الجزائري محمد الصالح في بولندا خواطر وذكريات رحلة سياحية

الجزائري محمد الصالح في بولندا  خواطر وذكريات رحلة سياحية

  يُعد محمد الصالح رمضان من الشخصيات البارزة في الجزائر، وهو من مواليد 1916 بالقنطرة المتوسطة شمال ولاية بسكرة بالجنوب الجزائري، كان من تلامذة الشيخ ابن باديس، مؤسس جمعية العلماء المسلمين، وظل الصالح مدرسًا ومصلحًا دينيًا واجتماعيًا طوال حياته، وخلّف آثارًا مدوّنة منها كتبه «تفسير ابن باديس»، و«القصص الهادف»، و«من هدي النبوة» و«جغرافية الجزائر والعالم العربي»، و«نزهة الخاطر في قريض الأمير عبدالقادر»، وله كذلك إبداعات شعرية ونثرية كديوان «ألحان الفتوة»، ورواية «الخنساء»، ومسرحية «الناشئة المهاجرة»، ورحلة «سوانح وارتسامات عابر سبيل»، إضافة إلى نشاطاته في الندوات الفكرية والثقافية، واللجان الوطنية للتعليم والتربية، توفي، يرحمه الله، عام 2008.

 

سافر محمد الصالح في رحلة سياحية واستطلاعية، لهدف المشاركة في ندوة عالمية للشباب نُظمت في عاصمة بولندا (بولونيا)، وهي وارسو أو فرصوفيا عام 1955، أي سنة بعد انطلاق ثورة التحرير بالجزائر، وكان برفقة صديقه الأديب الحفناوي هالي: «في وفد صغير من الكشافة الإسلامية الجزائرية التي كان الكاتب من بين قادتها، وذلك ضمن وفد عام يتكون من مئة وثلاثين عضوًا يضم عددًا من جمعيات الشباب والطلبة وأعضاء من فرق رياضية وفنية، من بينهم أيضًا فريق الإذاعة الجزائرية»، وقد استغرقت الرحلة حوالي عشرين يومًا.

عنوان الرحلة
  يُعد العنوان عتبة نصية تمكّن القارئ من الولوج إلى العالم الداخلي للعمل الأدبي، وتساعده في فهم مبررات العمل، ودوافعه الخفية والمعلن عنها، وقد أخذ العنوان مساحة مهمة في الدراسات النقدية المعاصرة، حتى أنها رهنت نجاح العمل الأدبي بنجاح الكاتب في اختيار العنوان، ويؤكد جان كوهن أن العنوان: «يمثّل المسند إليه أو الموضوع العام، وتكون كل الأفكار الواردة في الخطاب مسندات له، إنه الكلّ الذي تُكوّن هذه الأفكار أجزاءَه».
اختار الصالح عنوانًا مميزًا لرحلته، حمل مسحة أدبية شعرية في شقه الأول «سوانح وارتسامات عابر سبيل»، وحمل صفة الكتابة الصحفية التقريرية في شقه الثاني، «رحلة إلى مهرجان الشباب والطلاب العالمي في فرصوفيا عام 1955م»، وهو ما يوحي أن الكاتب كانت لديه رغبة في التعبير عن وجدانه، والإفصاح عن بعض الأفكار التي عنّت له أثناء الرحلة، أو بعدها، لكنه لم يشأ أن يحرم قراءه من الاطلاع على تفاصيل المهرجان، بل أراد تزويدهم بالمفيد والمختصر عن جغرافيا وتاريخ بعض المدن الأوربية التي زارها في رحلته هذه.
وإن كانت السوانح والارتسامات، أي الخواطر والمشاهدات، من خصائص التدوين الرحلي، فإنّ المثير للاستغراب هو توظيف الصالح المصطلح الفقهي «عابر سبيل»، بدل استخدام «مسافر» أو «رحّال»، ولعل سبب اختياره هذه العبارة أنه كان متأثرًا باللغة الدينية وبالقرآن الكريم، أو لأنه لم يعرف عنه كثرة السفر، ولا التأليف فيها، وهذه الرحلة هي الوحيدة التي كتب عنها، ويستدعي لفظ عابر سبيل معنى الإحسان وحُسن المعاملة، ويدلّ على الوحدة والبُعد عن الأهل والوطن، وخفة حمل المسافر، وعدم إقامته بالمكان فترة طويلة، وبالتالي الضعف المادي والمعنوي في تلك الفترة من الرحلة (فترة الاحتلال الفرنسي).

أقسام كتاب الرحلة 
يتكون كتاب الرحلة من أقسام ثلاثة، أوّلها قسم «الرحلة إلى بولونيا»، وثانيها: «فرصوفيا عاصمة المهرجان»، أما القسم الثالث والأخير فعنونه الكاتب بـ «من وحي الرحلة»، ونستنتج من هذا التقسيم أن الكاتب أراد لرحلته أن تجمع بين القديم والحديث في أدب الرحلات؛ حيث حافظ على التقاليد الفنية في القسم الأول، إذ تعرّض لسرد أحداث السفر والانتقال من الجزائر المنطلق إلى فرصوفيا المقصد، مرورًا بعدة محطات هي بمنزلة المعبر في أدب الرحلة، كما ضمن هذا السرد العديد من الوقفات والمقاطع الوصفية الجغرافية والتاريخية المتعلّقة بالأماكن الواردة في رحلته، وختمه بسرد أحداث العودة إلى الوطن، مما يدعو القارئ إلى تلمُّس بعض جماليات السرد الرحلي القديم الممتع والمفيد في الآن ذاته.
وارتبط القسم الثاني بضروريات التدوين في هذا الفن حديثًا، خصوصًا أن الكاتب له اهتمامات بالكتابة الصحفية، وبالسياسة والتربية والتعليم، وهو ما يخوّل له التعبير عن تأملاته، وأحاسيسه حيال ما شاهد وقابل أثناء رحلته، كما أن التدوين للرحلة ونشرها جاء بعد حوالي ربع قرن، فنجد الصالح يصف مشاهداته ويسجل انطباعاته عن فرصوفيا، وعن المهرجان الشبّاني الذي حضره، وتوسع في آخر الرحلة ليطول حديثه: «الناس والطبيعة وآثار الحرب العالمية الثانية على بولندا، ونهضتها بعد كل ما جرى لها، مع الحلم بأن تستقل الجزائر أيضًا وتنهض وتتمتع بالحرية، ولذلك فإن في الرحلة ربطًا بين أحداث الثورة (1955) وبين مشاعر عابر السبيل وهو في أوربا يلتقي شباب العالم المتحرر».
 
خصوصية أسلوبية
يأتي القسم الثالث «من وحي الرحلة» متفردًا بخصوصيته الأسلوبية عن القسمين السابقين، حيث تضمّن قصيدتين طويلتين، اقترنت الأولى بموضوع الرحلة ذاته، وعنونت بـ «فرصوفيا المحطمّة» استرجع فيها حدث تدمير المدينة إبان الحرب العالمية الثانية، ففاضت أبيات القصيدة حزنًا، وزخرت بصور الخراب، والضياع، لكنّه ما يلبث أن يقابل هذه الصورة الداكنة بصورة فرصوفيا حية من جديد، أما القصيدة الثانية فقد كانت «شيخ من صحراء الجزائر في مهرجان بوارسو» جاءت في 102 بيت، تناول فيها هيام رفيقه الحفناوي بفتاتين من البلد، متوهمًا اختراع أداة قياس لمشاعر الصديق حيال الفتاتين.
وهذه الطريقة في المزج بين النثر والشعر في رحلة الصالح جاءت في موضعين: قسم الرحلة الأول الذي جاءت فيه بعض الأبيات من شعره، أو من شعر غيره؛ للاستشهاد، ولتقوية المعنى، وهذا شائع جدًا في أدب الرحلة منذ القديم، وظهر الشعر أيضًا في القسم الأخير الذي يمكن تسميته بملحق، لأنه خالٍ من السرد القصصي، وهذا مما يبقى قليلًا في كتب الرحلات.
لكنّ هذه الرحلة لا تنعدم فيها وسائل الكتابة الرحلية المعاصرة؛ إذ لم يكتفِ الكاتب باللغة النثرية منها والشعرية للتعريف برحلته، بل دعّمهما بصور شخصية التقطها أثناء رحلته، وصور أخرى لمعالم تاريخية، ونصُب تذكارية مخلدة للأحداث التاريخية، وصور لنشاطات إعادة البناء لمدينة فرصوفيا.

مسار الرحلة وأبرز محطاتها
تقدّم رحلة سوانح وارتسامات صورة واضحة عن خط سير الرحلة من الجزائر إلى بولندا، وتتسم الأحداث في الذهاب بشيء من التباطؤ الزمني، مقارنة بخط سير العودة الذي تقلّصت فيه المراحل، واختزل فيها الزمن بشكل كبير، ويلاحظ القارئ سحر الرحلة وتميّزها عن العديد من الرحلات الجزائرية إلى أوربا؛ إذ لم تعتمد المسار الجوي فحسب، بل تنوعت لتشمل الرحلة البحرية أولًا يوم 25 يوليو 1955 في مرحلة (الجزائر- ميناء مرسيليا الفرنسي)، ثم الرحلة البرية عبر القطار والسيارة في داخل المدن الأوربية من فرنسا إلى بولندا، مرورا بإيطاليا، والنمسا، وتشيكوسلوفاكيا، وعند العودة يتجدد السفر البرّي عبر القطار دائمًا، لكنّ الرحال يتوجه بعد مرحلة النمسا إلى سويسرا، ثم المدن الفرنسية وصولًا إلى مرسيليا مجددًا، ومنها العودة إلى الجزائر جوًّا يوم 14 أغسطس 1955.
     
لغة الرحلة وأسلوبها
استطاع الرحال المراوحة بين سرد أحداث التنقل من مدينة إلى أخرى داخل البلاد الأوربية، ووصف مشاهداته التي أثّر عليها انبهاره بالخضرة المهيمنة على المناظر، والتي لا تكسرها سوى زرقة البحر والسماء، ولهذا نجد أسلوب الكتابة في الرحلة يتأرجح بين الواقعية التسجيلية التي يفرضها النوع الأدبي، وهو أدب الرحلات، والرومانسية التعبيرية التي أنتجتها طبيعة الرحال الخاصة، وميوله الكبير للإبداع الشعري والقصصي.
لقد عبّر الصالح عن حبه لكل ما هو أخضر في الطبيعة صراحة، إذ قال: «وكنت لا أزال أحب الخضراء (النباتات) وأرتاح لها، فكلما رأيتها انشرح صدري وارتاح خاطري... فأنا في أحضان الطبيعة سعيد كالطفل في حضن أمه» (الرحلة، ص 73).
ولشدة حب الصالح للطبيعة فقد عدّ أحوالها المتقلبة سببًا في تقلُّب مزاجه وأحاسيسه: «أما أنا فشديد التأثر بمشاهدة المناظر الطبيعية إلى حد محاكمتها - إن صح التعبير - فإذا تجهمت السماء مثلًا تجهّمت أساريري، وإذا أشرقت الشمس أشرقت ملامحي، وكلما رأيت منظرًا منها ارتسمت له صورة في ذهني، وتأثر لها مزاجي، وقد يظهر ذلك على سحنة وجهي...» (الرحلة، ص 72). كما بدا الكاتب في جلّ مراحل سفره معجبًا بما شاهده، مشدوهًا للجمال اللامتناهي لبلاد أوربا، فها هو في أول موعد له مع هذه الصور الجميلة في مرحلة سفره من مرسيليا إلى إيطاليا، مرورًا بمدن فرنسا الساحلية، وهي تولون وكان ونيس يقول: «هكذا مررنا بالساحل اللازوردي مرور الكرام، نتمتع بالنظر إليه من القطار، فنرى حمرة سقوف منازل المدن وبياض جدرانها، بين خضرة المزارع والغابات والأحراش، وبين زرقة البحر والسماء، في يوم مشمس منعش، والقرى الصغيرة والمغاني المنتشرة على ذلك الساحل الأخضر، فتخالها قطعًا من الجواهر المختلفة الأشكال والألوان، منثورة على بساط سندسي من القطيفة الخضراء، يا لجمال المنظر الطبيعي الأخاذ!». (الرحلة، ص 56). 
  ويتردد الأسلوب التشبيهي في وصفه للقطار الذي كان «يتلوى في سيره كالثعبان طوال الليل عبر المضايق والمنعرجات، وبين السهوب والكثبان». (الرحلة، ص 56)، ويشطّ الخيال بالكاتب بعيدًا، ويبدع في تغيير منظور رؤيته؛ لحظة تأمله في عظمة الجبال وشموخها، فيتخيل نفسه أعلى من تلك الجبال الشوامخ، ومن ذلك القطار الذي يسير بينها راكبًا الطائرة أو المنطاد، فيصير القطار بعد أن كان ثعبانًا: «أشبه ما يكون بيرقة صغيرة أو دودة (أم الأربعة والأربعين) بالنسبة لعظمة هذه الجبال» (الرحلة، ص 71).

 لغة مجازية
وقد امتدت هذه اللغة الشعرية والمجازية إلى مقاطع الوصف للمدن والعمارة، والإنسان، ومثالها وصفه لميناء مرسيليا الذي «يقوم على لسان من البحر طويل يتوغل في قلب المدينة كالسيف يقسمها نصفين متعادلين» (الرحلة ص 55)، وإن كان الكاتب في هذا المقطع محايدًا في وصفه لهذا الميناء الفرنسي، غير مبالٍ بجماله، وهذا في زمن الرحلة، فإنه سبق أن أعرب عن مشاعره الحقيقية حيال هذا المكان قائلًا: «هذه مرسيليا أكبر مدن فرنسا بعد باريس تبدو لنا من بعيد، وهي بوابة فرنسا في الجنوب على البحر الأبيض المتوسط، تقع شرقي نهر الرون وغربي ميناء طولون، ذلك الميناء العسكري العنيد الذي هجم علينا منه جيش الاحتلال الفرنسي سنة 1830، ومن هذين الميناءين، المدني والعسكري، توالت علينا قوافل الاستعمار والاستغلال والإذلال، كالجراد تستولي وتلتهم كل شيء بلا هوادة ولا رحمة، وقد تكبدنا منها المصاعب والمصائب والويلات طوال قرن وثلث قرن، ذقنا فيها المذلّة والهوان والاحتقار، وعرفنا فيها الجهل والفقر والحرمان، بعد العزة والسيادة والسلطان» (الرحلة، ص 54).
وفي وصفه للطريق نحو إيطاليا بالقطار تحدث عن الريفيرا، ومدينة جنوة الإيطالية، التي لم يدخلها، بل كانت: «تتراءى لنا من بعيد وكأنها مسرح روماني محصور بين البحر والجبل» (الرحلة، ص 64)، غير أنّ الرحال توقّف في المدينة التالية لجنوة وهي مدينة فينيس (البندقية)، وأفرد لها مساحة مهمة من الوصف في رحلته، وقد انبهر بموقعها الخاص، وبطبيعة الحياة فيها، ولم يهمل ميزة المدينة من أنها كانت قبلة السيّاح من كل مكان، ومن نماذج وصفه عن فينيس قوله عنها وعمّا تمتاز به: «بين مدن العالم من تلك الشرايين المائية الكثيرة التي تتخلل أحياءها وعماراتها، وتقوم مقام الأنهج والشوارع والطرقات، وتلك الزوارق والقوارب والمراكب السابحة فيها، تجوس خلال الديار، مثل السيارات والشاحنات، كوسيلة للنقل والمواصلات... يشقّ المدينة القنال الرئيس الكبير فيقسمها شطرين... علمنا من بعد أنها تبلغ 160 قناة تعلوها مئات الجسور والقناطر». (الرحلة، ص 65).

القيمة العلمية للرحلة
إن كان ما سبق من نماذج تصويرية قد اتخذ الطابع الرومانسي والجميل لأنه ارتبط بزمن الرحلة وأحداثها، فإنّ الكاتب استطاع تخفيف رومانسيته بوصف الواقع، وسرد ماضي المدن والمراحل، فامتزج في هذه الرحلة الفن بالتاريخ؛ والخيال بالواقع؛ لقد كان الرحال مهتما بالآثار والمعالم، فوصف ما حدث للعاصمة فرصوفيا على يد ستالين وهتلر، ووصف نهر الفستول، وقصر الثقافة ومتحفه وصوره، كما عرّف ببعض المدن الكبرى التي مرّ بها ذهابًا وإيابًا، مثل فيينا النمساوية، وبراغ في تشيكوسلوفاكيا، وجنيف في سويسرا، وليون الفرنسية.
وتوسع الصالح في الحديث عن بولندا تاريخًا وجغرافية في القديم والحديث، وأخبر عمّا نعم به الرحال مع جموع الوفود القادمة للمشاركة في المهرجان من حُسن الاستقبال والترحيب في فرصوفيا، مكان المهرجان، هذه المدينة التي تعرّضت للتدمير من قبل الألمان إبان الحرب العالمية الثانية، لكنّ أهلها ما لبثوا أن شرعوا في إعادة بنائه، فلا تسمع في المدينة إلّا أصوات آلات الحفر، والجرّافات، ولا ترى إلّا العمال وهم في عملهم منشغلون، والشاحنات وهي تذهب وتعود لنقل مواد البناء، أو الأنقاض: «وأول ما يصدم الزائر في فرصوفيا الأتربة والغبار المنتشر في كل مكان بسبب حركة البناء الدائبة» (الرحلة، ص 94).
وتناول الكاتب في قسم الرحلة جميع تفاصيل المهرجان، وما أقيم به من نشاطات في المسارح ودور السينما والساحات العامة، واعتذر من أنه مهما بذل من جهد في وصف مجريات المهرجان فإنه لن يستطيع إعطاء صورة حقيقية له؛ لأنّ العديد من الحفلات واللقاءات كانت مبرمجة في وقت واحد وفي أماكن متعددة ومتباعدة.
وفي حديث الرحال عن مدينة جنيف، ركز الصالح على نظافة المدينة، وجمال الشوارع واتساع المساحات فيها، كما عيّن ما يلفت انتباه السياح فيها كقوله عنها: «تقع على الطرف الغربي للبحيرة الرائعة المسماة باسمها (بحيرة جنيف)، وهي قريبة من الحدود الفرنسية، ليشق المدينة نهر الرون فيقسمها جزأين؛ يقع الجزء القديم منها على الضفة اليمنى والحديث على اليسرى». (الرحلة، ص 105).

الصالح مدافعًا عن حرية الشعوب
لم تجعل رحلة سوانح وارتسامات الأوربية كاتبها ينسى وطنه، أو ينبهر بالغرب من دون وعي، كتلك الرحلات التي كانت تدعم الاحتلال الفرنسي للجزائر، وتشجع على الخضوع للحضارة الغربية المتقدمة، أشهرها الرحلات الثلاث إلى باريس: رحلة سليمان بن صيام (1852)، ورحلة أحمد ولد قاد (1878)، ورحلة محمد بن الفغون القسنطيني (1902)، بل ظل الصالح يذكّر في كل مرحلة بحال الجزائر المحتلة والسيئة، وبأفعال فرنسا فيها، فها هو في مرحلة الإبحار الأولى نحو فرنسا يستغرب لعدم امتناع فرنسا في ضم الجزائر إليها بسبب المسافة الموجودة بين البلدين، وهي الأكبر مقارنة بالمسافات الموجودة بين الجزائر والدول الأوربية الساحلية الأخرى كإسبانيا وإيطاليا، وقد عبّر بنبرة استغراب واستنكار واستخفاف بقوله: «رغم البحر الأجاج الذي يفصل الوطنين والقارتين، فولايات الجزائر ولايات فرنسية، وشعبها شعب فرنسي وإسلامها إسلام فرنسي، وكل ما فيها فرنسي: سماؤها، هواؤها، ماؤها، وكل شيء فيها بلا استثناء، ثم إن كل هذا فرنسي من نوع خاص وبفهم خاص لا يعقله إلّا الفرنسيون» (الرحلة، ص 52)، ولم يقوَ الرحال الكاتب على كتم مشاعر الحزن على ما أصاب بلاده ومواطنيه من الاحتلال الفرنسي فقال: «وقد تكبّدنا منها المصاعب والمصائب والويلات طوال قرن وثلث القرن، ذقنا فيها المذلّة والهوان والاحتقار، وعرفنا فيها الجهل والفقر والحرمان، بعد العزة والسيادة والسلطان». (الرحلة، ص 54)، ولذلك وصف الصالح فرنسا بالجشع والاستهتار، الذي بلغ بها حدّ ضم الصحراء الجزائرية الشاسعة إليها، فسمّتها الصحراء الكبرى الفرنسية، ولولا منازعة الدول الغربية الأخرى لها لاستولت على كامل إفريقيا، ولا يترددّ الرحال في دعوة الشعوب المستعمرة إلى «أن تقوم متحدة بنهضات عارمة وثورات كاسحة تقضي عليهما القضاء المبرم» (الرحلة، ص 52).

حسّ منصف
استرجع الصالح أحداثًا من تاريخ إيطاليا بعد مروره على الريفيرا ومدينة جنوة، مشيرًا، بداية، بحسّ موضوعي منصف، إلى أن المنطقة أنجبت مكتشف القارة الأمريكية كريستوفر كولومبس، إلّا أنه يسرد أحداث قضاء القرطاجيين بقيادة حنبعل على الامبراطورية الرومانية، وهي التي أراد موسوليني استرجاع عزّها بالسيطرة على البحر الأبيض المتوسط والتوسع في إفريقيا، لكنّه لقي حتفه بعد حروب كثيرة في إيطاليا، وانتهى أمره بقتله على يد مواطنيه عام 1945: «وبذلك - قال الصالح - انتهى الحكم الدكتاتوري الفاشستي الذي كوّنه موسوليني، وانتهت محاولته إعادة مجد روما، واستثارة النعرة القومية والعصبية الدينية، وكما انتهت الفاشستية، انتهت بعد ذلك النازية، ثم ما شابهها من نظم الحكم العسكرية الدكتاتورية في إسبانيا وفي الأرجنتين وتشيلي واليابان، وسيلحقها نظام سالسبوري العنصري في جنوب إفريقيا، وعصابة الصهاينة في فلسطين، والعاقبة بعد ذلك للإمبرياليين» (الرحلة، ص 62). وليس هذا الموقف والحلم وقفًا على أدباء الدول الضعيفة؛ إذ نجد الفكرة ذاتها عند الشاعر الألماني ألفريد كير (1867 - 1948) في قصيدته النثرية بعنوان «كل الفضول دفعني إلى الجزائر»، فلا مستقبل للدول المحتلة، حسبه، يقول:
«فما من شيء يبقى وخاصة حكم الأشرار 
فما من شيء يبقى وخاصة الكُره والحرب والاستعمار».

بين النمسا وسويسرا
كما ركّز كثيرًا على مظاهر الحضارة والمدنية، ووجّه خطابًا سياسيًا يعرّف برأيه في نظام الحكم الأسلم، ضمن مدحه لدولة النمسا وسياستها، حيث شهد الرحال بها ما لم يجده في وطنه ولا في دول أخرى، من سعادة أهل البلد وتنعُّمهم بالرخاء والعدالة الاجتماعية، وعلل ذلك بأن النمسا: «أخذت بأحسن ما في الاشتراكية من نظم وأعمال اجتماعية إنسانية، وعملت بخير ما في الديمقراطية من أسس دستورية وحريات شخصية في التفكير والتدبير والتسيير، ولم تلتزم بالحزب الواحد، كما في الاشتراكية الشرقية المتطرفة، ولا بفوضى الديمقراطية الغربية المنحرفة، وصدق من قال: حب التناهي شطط خير الأمور وسط»
(الرحلة، ص 79).
وأكّد الكاتب نظرته الأيديولوجية من تفضيل للاشتراكية المسالمة على ديمقراطية الغرب الاستعمارية، حيث لمس في أهل النمسا الطيبة وحُسن استقبال الضيوف، وهو كما صرّح: «الشيء الذي لم نره في الطريق الذي مررنا به لا في إيطاليا ولا في فرنسا، فهذا أحد الفروق بين تلك الشعوب الغربية الديمقراطية، وهذا الشعب الاشتراكي الأبيّ» (الرحلة، ص 67).
 وعلى العكس من ذلك، عرّض الرحال بأهل جنيف السويسرية، حيث إنه على الرغم من أن المدينة: «جميلة نظيفة، لا ينقصها سوى جمال أخلاق أهلها وحُسن استقبالهم لزوّارها» (الرحلة، ص 105).

انطباعات دقيقة
لكنّ هذا لم يمنع الرحّال من أن ينصف أهل سويسرا بشكل عام، وأن يكون موضوعيًا في حكمه عليهم، فقد مدحهم ووجد أنهم حققوا معجزة في تطوير بلادهم، على الرغم من قلة مواردها وثرواتها الطبيعية، واعتمدوا على اليد العاملة النشيطة والخلّاقة، وكان الكاتب أكثر عقلانية عندما علّل هذا بأن: «بقدر ما تكون الأرض جدباء وأهلها فقراء، فإنهم يعتمدون على أنفسهم ويشحذون عقولهم ويحرّكون سواعدهم للخلق والإبداع فيستغنون، والحاجة أم الاختراع» (الرحلة، ص 105).
وكان الصالح دقيقاً في مرحلة وجوده في فرصوفيا، فقدّم انطباعاته حول ما لقيه من ظواهر غريبة عنه، أرجعها إلى التجديد والتأثر بالغرب الأوربي، ويصدق هذا خاصة على الرقص؛ إذ لاحظ أن الرقص الأصيل منه في أوربا الشرقية هادئ وحالم ولطيف، يشبه رقصنا الحضري والبدوي، وليس مجرد قفز ودوران، ومثله الغناء والموسيقى، وقد استهجن الموسيقى الغربية لصخبها الشديد، لكنّه علل الحركة السريعة في الرقص والجلبة في الموسيقى ببرودة الطقس، ولجوء الناس إلى ذلك لتوليد الحرارة والدفء في الجسم.
   ولم يفُت الرحال كذلك تقديم ملاحظاته حول دور المرأة في سوق العمل البولندي، واستغرب عملها في سياقة الحافلات وسيارات الأجرة وقطارات المترو، وهو ما لم يجده في وطنه، لكنّه لم يستسغ سياسة تربية الأطفال في دور الحضانة التي اعتمدتها البلاد؛ لانشغال الوالدين بالعمل، وهو ما رآه حرمانًا للأطفال من حنان الوالدين، وضياعًا للأخلاق، وللروابط الأسرية.

دعوات إنسانية
من أهم دعوات الصالح الإنسانية برفقة جميع شباب العالم وطلابه: «الدعوة إلى نزع السلاح الذرّي وترك التجارب النووية، وشجب عدوان الأقوياء على الضعفاء وتصفية الاستعمار والتنديد به وبالإمبريالية» (الرحلة، ص 115).
ويبدو الصالح متفتحًا على الآخر، متسامحًا معه، فهو يرى في المهرجان العالمي عيدًا للشباب، وتجسيدًا لمبادئ المحتفلين، وهي السلام والصداقة بين الشعوب، اللذان يتحققان عن طريق الحوار، وفي سبيل: «حل القضايا العالمية والوطنية... ومحاربة الاستعمار والهيمنة على الشعوب، والقضاء على الاستبداد والعنصرية، والظلم، والاضطهاد، وتقرير حرية الشعوب وتقرير مصيرها» (الرحلة، ص 116).
وأخيرًا، تبقى رحلة محمد الصالح من الرحلات السياحية الوحيدة في الأدب الجزائري، التي تناولت بولندا في القرن العشرين، ووصفت فرصوفيا بعد الحرب العالمية الثانية، لكنّها تبقى حلقة من حلقات الرحلات الجزائرية إلى أوربا في تلك الفترة، ضمن سلسلة متواصلة من الرحلات التي نشطها ودوّنها أعضاء جمعية العلماء المسلمين، والأدباء المنخرطون في جبهة التحرير الوطني، وأدباء الجزائر بعد الاستقلال، ومن كل هؤلاء نذكر محمد الزاهي الميلي في رحلة عودته من مهمة من باريس إلى قسنطينة، ومحمد العابد الجلالي في رحلته إلى باريس، وأحمد رضا حوحو في رحلاته إلى باريس وتشيكوسلوفاكيا وروسيا، ورحلات أحمد منور إلى فرنسا وإنجلترا، وغيرهم من الأدباء والأساتذة الأكاديميين في العصر الحديث ■