عبدالرحمن منيف... كاتبًا ساخرًا

عبدالرحمن منيف... كاتبًا ساخرًا

منذ صدور روايته الأولى، «نحن عبرنا الجسر»، تعرّف الجمهور العربي إلى عبدالرحمن منيف، كاتبًا روائيًا متمكنًا من أدواته، متصرّفًا في لغته، مقتدرًا في معماره الروائي الذي يشيّد بنيانه كأعمدة الرخام العالية في المدن التاريخية. أما عالم منيف، فتسيطر عليه الأجواء الحزينة، من فظاعات انتهاك حقوق الإنسان في «شرق المتوسط»؛ إلى تأريخ الانقلاب العسكري على محمد مصدق، بعد تأميمه النفط في إيران مطلع الخمسينيات في «سباق المسافات الطويلة»؛ والنكبة العربية الكبرى في أعقاب هزيمة 1967 وما خلّفته من إحباط وخيبات في «حين تركنا الجسر»... كل ذلك جعل منه كاتبًا جادًا صارمًا.

 

على جدية منيف وصرامته في الكتابة، والتزامه بتناول القضايا الكبرى التي تهمّ شعوب الشرق، من التنمية إلى الحريات وحقوق الإنسان وخيبات السياسة والقمع، تتجلى لديه، وسط كل تلك الأجواء الحزينة، بعض اللفتات السحرية الساخرة التي تنبثق كلمعات البرق وسط العتمة الداجية.
وتأتي ثلاثية منيف الشهيرة «أرض السواد»، لتدوين تاريخ العراق العثماني، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهي روايةٌ تغصّ بمفردات البيئة الشعبية العراقية، كلماتٍ وأمثالًا وأجواءً، حيث كان العراق يومها مجرد ولاية صغيرة تابعة للسلطان العثماني، يعيّن بفرمانٍ من يشاء ويعزل مَن يُريد، من المتنافسين الكثر الواقفين على بابه، مع اشتداد التنافس بين السفيرين اللدودين، البريطاني والفرنسي، على فرض النفوذ بدوائر السلطة في بغداد.
تؤرّخ الرواية للمجتمع البغدادي بناسه وأجناسه، بأفراحه وأتراحه، بفقرائه وتجّاره، بفسّاقه وكادحيه، وبوشاياته وتناقضاته وتنافساته... عاصمة قديمة أخنى عليها الدهر، فأصبحت مجرد شبحٍ لمجدٍ غابرٍ قديم.
على امتداد ثلاثة أجزاء، وأكثر من 1450 صفحة، يتناول منيف واقع المدينة وما يعصف بها من مؤامرات واغتيالات، وفيضانات وغزوات، مفتتحًا بالساعات الأخيرة من حياة الوالي الكبير سليمان باشا، وهو يوصي أبناءه وأزواج بناته بالاتحاد بعد أن يغمض جفنيه الإغماضة الأخيرة. وهو حلمٌ سرعان ما تبدّد مع انفجار الأطماع والمطامح الشخصية بينهم، حتى استقرت الكرة أخيرًا بإسقاط حكم ابنه سعيد، على يد زوج ابنته داوود باشا، الذي دخل بغداد فاتحًا من الشمال.

شخصيات متنوّعة
في «أرض السواد»، يدير منيف العديد من الشخصيات الحيوية، عسكرية ومدنية، ويحرّكها على مسرح الأحداث، في تلك الفترة التاريخية التي كانت تشهد تراجع الدولة العثمانية واشتداد عللها وتراخي قبضتها تدريجيًا عن الولايات البعيدة والقريبة، ومن ضمنها العراق، الذي ظلّ مطلوبًا لدفع الإتاوات المتزايدة سنويًا لإسطنبول.
جوقةٌ كبيرةٌ من الشخصيات المتنوّعة التي يعجّ بها المجتمع، من جنود وعساكر عتاة فاسدين، وصيارفة وتجار جشعين، وموظفين ورجال دين وبحّارة وروّاد مقاه بسطاء، وأصحاب حوانيت ومغنين، وربات بيوت ونساء صالحات وأُخريات طالحات، وراقصات وبائعات هوى. 
روايةٌ تتكلّم بصورةٍ جوهرية عن الصراع الإقليمي والدولي على أرض الرافدين، وعلى هذه الخريطة الاجتماعية الواسعة، ينثر منيف بعض الشخصيات التي تخفّف من جهامة المشهد وصرامته... مثل سيفو، ساقي الحارة الذي قضى أكثر من ثلاثين عامًا في نقل الماء من النهر إلى البيوت والدكاكين منذ بزوغ الفجر حتى مغيب الشمس؛ وحسون، الشاب الضائع الأهبل الذي يتخذه سكان الحارة مادةً للضحك، ويطلقون حوله الشائعات؛ وناطق نوري، كاتب الوالي الذي يدبّج التقارير الطويلة المليئة بالسجع والتزاويق، لسرد وتضخيم كل حدث صغير، فيعمل من الحبّة قبة، فيتلقاها الوالي بابتسامة ساخرة دون اكتراث!
إلّا أن الشخصية الذي رسمها منيف، بصورة أكثر تحديدًا، هي المحاسب المالي نادر أفندي، وهو من القلائل جدًا ممن أبقى عليهم الوالي الجديد داوود باشا، من عهد سلفه، لغرضٍ في نفسه. فهو رجلٌ بخيلٌ بخلًا معتّقًا، كأنه يقفز خلسةً بعد ألف عام، من بين أوراق كتاب البخلاء، الذين جمع الجاحظ قصصهم وحكايات بخلهم وتنافسهم في الشح والتقتير.

بخيل منيف
نادر أفندي هو بخيل عبدالرحمن منيف، فهو عندما يتلقى أمرًا من الوالي بصرف مبالغ من المال للقادة العسكريين أو رؤساء القبائل والبدو، أو حتى للموظفين، يشعر بآلام في القلب وبمغص في المعدة! وكثيرًا ما يتدخل لتأخير أمر الصرف أو مناقشة من جاء لتسلّم المال. وكان يتقن أكثر ما يتقن، ترديد كلمة «ماكو»، ويسرع لإغلاق باب غرفته بالمفتاح حين يتوّقع أن يأتي أحدهم لطلب المال.
كانت لنادر أفندي هوايةٌ تستولي على اهتمامه كله، بأن يُخرج مقدارًا من الليرات الذهبية المصفوفة بعناية داخل الخزانة الكبيرة، وبعد أن يتأمّل هذه الكومة بفرح ظاهرٍ لا يستطيع إخفاءه، يبدأ بإسقاطها من يدٍ لأخرى، حيث يضمّ أصابعه كمخروط، ثم يبدأ بإنزالها بسرعات متفاوتة، كي تستشعر أصابعه المعدن المقدس، ويطرب على صوته وهو يتقافز وينتشر نتيجة تصادم القطع الذهبية ببعضها. 
كانت هذه الهواية تستغرق منه أحيانًا وقتًا طويلًا، لكن «ذروة الانفعال تأتي حين يقذف ليرةً بيده اليمنى ليتلقفها باليسرى، فتستقر في يده، وكان يقوم بهذه اللعبة بإتقانٍ بالغ، وبلذةٍ تجتاح جسده كله! وفي هذه اللحظات يكون نادر أفندي في منتهى التألّق وأقصى حالات الفرح»!
كان يقول لنفسه، وباللهجة الدارجة التي وسمت الرواية، وهو يقلّب تلك العملات الرنانة: «الفلوس تونّس، شوفتها تردّ الروح، وصوتها يبلّ القلب». وفي لوحة ممعنةٍ في السخرية، يصف إطفاء نادر أفندي النور آخر الليل في غرفته المتواضعة، التي لا تحتوي على غير سرير وبضعة مقاعد قديمة، ثم يخاطب نفسه في الظلام: «اللي معه فلس يساوي فلس، أما المفاليس فهؤلاء الله غاضب عليهم، ومثل ما عاقبهم الله في الدنيا سيعاقبهم في الآخرة، لأنه أعطاهم عقلا، وقال لهم: هذا مُلكي، وأنت تصرّف، خلّ عندك عقل ودوّر عن خبزتك»، وهي نوعٌ من الفذلكات التي كانت تتكرّر على ألسنة بخلاء الجاحظ في الدفاع عن مرضهم النفسي أو نقيصتهم الأخلاقية.

نادر أفندي
هذا البخل والتقتير جعل الآخرين يمقتون نادر أفندي، ويعتبرونه «أبخل من كلب»، فقد كان يؤخّر وجبة الغداء عن موعدها لكي يوفّر على نفسه وجبة العشاء! وحين يصرف الرواتب أو الأعطيات التي يأمر بها الوالي، يشعر بالمرض أو تدهمه الحمّى فعلًا... ويصبح متوترًا ومستثارًا عصبيًا، ويمكن لأية كلمة أن تُخرجه عن طوره.
 وفي إحدى المرّات غضب عليه أحد المراجعين قائلًا: شغلتك يا أفندي أن تعد الفلوس، مو شغلتك تقول ليش ولمن؟ أو يصير وما يصير؟ هل فهمت أم أفهّمك بطريقة أخرى؟ فيردّ عليه: أتهدّدني؟ فيجيبه حانقًا وقد نفد صبره: افهمها كما تريد!
كان نادر أفندي ينظر إليه غير مصدّق، وأخذ يرتجف من الغضب والغيظ، حيث لم يتعوّد على سماع لغةٍ معاديةٍ وبمثل هذه الحِدّة، رغم علمه بأنهم جميعًا يكرهونه لتشدّده في صرف المال، ما عدا الوالي الذي يثق بطريقة صرفه ويطمئن من ناحية حرصه على توفير الأموال. في لحظة المواجهة تلك، تهاوى نادر أفندي على الأرض، و«انزلق كما ينزلق كيس حنطة فقد توازنه، وما كاد يتكوّم هكذا حتى أخذ ينشج. كان الصوت متقطعًا أول الأمر، ثم أصبح نحيبًا». 
هذا المنظر أشعر الطرف الآخر بأنه قسا عليه أكثر من اللازم، فحاول تهدئة الموقف، وطلب منه أن يغسل وجهه عن الدموع ويخزي الشيطان، فردّ عليه قائلًا: «قل للباشا إن نادر مات! وانلعن والد والديه، كل شيء خلص (انتهى)، وليبحث عن واحدٍ غيري».

ميزة لا منقصة
كانت الكلمات تخرج متقطعةً ويائسةً، من فمٍّ يصطك ويختنق بالدموع. وبصعوبةٍ تم نقله من المكان الذي تهاوى فيه إلى غرفته، ووُضع في سريره بعد أن رفض تغيير ملابسه. كان يرتجف وجسده كله ينتفض، يتقلّص ويتمدّد لا إراديًا، وربما ارتفعت حرارته أيضًا!
ولم يكن الباشا، والي بغداد، ليفرّط في خدمة نادر أفندي، لأنّه حارس أمين للمال، لكنّه كان يضيق به أحيانًا لتشدّده وتضييقه في صرف المال. وهي ميزةٌ سياسيةٌ اقتصاديةٌ أكثر مما هي منقصةٌ أخلاقيةٌ، فلذلك يجب الإبقاء عليه ومعاملته بالسياسة والمداراة. فعندما نُقل إلى الوالي ما حلّ به من انهيار وسقوطه في وصلةٍ من البكاء والحمّى، وطلبه الإعفاء من مهمته، بعث له من يضمّد جرحه، ويمنّيه بالأرباح القادمة بعد الانتهاء من الغزوة القادمة، «فكان كلامه يدخل قلبه مباشرةً، فيستمع له بكل جوارحه، ويفتح عينيه على اتساعهما، والبؤبؤان يتحرّكان بسرعة كبيرة»! وبعد الانتهاء من كلامه حاول أن يبتلع الإهانة السابقة، ويقبل الاعتذار، ولكن بعد أن يفجّر قنبلة، بطرحه شرطًا واحدًا ومهمًا: «هذول اللي يطلبون الفلوس صبح وعشية كفّار! ماكو رحمة بقلوبهم، فأريد كفيل»! كان يريد شخصًا محايدًا يشهد بحاجة المراجعين الفعلية للمال: «أما إذا صارت الدنيا قوترة (فوضى)، وبس هات، فلو كان عندي مال قارون راح يخلص ونقعد على الحصير»!
وظلّت هذه الحالة النفسية مسيطرةً عليه حتى استدعاه الوالي نفسه ذات يوم، وبشّره بقرب عودة الجيش من حملة تأديب لقبائل البدو غرب العراق، محمَّلًا بالغنائم والأسلاب الكثيرة، ما يستدعي الاستعداد لجردها تمهيدًا لضمّها إلى الخزانة، ومن هو أخلص وأكفأ وأقدر من نادر أفندي للقيام بهذه المهمة؟
ويمعن منيف في رسم ملامح بخيله بالقول: «كان يتراكض في الساحة، وينادي ويصرخ في آن، حاملًا دفترًا كبيرًا في يده للجرد، والأوراق البيضاء تتطاير من يده»! وحين عاد بعد ثلاثة أيام إلى مقر عمله بالقصر، كان مهدود القوى، فنام بعد أن انتهى من جرد الغنائم، ومرّ في طريقه بإسطبل الخيول لعدّها، ونام تلك الليلة نومًا عميقًا، ولم يستيقظ إلا بعد أن ارتفعت الشمس مقدار رمحين أو ثلاثة في ذلك الصباح! ربما كانت تلك الليلة من أسعد الليالي التي مرّت عليه في حياته كلها.

مطالب غير مشروعة
وفي واقعةٍ أخرى، طلب نادر أفندي لقاء الوالي ليراجعه في أمر زعماء شيوخ القبائل الذين جاءوا يطلبون مخصّصات إضافية، فهو يعتبرها مطالب غير مشروعة، ومخالفة للشرع والضمير ونواميس الأرض وقوانين السماء! فـ «هؤلاء الشيوخ الهتلية، كل يوم خرجية جديدة، وفوقها إكرامية، حصان أو فرس، ومن لا يريد حصانًا يريد صرّة ذهب». وحين قابل الوالي حاول بصعوبةٍ أن يمنع نفسه من البكاء! كان صوته يرتجف، ووجهه ممتقعًا، ولم يقوَ على إخفاء انفعالاته، وحاول الوالي أن يهدّئ من روعه ويواسيه ويشجّعه بالقول: «المال يتعوّض ولكن الرجال ما يتعوضون. ولو كان هناك ناس مثلك بحرصك، كانت الدنيا بألف خير»، فيردّ عليه: «هؤلاء ما يشبع عينهم إلّا التراب، وما يعرفون إلا كلمة هات، ولو أردنا أن نوافق على كل ما يطلبون سنصبح على الحصير»!
وحين تناهى إليه خبر التخطيط لحرب أخرى في الجنوب، مما يعني ضرورة أن يتولّى تدبير الأموال اللازمة لتمويلها، لزم وَكْرَهُ وامتنع عن لقاء الآخرين، وتحوّل إلى شخص آخر، يتجوّل في أنحاء السراي، بملابس رثّة وعيون زائغة، وقد طالت لحيته وأخذ يكلّم نفسه، رافضًا الكلام مع الآخرين أو حتى الردّ على تحيتهم!
وحين تزداد عليه الضغوط النفسية نتيجة زيادة المطالبات المالية ويفقد صبره، يرفع يديه إلى السماء مستنجدًا: «يا رب يا رحيم! إذا كنت تحبّ عبدك نادر بن موسى فلتأخذه عندك، تموّته، تخفيه، تفنيه... لأنك ترى كل شيء وتعلم كل شيء»! ■