المتنبي... مالئُ الدنيا دَوِيًّا

المتنبي... مالئُ الدنيا دَوِيًّا

قال لي صاحبي وهو يحاورني بعد محاضرةٍ لي عن المتنبي: أتريدني أن أحبَّ المتنبي؟ هيهاتَ إنّي لا أحبُّه! فأجبته قائلًا: إنّما تبكي على الحبِّ النساء! حسبكَ أن تحبَّ زوجك، أما المتنبي فما أغناهُ عن حبّي وحبك! بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس، وتربَّع على عرش الشعر العربي بجدارة، واستحق في نظري - ونظر الكثيرين - أن يكون سيدَ شعراءِ العربية! إذ ملأ دنياها دَوِيًّا.

 

والحقُّ أني مذْ عرفتُ المتنبي ودَوِيُّ صوته يأبى أن يبارح مسمعي، أو يدع فكري وقلبي، يلازمني في حلِّي وترحالي، ويعرض لي في كل طورٍ من أطواري، بل يلحُّ عليَّ إلحاحَ الأغنية المحبَّبة إلى سامعها تراه يردِّدُها في منامه وقيامه.
وكأن المتنبي قد تنبَّـأ بهذا حين قال:

وَلَا تحسَبَـنَّ الْمجدَ زقًّـا وقَــينةً 
فَمَا الْمجدُ إِلَّا السَّيْف والفتكة الْبِكْرُ
وتضريبُ أَعْنَاقِ الْمُلُوك وَأَن ترى 
لَكَ الهبَوَات السودُ والعسكرُ المجرُ
وتركُكَ فِي الدُّنْيَا دَوِيًّـًا كَأَنَّمَا
تداولُ سمعَ الْمَرْء أنملُهُ الْعشْرُ

قال الواحدي في شرح البيت الأخير:
الدَّوِيُّ: الصوت العظيم يُسمَع من الريح وحفيف الأشجار. يقول: وأن تترك في الدنيا جَلَبَةً وصياحًا عظيمًا، كأن المرء سدَّ مسامعَه بأنامله على وجه التداول، إذا أنأى واحدةً أدنى أخرى، وذلك أن الإنسان إذا سدَّ أذنه سمع ضجيجا وجَلَبَة.

صور من دَوِيِّــه

وأول تلك الصور صرختُه المدَوِّية:
أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي
وأسمعَتْ كلماتي من بهِ صَمَمُ 
أنامُ ملءَ جفوني عن شواردِها      
ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصِمُ
  
وقد صدق لعَمري، فما أكثرَ العميان الذين نظروا إلى أدبه! كالمعرّي والصفدي وابن سيده الأندلسي وطه حسين، بل إن بعضهم لم يعدلْ به أحدًا من الشعراء كشيخ المعرّة أبي العلاء، وقصة دفاعه عنه حين تصدّى للشريف المرتضى معروفة مشهورة.
وذلك أن المعرّي حضر مجلس الشريف المرتضى في بغداد، فجرى ذكر المتنبي يومًا فتنقَّصه الشريف المرتضى وذكر معايبه، فقال المعرّي: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلّا قوله:
«لك يا منازل في القلوب منازل» لكفاه فضلًا وشرفًا، فغضب الشريف المرتضى وأمر بسحبه برجله وإخراجه من المسجد، ثم قال لمَن يحضر مجلسه: أتدرون أي شيء أراد هذا الأعمى بذكر هذه القصيدة وللمتنبي أجود منها ولم يذكره؟ قالوا: لا. قال: إنما أراد أن يذمّني بقوله فيها:
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأنّي كامل

ولعلَّ عنوانَ كتاب المعري الذي شرح فيه شعر المتنبي وهو «معجز أحمد» يشهد بأنه لم يرَ مثله!
وما أكثر الصُّمَّ الذين سمعوا كلماتِـهِ وطربوا لها وعُنُوا بها، كحجَّة البيان الباقعة مصطفى صادق الرافعي، وقد كتب عنه في كتابه الرائع «وَحْيُ القلم» مقالًا ماتعًا يشهد بأنه استحوذ على إعجابه من جهة وإعجاب تلميذه العلّامة محمود محمد شاكر، صاحب كتاب المتنبي، وهو في تقديري خير كتاب أخرج عن المتنبي على كثرة ما أُلّفَ عنه، وثمة ثَـبـتٌ بما وضع عن المتنبي من دراسات وشروح ومراجع وتعليقات أربَـت مفرداته على الألفين عددًا، واستغرق تحبيره ما ينوف على خمسمئة صفحة اسمه «رائد الدراسة عن المتنبي» لكوركيس وميخائيل عواد، صدر عن دار الرشيد في بغداد سنة 1979.
وأما شوارده ونوادره... وهي البدائع التي تفرَّد بها، والروائع التي سارت بها الركبان، فقد نام المتنبي نومته الطويلة... ومازلنا نتداولها ونتغنى بها... ونختصم فيها ونتحَلَّق حولها... ولسنا بِدْعًـا في هذا، فالكل يهزج بها، وينشدها، بل إن الدهر أصبح من رواتها:
 وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي
إِذا قُلتُ شِعرًا أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِدًا
فَسارَ بِـهِ مَـن لا يَسيرُ مُشَمِّـرًا
وَغَـنّى بِــهِ مَـن لا يُغَنّـي مُغَـرِّدا

ومن صور دَوِيِّـه في أذني أنني إذا ما ضقتُ ذرعًا بزميلٍ أو ثقيل.. أو بغيضٍ أو رذِيل، وكنت مضطرًا إلى مجاملته ومصاحبته، أو إلقاء تحية الصباح عليه، وجدتُني أردِّد قوله:
ومن نكدِ الدُّنيا على الحُرِّ أن يرى
عدوًّا له ما مِنْ صداقــتــِهِ بُـــدُّ

 بل إن بيتَــه هذا لَيتجاوز حالَ الأفراد إلى حال الدول والكِيانات، ولعلّ أوضح مثال على ذلك الكِيان البغيض الذي زُرِع بين ضلوعِنا وهي تأباه وترفضه، بل تمقته وتبغضه، ولكنَّ أناسا منّا - أصلح الله أمرهم - أذعنوا لصداقته وألقَوا إليه بالمودَّة!
ولا ريب أن المتنبي عاش تجرِبة مُرَّة، ورأى من صراع الناس واختلافهم وتهافتهم نحو الاقتتال والبغي والظلم ما جعله يقول:
كُلَّما أَنبَتَ الزَمانُ قَناةً 
رَكَّبَ المَرءُ في القَناةِ سِنانا

بل تسمعه يقرر أن الظلم هو الأساس لدى كثير من الناس:
والظُّلمُ في خَلْقِ النُّفوسِ فَإِن تَجِدْ
ذَا عِفَّةٍ فلعِلَّةٍ لَا يَظْلِم 

ولهذا عزم أن يخوض مع الخائضين أحيانًا، ثم يقدّم الحذر فيمن يصطفيه ويختاره صاحبًا، لأنّ مجرد انتمائه إلى الأنام يدعو إلى الشك فيه:
وَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبًّا 
جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِابتِسامِ
وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ 
لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ

ثمَّ صار إلى اليأس المطبق من كل مَن حوله، لكثرة ما أصابه، فهان عنده كل شيء وما عاد يبالي بشيء:
رماني الدَّهرُ بالأَرْزَاءِ حتَّى
فؤادي في غشاءٍ من نبالِ
فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ
تكسَّرَتِ النِّصالُ على النِّصالِ

ومن صور دَوِيِّـه ذاك البيت الذي لم يبقَ صغير ولا كبير، ولا عالِم مثقف أو عامي أمِّيّ، إلّا حفظه وردَّده:
مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرءُ يُدْركُهُ    
تَجْرِي الرِّياحُ بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ

فكلُّ من رامَ يومًا حاجةً، له فيها أرَب، وبه إليها طلب، ثم حيلَ بينه وبينها، يتسلَّى عنها بهذا البيت المشهور.
وإذا ما نالها على جلالة قدرها وعزيز مطلبها، وقد بلغ به الجهد مبلغه، ونال منه التعب نيلَه، وأرهقه تطلابها، والسهر في سبيلها، والعناء في تحصيلها، رأيتَـه يردد قوله:
وَإِذا كانَتَ النُّفُوسُ كِبارًا 
تَعِبَتْ فِي مُرادِها الأجْسامُ

وإذا كان طَموحًا ماجدًا، لا يحدُّ من طموحه حدُّ، ولا ينال من مضائه وعزيمته كَلال أو ملل، رأيته يتمثّل بقوله:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ
فطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ
كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ
 
فالمتنبي إذن لا يتحدث عن نفسه فحسب فيما يقوله من شعر، وإنّما يتحدث عما يعانيه كل إنسان، ويعبّر عما يشعر به كل الناس، وقد عبّر عن هذا أدقَّ تعبير القاضي الفاضل حين قال إنّ أبا الطيّب ينطق عن خواطر الناس. جاء ذلك في خبر نقله الذهبي في «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام»:
«وقال ضياء الدين نصرالله بن الأثير: سافرت إلى مصر ورأيت الناس يشتغلون بشعر المتنبّي، فسألت القاضي الفاضل فقال: إنّ أبا الطيّب ينطِق عن خواطر الناس».

تفرُّد المتنبي
لم يكن المتنبي يرضى أن يُشبَّـه بأحد، فشأوُه أبعد من أن يُدرَك، ومقامه أعلى من يُمَسّ:
أَمِطْ عنكَ تمثيلي بما وكأنَّهُ    
فما أحدٌ فوقي وما أحدٌ مثلي

وهو لا يرى فضلًا لممدوحه عليه، استمع إليه يفضِّل نفسه على كل من حلَّ في مجلس سيف الدولة، دون أن يستثني رأس المجلس وهو سيف الدولة نفسه:
سيعلم الجمع ممّن ضم مجلسنا    
بأنني خير مَن تسعى به قَدمُ

فهمَّتُه أبعد من الثريّا، وهمُّــه أعظم من أن يُذكر، وغايتُــه أبعد من أن تُنال، وهو برغم ما مرَّ به من أهوال، وما عاناه من أخطار، وما أصابه من إحباط، ماضٍ بعزيمةٍ حذَّاء لا يخبو أُوارها، وهمةٍ عالية لا تفْـتُـر، ومَضاءٍ دونه كلُّ مضاء، لا يفتُّ في عضده شيء، ولا يحول دون ما يروم حائل:
أبدًا أقطعُ البلادَ ونجمي 
في نحوسٍ وهِـمَّتي في سعودِ

بل هو يرى نفسه مناطَ الفخر ومَعْـقِدَ العزِّ والمجد:
لَا بِقَوْمِي شَرُفْتُ بَلْ شُرِّفُوا بي 
وَبِنَفْسِي فَخَرْتُ لَا بِجُدُوْدِي

كيف لا وهو الذي استكمل أدوات الفخر شجاعةً وإقدامًا، وسخاءً وكرمًا، ووفاءً ومروءة، وبيانًا وشعرًا:
فالخيلُ واللَّيلُ وَالبَيدَاءُ تَعرفُنْيِ
وَالحربُ والضَّربُ والقرطاس والقلم

بل هو أبو المكارم والعلا، وهو الفتى كل الفتى!
لتعلمَ مصرُ وَمَن بالعراق وَمَن بالعواصمِ أَنِّي الْفَتى

كلمة فذة
ولعل خير ما أختم به المقال كلمةٌ فذَّة جليلة، تلخِّص كل ما جاء فيه، كتبها الناقد المعروف عبدالرحمن شكري في مقال له بعنوان «المتنبي وسرّ عظمته» يقول فيها:
«وإذا نظرت في شعر المتنبي وشعر غيره من كبار الشعراء، وجدت شاعرًا قد يماثله أو يبزّه في صفة، ويماثله شاعر آخر في صفة أخرى من صفات الجودة، وهو بالرغم من ذلك أوفر نصيبًا من الشهرة».
وتُرى لغيره من الشعراء أبياتٌ كثيرة في الحكم والأمثال والأقوال المأثورة، تدلّ على فطنة بالنفس، وخبرة في الحياة، وتوفيق في الصنعة، ولكنّها لم تسِرْ كما سيَّر المتنبي شعره في هذه المعاني.
فالبحتري أكثر منه نصيبًا من طلاوة الصنعة، وأبو تمام من أساليب البيان، والشريف من الوجدان وسلامة الفطرة، وابن الرومي من الأوصاف، والمعرّي من النظرات في الأخلاق والحياة، ولكن ما من دَوِيٍّ أثاره أحد هؤلاء إلّا ويخفت بجانب ما أثار المتنبي، حتى ليصدُق فيه قوله:

وتركُكَ فِي الدُّنْيَا دَوِيًّـًا كَأَنَّمَا
تداولُ سمعَ الْمَرْء أنملُهُ الْعشْرُ ■