غسان بورحمة: اتبع خيالك لتُحوّل الصورة إلى عمل تشكيلي

تبقى الصورة اللغةَ الأولى لفهم المعنى، ومعنى القصة والحكاية أو اللحظة العابرة التي يسرقها المصور الفوتوغرافي بذكائه وبأسلوبه الخاص ليقدّمها إلى المشاهد المتذوق، هو أن تكون هذه العدسة بين يدي فنان محترف، ليقتنص بعدسته لتلك اللحظات والمناظر الطبيعية والطبيعية الصامتة برؤيته الثاقبة، راصدًا زوايا مغايرة عن نظرة الإنسان العادي، ليكشف من خلالها عن بواطن الجمال الموجود في هذا العالم السريع الذي يسرق الإنسان من دون أن يراه أو يتأمل فيه، ويلقيها بإبداعاته للمتلقي، وكأنه يعيد صياغتها عبر هذه النافذة؛ نافذة الصورة الفوتوغرافية حاملةً لنا في طيّاتها الكثير من المعاني والمواضيع والمشاعر الإنسانية باختلافاتها وبرؤية الفنان الخاصة.
في هذا الإصدار، تأتي مجلة العربي لتسلط الضوء على عدسة فنان كويتي عمل دائبًا على تطوير أدواته، وأوجد لنفسه أسلوبًا فريدًا تمكّن به من التعبير عن نفسه وعن مشاعره من خلال أعماله، معنونًا لبعضها بقصائد وأشعار تضفي على المعنى معانيَ أعمق، ومجردًا بعضها الآخر من التسمية، تاركًا المجال للمتلقي أن يتأمل جماليات الصورة ومدلولاتها وقراءة موضوعاتها المختلفة.
حصل بورحمة على بكالوريوس إدارة الأعمال جامعة جورجيا من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1985، وأخذه الشغف إلى عالم التصوير الضوئي في بداية التسعينيات - بعد الغزو العراقي على الكويت - في الفترة التي لم يجد بها أجمل من تصوير المناظر الطبيعية بانعكاسات ضوء الشمس الطبيعي على المسطحات والمساحات برفقة كاميرته الأولى «مينولتا» آنذاك، ومع اجتهاده الفردي بالتجارب التي خاضها في البداية بين الصح وتصويب الخطأ، وبوجوده بين أعضاء ديوانية محمد القلاف مع كل من المصورين الفوتوغرافيين سليمان حيدر، وأحمد دشتي، وباسم درويش، ومحمد القلاف، وصديقيه المقربين فهد الشحمان ويوسف خليفة وغيرهم، والتي اعتبرها غسان بمنزلة المدرسة الأساسية التي انطلق منها، حيث الورش الفنية الأسبوعية وعرض أعمالهم بواسطة جهاز البروجكتور في الديوانية للحوار وإثراء النقاش بالمعلومات وتبادل الخبرات، لتنهال من بعدها كلمات الإعجاب بالصور التي عرضها بورحمة لزملائه، بدءاً بعمل «نغم» وجماليات التونات التي أظهرها في تلك الصورة الضوئية، متمثلة في شكل ظلال لخطوط متوازية، لتتناغم وتنسجم مع شكل الأوتار الحقيقية لآلة الكمان، واستغرابهم بالإجماع موهبته التي لم يجهر بها في السابق.
وقد عزم، فيما بعد، على أن يزوّد نفسه بمصادر المعلومات الأجنبية من خلال الكتب والمجلات ليوسّع بها ثقافته البصرية، وليتعرّف إلى المدارس والخطوط والأساليب المتّبعة لرواد التصوير الضوئي، وليقرأ عن عصور النهضة الفكرية، أمثال:
1984 - Ansel Adamds 1902
Alfred Stieglitz 1864 - 1946
Edward Steichen 1879 – 1973
Paul Strand 1890 – 1976
Clarence H. White 1871 – 1925
Edward Weston 1886 – 1958
Dorothea Lange 1895 – 1965
إضافة إلى:
Brassai 1899 – 1984
Josef Sudek 1896 – 1976
Vivian Maier 1926 – 2009
Sebastio Salgado
Leonard Misonne
وهنا كانت المرحلة الانتقالية والسبيل إلى منعطف كبير لأسلوب بورحمة، ولفلسفة الأبيض والأسود التي ظهرت في كل أعماله لاحقًا، والمدى الذي تمكّن بواسطته من إبراز بواطن الابتكار في الصورة الضوئية بهذين اللونين ورمادياتهما.
ولا نغفل عن حقيقة الضغوط التي تواجهها الصورة الضوئية - بوجوب استبعاد هذا الفن أو تهميشه بعيدًا عن أحد أفرع الفنون الجميلة الآسرة في عالمنا المعاصر، لكونه نتاج لأجهزة ولآلات طباعية - على حدّ قول معارضيه - إلّا الإبداع لا يحدّه حد.
رؤى ضوئية
وتم تبنّي مشروع تأسيس مجموعة فنية لتحتضن نخبة من المصورين الفوتوغرافيين وتتيح لهم المجال لعرض أعمالهم في دور العرض تحت اسم «مجموعة رؤى ضوئية»، جامعةً كلًّا من عبدالله القحطاني، وفهد الشحمان، وناصر الدين باقر، وهنادي السلمان، ويوسف ذياب خليفة، ومحمد القلاف، منطلقين بأعمالهم الفنية المختلفة وبرؤاهم المتنوعة لصور فنية قد تضاهي التشكيل في الوهلة الأولى من الالتقاء بالعمل، وليلتبس الأمر، أحيانًا، لدى المتلقي في تصنيف العمل إن كان يندرج ضمن الصور الضوئية، أو على شكل عمل تشكيلي متكامل، لتستمر هذه المجموعة بأنشطتها في المشاركات التي ترجمت آفاقًا مختلفة ومتنوعة لكل منهم، حسب أسلوبه ومدرسته .
مع رحلاته وأسفاره وبرفقة 3 كاميرات (شريحة الحجم المتوسط، و35 مل، وكاميرا ديجيتال)، ابتداء من جنوب كاليفورنيا إلى واشنطن، متجهًا إلى كندا عابرًا لغابات وحدائق، وصولًا برفقة كاميرا رقمية بسيطة إلى ألاسكا، أثبت غسان أن الكاميرا مجرّد وسيلة، وأنّ أهم ما في الأمر هو عين المصور وما يراه خلف العدسة، واختيار الزاوية المثالية للصورة الضوئية. وتأتي قناعة غسان لما يقول: Ansel Adams
(أنت لا تلتقط الصورة، إنما تصنعها)
الجائزة التشجيعية 2002
هذه الصورة التي استطاع بها بورحمة أن يمزج بين العمل التشكيلي والصورة الضوئية المتوازنة، باهتمامه بتحليل فضاءات العمل والفراغات بين عناصر التكوين، من خلال إسقاط الظلال على الجدران والأرضيات، ولعلّ العنصر الجميل هو الإضاءة التي لعبت دورًا مهمًا جدًا، وتمثلت على شكل إشعاعات الشمس الطبيعية بصباح يوم هادئ، بينما هي في الحقيقة إضاءة لـ «فلاش» استديو نجح غسان في توظيفه والتحكّم فيه ليخدم الموضوع، وليحييَ هذه الزاوية الهادئة بصورة إشعاع يتسلل إلى الغرفة، إضافة إلى التماهي في الألوان بين الفخارية الجميلة والأرضيات والمفرش الناعم مع خطوط الشبابيك الأفقية، ليتخللها هذا الضوء المخادع، لتُمنح جائزة الدولة التشجيعية للتصوير الفوتوغرافي لسنة 2002 لعمل «الجرّة»، ولتشكّل هذه الجائزة أكبر وسام ومكان جدير بأن يأخذ فيه بورحمة على عاتقه تحمّل المسؤولية بخطوات أكبر.
على ميعاد عام 2010
هذا العمل الذي يختصر لنا نظرية بورحمة، في أن يسرق الموضوعات الحية أمامه ويضعها في قالب فنّي، يلتفت فيها إلى المشاعر الإنسانية باختلافاتها وبتعبيراتها، ليرصد بكاميرته تلك المقاعد الفارغة من «برايينت بارك» بمدينة نيويورك، حينما صادف فتاة جالسة وحيدة في الحديقة بلباسها الجميل، مترقّبة بنظراتها وصول العاشق الذي لم يظهر بعد طول انتظار، وغادرت المقاعد باكية حزينة، ومما صاحب نجاح هذا العمل الفني وجود المباني العتيقة التي ساهمت في إضفاء عنصر الكلاسيكية بالطريقة التي تخيّلها بورحمة، ليترجم إحساسه اتجاه هذا الموقف الحي.
عمل بالأبيض والأسود:
وفي رحلاته بين الولايات المتحدة الأمريكية، وبوصوله إلى ولاية ألاسكا - غرب كندا، حيث الطبيعة الأخّاذة، لم يجد غسان أجمل من أن يلتقط هذه الزاوية (بالقلم الأحادي - الأبيض والأسود) وجماليات النواحي الفنية بتباين هذين اللونين كما يشاهدها في خياله.
آمال مرتقبة في عام 2020
لهذا الرجل بلباسه الشعبي وحركة يديه التي يستند عليها بجلسته المستكينة تحت تفكيره وانتظاره الطويل، مع غموض تعابير الوجه التي خُبّئت خلف تناقضات الأبيض والأسود، اختزل بورحمة حالات التوتر والانتظار والتوجس من القادم، وكل هذه المشاعر التي اجتاحت البشرية خلال فترة الحظر الكلّي لأزمة فيروس كورونا عام 2020.
فما بين الطبيعة الصامتة والمناظر الطبيعية التي يتفاعل من خلالها بورحمة مع الأشياء من حوله، وبإحساسه العالي بالأمكنة المحيطة به وما تحويه من عناصر مختلفة وخامات يستحدث منها صورًا حية ويستنطقها بلحن موسيقي أحيانًا، أو بجناح طائر عابر، أو غصن شجر ينبض بالحياة، ليستلهم من الواقع أعمالًا فنية متوازية مع أفكاره، ويترجمها في إطار الصورة الفوتوغرافية لتحتضن المعنى والموضوع باللونين الأبيض والأسود ■
«الجره» العمل الفائز بجائزة الدولة التشجيعية
على ميعاد