوس العدالة، والعدالة الدوليّة، مثلًا، غير دقيقتين، على أنّه يجوز استعمال العدل بمعنى العدالة، كالذي في عبارة: ذي عدل، لكن العكس غير صحيح.

          أمّا الخِيار، وهو قضيّتنا الثانية، فيعني في الأصل اختيار أمر من أمرين أو أكثر، وقد استعمل أهل عصرنا عبارة: وهو أَمامَ خِيارَيْن أو خيارات؛ والحقيقة أنّ الخِيار يقع على متعدّد، وليس هو المتعدّد، فيقال: هو بالخيار بين كذا وكذا، فإذا أردنا تعدّد عمل الاختيار لجأنا إلى مصدر المرّة أو ما يشبهه، فقلنا مثلًا: هو بين خِيرتَيْن. لكنّ الاستعمال المغلوط قد شاع جدًّا حتى صار من الضروريّ النظر فيه: هل يُقبل كتعبير مستحدث فرضه التطوّر، أم يُترك لأنه خطأ؟ الأمر عائد إلى مجامع اللغة، ولو كان الخطأ الواسع الانتشار أجدر بالاستعمال من الصحيح شبه المتروك.

 

 

مصطفى علي الجوزو