دييغو فيلاسكيز «صورة خوان باريخا»

دييغو فيلاسكيز «صورة خوان باريخا»

فيلاسكيز من الفنانين القلائل الذين استمرت وتيرة إبداعهم في التصاعد من دون أية انتكاسة أو عودة إلى الوراء، حتى أن هناك ما يشبه الإجماع عند المؤرخين والنقاد على أن أعظم أعماله هي التي تعود إلى السنوات الأخيرة من عمره، وصولًا إلى سنة وفاته عام 1660، عن عمر ناهز 61 سنة.
وُلِد فيلاسكيز في إشبيلية عام 1599، وفيها نشأ وأمضى العقدين الأولين من عمره. ظهر نبوغه في فنّ الرسم باكرًا، حتى أنه تمكّن وهو في الحادية عشرة من عمره من الالتحاق بمحترف الرسام فرانشيسكو باتشيكو لدراسة الرسم.
اقتصرت الأعمال الأولى لفيلاسكيز على مواضيع من الحياة اليومية والطبيعة الصامتة، لكنّها كانت كافية للفت الأنظار إليه، واعتباره واحدًا من أهم الرسامين في إشبيلية مع بداية عشرينيات ذلك القرن.
في عام 1622، توفي رسام البلاط الإسباني فيلاندراندو، فأوصى دوق أوليفاريس البلاط باستدعاء فيلاسكيز ليكون رسام البلاط. وبالفعل انتقل الفنان ليستقر في مدريد عام 1623، ورسم في السنة نفسها صورة الملك فيليب الرابع التي كانت من الجودة بحيث أمر الملك بسحب كل صوره الأخرى من التداول. ومنذ ذلك التاريخ، رسم فيلاسكيز عددًا محدودًا من اللوحات ذات المواضيع الأسطورية أو الدينية، أمّا الغالبية العظمى من أعماله وأفضلها، فكانت في رسم الصور الشخصية للأسرة المالكة الإسبانية وبعض الشخصيات الأخرى (34 بورتريهًا للملك فيليب الرابع وحده!).
في عام 1649، أوفد الملك فيليب الرابع فيلاسكيز إلى إيطاليا، ليشتري له لوحات من كبار الأساتذة فيها. فاصطحب الرسام معه مساعده خوان باريخا، وهو أحد الموريسكيين، من مواليد جنوب إسبانيا، يقال إن فيلاسكيز استعبده، أو أنه انتقل إليه ضمن ميراث العائلة (لكنه أصبح لاحقًا فنانًا مستقلًا بعدما حرره فيلاسكيز في نهاية العام الذي رسم فيه هذه اللوحة).
فبعد جولة على عدد من المدن الإيطالية، اشترى فيها فيلاسكيز لوحات لتيسيان وفيرونيز وتينتوريتو، وصل إلى روما بعدما سبقته إليها شهرته. وفي روما، تلقى طلبًا من بابا الفاتيكان إينوسنت العاشر ليرسمه في صورة شخصية.
شكّل مشروع رسم البابا العجوز ذي الطباع الحادة، تحديًا للرسام الذي عُرف أنه لن يحظى بجلوس البابا أمامه لوقت طويل ليسبر أغوار شخصيته، وأن البابا سيتحرك باستمرار؛ الأمر الذي سيضطره إلى التركيز على ملامح الوجه والمزاج وسبر أغوار الشخصية خلال وقت قصير، أما الباقي فمن الممكن تدبيره ومعالجته لاحقًا في الاستديو. ومن باب التمرين على هذه المقاربة، أجلس مساعده خوان باريخا أمامه ليرسمه، في أول لوحة إسبانية تمثّل شخصًا من أصول إفريقية.
أول ما يلفتنا في هذه اللوحة هو اقتصار المساحة الملوّنة على الوجه، وطغيان الرمادي بدرجاته المختلفة على كل ما عداه. وبالتدقيق قليلًا، نلحظ أمارات الكبرياء والإحساس العميق بالكرامة على الوجه، في تحدٍ لواقع الحال (المستعبَد)، الذي تدلّ عليه الملابس الرثّة وكمّ السترة الممزق. وللتعويض عن هذا الشح في استخدام الألوان، عمِد الرسام إلى استخدام فرشاة غليظة في ضربات سريعة وعفوية لا يقدر عليها غير كبار الأساتذة المتمكنين من مهنتهم. وكان لهذه التقنية في هذه اللوحة وقعُها الكبير بعد قرنين من الزمن، عندما احتضنها الواقعيون ومن ثم الانطباعيون في القرن التاسع عشر.
ورغم أن هذه اللوحة كانت مجرّد تمرين، فقد عرضها فيلاسكيز ضمن معرض ضخم أقيم لعدد كبير من الفنانين في «البانتيون» بروما عام 1650. وحول التقدير الذي نالته، يقول أنطونيو بالومينو، مؤرخ سير فيلاسكيز: «حظيت هذ اللوحة بتقدير الفنانين من جميع البلدان، وقالوا إن كل لوحات المعرض هي فن، أما هذه اللوحة فهي الحقيقة».
ختامًا، عندما اشترى متحف المتروبوليتان هذه اللوحة عام 1970، وكانت الأولى في كل تاريخ تجارة الفن حتى آنذاك التي يتجاوز سعرها المليون جنيه إسترليني، وصفها محافظ المتحف، تيودور روسو، بأنها «واحدة من أعظم الأعمال التي يمكن أن يعرضها سوق الفن»، في حين وصفها آخرون بأنها أهم ما استحوذ عليه المتحف في تاريخه. وليس في الأمر أية مبالغة عندما نعرف أن هذه اللوحة ألهمت أعمالًا أدبية عديدة، واستمر نسخها واقتباسها حتى القرن العشرين، ومن الذين أعادوا رسمها كلٌ بأسلوبه الخاص، سلفادور دالي، وبابلو بيكاسو ■