مارون النّقاش... زهوة الرّيادة

مارون النّقاش... زهوة الرّيادة

لم يَغِب عن التصور الذهني لمارون النقاش (1817 - 1855) اللبناني الصيداوي وهو يخطّ مسرحيته «البخيل» (1847) أن ما كتبه ليس للقراءة الخالصة التي تُسلِّمُ القارئ قِيادَ التّفاعل مع متن النصّ فحسب، بل هو مجاز الفُرجة الماتع الذي يأتلف مع العرض المُتشكّل بصريًا لإدهاش النظّارة رؤيةً وإدراكًا.
 كانت «البخيل» أول مسرحيةٍ موثّقة بنصٍّ عربيٍّ أصيل، موضوعٍ محليًا، تُعرَض على خشبة في عاصمة عربية هي بيروت، بِلُغةِ الشِّعر وألحان التّراث المحلي، في منزل النقاش نفسه أوائل عام 1847.

 

 استبقَ النقاش مسرحيته آنذاك بمُقدّمَة وافية شهيرة تجاوزت في أهميتها المسرحية نفسها، وشكّلت البيان المسرحي رقم واحد في تاريخ المسرح العربي لِمَا اتّسمتْ به من قوة إبصار وواقعيةٍ فذّة تحاكي مقتضى الحال فـي البلاد العربية سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، وتقرُّ بـتـأخُّرها عن المدنية الغربية بأصناف التطور الصناعي والثقافي، فرأى «أنّ أهالي البلاد الإفرنجية لم تزل راجحة على أهالي هذه البلاد العربية، فائقة بالعلوم والفنون، والترتيب والتمدُّن والشؤون»، ممحصًا في أسباب ذلك التراجع الحضاري، وداعيًا إلى النهوض من كبوتنا إلى واقع أكثر تفاؤلًا وتقدمًا ومدنية في ملْمحٍ رُؤيوي يُبرِّزُ عولمةً مُتقدّمة من نوعٍ خاص، تستلهمُ آليات الارتقاء إلى المستوى الثقافي لتلك البلاد بالفنّ الجديد الذي هو ميدان إبداعه على سبيل الوجوب والضرورة. 
  أردف النقاش القولَ بالفعل والتّنظير بالتّحقيق، فأجاز وأوفى في تعريف وتبسيط الفكرة المسرحية أولًا، ثم أبدى رغبته في زرعها بالوطن اللّبنانيّ الصغير ثمّ العربيّ الكبير، مرحّبًا بكلّ نقد أو ملاحظة من شأنها أن تؤصّل مسرحيّته وتجعلها أكثر جودةً وقبولًا «لأنّ الجوهر لا يظهر إلّا بإعادة الصّقال»، كما لم يترك ثغرةً فنيّة في «البخيل» تأليفًا وتمثيلًا أو إخراجًا إلّا وتحسّب لها عفوًا أو قصْدًا، فاستَبَقَها في مقدّمته توصيفًا وتبريرًا فيما لو حدثتْ، مما يعني استعداده النّفسيّ والأدبيّ لكلّ ما يمكن أن يُواجَهَ به من أنواع اللّوم والتّسخيف فيما لو لم يقتنعْ جمهوره بما يعرضه أمامه ممّا لا تُؤمَنُ ردّةُ فعلِهِ عليه. 

إرادة صلبة
لم يقف وعي النقاش الريادي على ضفاف التّنظير، فاستلهمَ تاريخيةَ البُعدَين الثقافي والأدبي لأمتنا العربية، ليبدأ العرض بإرادة صلبة فورَ انتهائه من إلقاء كلمته، خائضًا لجّة التطبيق الفعلي للدراما، فقدّم مسرحًا جدّيًا أطلقَ الحراك الدرامي الأول في العالم العربي نصًا وعرضًا، وأكّد أنّ المسرح ليس من الكماليات الاجتماعية، بل هو سبيلٌ نبيل لجمهور يرى إلى التغيير، أو أقلّه يريد تطوير ما هو عليه نحو الأفضل، مع الوفاء للرّوح المسرحيّة نظمًا وأسلوبًا ولغةً، مبتعدًا في خطوة تجديديّة عن زخرفته بالمُنمّقات اللّفظيّة، ومتنكِّبًا عن الأشكال الشّعريّة التي انتشرت في عصره بيانًا وبلاغة، لا سيّما مع الشّيخ ناصيف اليازجي الذي كان صديقًا مقرّبًا جدًّا منه. إذْ أدركَ النقاش أنّ عدوّه الأوّل إنّما هو هذا اللّغْو البرّاق الذي مارسه أصحابه مما لا فائدة منه، فاتّهمهم بأنّهم «لا يلتفتون إلّا إلى زخرفة الكلام، مسلوبين من الحسد والغرض، حتّى أنّهم يتركون الجوهر ويتمسّكون بالعرض»، كما منحَ نصّه المسرحيّ أبعادًا عمليّة لفهمه، فلم يركن إلى طاقته الأدبية في خلق نصٍّ مقروء فحسب، بل تقصّد مسرحَتَهُ بطاقته الدرامية في عمليّة العرض أمام الجمهور، ولو اقتضت الحاجة أن يكون هو السّينوغراف أيضًا مع ما يتطلّب ذلك من ديكور وإنارة وبعض لوازم الصورة المشهدية على بدائيّتها آنذاك. هذه الاعتبارات الفنية أدخلت التّجربة المسرحيّة «النّقاشيّة» إلى صَقْل التّمثيل بالحوار الشِّعري المغنّى بنبض درامي سلس ومحمود، أو ما اعتبره بعض النّقاد أوبرا قائمة بذاتها مُطعّمة بالكوميديا لأنها بالنسبة إليه «ألذ وأشهى وأبهج وأبهى، وأحب عند قومي وعشيرتي»، متنبهًا إلى أن تكون مُلحّنةً مُغنّاة، فيها من الجِدّة والصّنعة الارتجالية في حينه ما لا يُمكن تجاهلُ وطأةِ مسؤوليّته الكبيرة على كاتبه ومُمثّله، بل ومُخرجه أيضًا، الذي هو النّقاش نفسه، على الرغم من أن الدّور الحيويّ والرّائد للمُخرج لم يتبلور إلّا في أواخرِ القرن التّاسع عشر كوظيفة بحدّ ذاتها لم تكن قائمة قبل ذلك، بل كان مدير الجوق أو الفرقة هو المسؤول عن تحريك كلّ عناصر المسرحية من النص إلى العرض.

توازن مستويات الحركة والحوار 
 على هذا النحو، لم يرَ النّقاش إلى ضرورة تقديم عرض مسرحي بمستوى فني جيد فحسب، بل ذهب بعيدًا في ضرورة استبيان أثر هذا العرض في الذائقة الفنية للجمهور: «فإن كلًّا مِنّا لا يريد أن يزرع أشجارًا، إذا لم يتحقق أنّهُ في غدٍ يأكلُ منها أثمارًا»، وذلك على الرغم من ندرة وبدائية المؤثرات التقنية بين يديه، والتي عوّضها باستثمار التراث الشعبي بألحانه الفلكلورية المحلية والعربية الشهيرة «نظرًا لافتقارنا إلى المحلات اللّائقة، والكواسم والطّواقم الموافقة»، وهو ما سلّمهُ من ارفضاض جمهوره عنه وتنكّره للفن الجديد. تكاملَ كلُّ ذلك مع توجّه النّقاش إلى تجسيد النص على الخشبة، كما يقول هو عن نفسه «مبرّزًا مرسحًا أدبيًّا، وذهبًا إفرنجيًّا مسبوكًا عربيًّا» في استدراكٍ واعٍ لأهمية توزيع مسؤولية العرض على مجموعة من المُمثلّين في خوضهم العمل المسرحي كتجربةٍ أولى تحتمل النّجاح أو الفشل. هؤلاء الممثلون الذين شاركوه العرض وهم «لم يزالوا مُجدّدين مُبتدئِين، فلا يخلو الأمر من أنهم يقعون في بعض ورطات، ويُشجَبون على بعض سقطات»، ولذلك كتبَ لهم النقاش ما يناسب قدراتهم العفوية في فهم النص وحفظه وتجسيده على مستويات الغناء والحركة والحوار، ووازنَ بين الشّخصيّات فعلًا وتفاعلًا مع بعضها البعض، فكان لكلّ منهم نصيبه العادل من الحوارات التي بناها المؤلّف بالتعالق بين الأدوار وتطوّر الأحداث، مبتعدًا عن الالتزام بشخصيّة البطل الأوحد في مسرحيّته على عادة غالبيّة مؤلّفي النّصوص المسرحيّة ما قبل وما بعد زمانه. وذلك مما يُظهِرُ أنّ عملية إدارة المسرحية (الإخراج) كانت منسجمة مع عمليّة التأليف (النص)، وأنّ كليهما لم يخرج عن المعنى العام لمسرحية البخيل في أن يتحول من نصّ على الورق إلى تجسيد حيّ على الخشبة كرسالة اجتماعية تذمُّ رذيلة البُخل التي عالجتها المسرحية بصيغة مُضحكة هزلية تقاربُ وجدان النّظارة وتركنُ فيه. 

رفض أدلجة الفكرة في النص المسرحي
من هنا ابتعدَ النقاش عن أدلجة الفكرة في النص المسرحي، كي لا يضطر إلى تقديم مروية دينية أو قومية تتطلب خلق صراع درامي وتنتهي بالانتصار لقضية تاريخية وتمجيدها، مما قد يسبّب له إحراجًا بالغًا هو في غنى عنه أمام الخليط المُختلف والمتنوع من ممثلي سلطات الأمر الواقع التي حضرت المسرحية، والمتعددة الجنسيات والديانات آنذاك بين تركية ومصرية وغربية أجنبية ولبنانية بالطبع، فضلًا عن تنكُّبِهِ حكايا الملاحم والأساطير الإغريقية المحكومة بالعقائد الوثنية مما لم يكن ليقبله الذوق العام.
 لقد تناسبَ مع حيثيّته الاجتماعية التي تنتظمُ معالجة موضوعات الأخلاق والقِيَم القريبة والسهلة التناول كثيمات يمكن من خلالها بلورة أهدافه وإشهارها للعَلَن، وهذا مما يُحسَبُ له في تلك المرحلة الزمنية الحرجة التي تشابكت فيها مصالح المُستعمِرِين في بلادنا، والتي كان قناصلها حاضري العرض وقتذاك، فضلًا عن قوة السلطة الدينية التي كان النّقاش، بالطبع، أفضل حالًا معها وأكثر حظًّا من غيره، والتي كان من شأنها أنْ تُوقف عمله لو شاءت كما حصل لاحقًا وبسنوات قليلة مع أحمد أبو خليل القبّاني، عندما لُوحِق في دمشق بسبب عروضه المسرحية وأُجبِرَ على الانتقال إلى مصر لمتابعة نشاطه هناك.
 أضِف إلى ذلك أن مسألة اللّغة لم تؤرّق النّقاش في «البخيل»، فقدّم في حوارياتها الصيغة اللغوية التي تمزج الفصحى ببعض مفردات العاميّتَين اللبنانية والمصرية برطانة تركية، من دون أن يتجاوز الخطوط الحُمر التي رسمها لنفسه في البقاء داخل النص العربي المَنبَت، المشغول محليًا، في طموح واضح إلى صياغة ومأسَسَة مرجعية للتأليف، وتعميق الجهود لإنتاج تقاليد كتابة مسرحية عربية مُعدّة للعرض على الخشبة منذ ما يزيد على مئة وسبعين عامًا. 

تجديد مدنية الشرق
بذلك لم يتكاسل النقاش في تثبيت أصالته بعيدًا من استسهال سبيل الاقتباس الذي هو توأمُ الإعداد ووليدُ الترجمة، والذي قد يريحه جدًا فيما لو انتهجه، ويغريه بالاستفادة من نصٍّ جاهز مُستهلَكٍ من قَبْل على الخشبة لعرضه والانقياد لأهدافه، حاسمًا المسألة بأنّ مقولة التّأثُّر بموليير التي تبنّاها بعض النقاد قد ولّت، وأنه لا إمكانية لإلغاء فاعليته الذاتية وشخصيته القومية، فلم يعد مُجدِيًا في كل لحظة تعليق وعرض النصّ «النّقاشيّ» على مِشجب الإبداع الفرنسي، ولا تمرير ذلك كأمرٍ عاديّ، بل هو خطيرٌ خطورةَ العبث بالموروث التاريخي والاجتماعي اللبناني والعربي مما لا يريد هو أن يتحمّل تبعاته.
ولا يخفى على الباحث لو تقدّم في مسيرة استجلاء ممكنات الريادة عند النقاش أنّ هذا الأخير تمثّل الحالة المسرحية في قمّتها الذهنية والمهنية، والتقط بحدسه العميق، وهو المثقف الشامل، تلك اللحظة المُناسِبة ليقول كل الحقيقة عن المسرح في المقدمة / البيان الذي سحب فيه تجربته الفنية الخاصة من التأثر الدائم بالمسرح الغربي بما هو استغراق العاجز في التلقّي، إلى ساحة التوفيق بين المسرَحَين الغربي والشرقي كخطوة أولى باتجاه التأصيل مجاوزًا بالجمهور جهلَهُ بهذا الفنّ المستجد إلى التعرف إليه بالممارسة البصرية الوجاهية، لا كأدبٍ فحسب، وإنما كمعطًى ثقافي خالص الرؤى يخدم سياقًا اجتماعيًّا تحت سُلْطة الحاجة الحضارية الدائمة إلى تجديد مدنية الشرق العربي في أي زمانٍ ومكانٍ لاحِقَين وبصورة مطلقة. 
بهذا التوجُّه كان التحدي كبيرًا، فلم يكن المسرح مجرد فكرة تسلوية، بل عملًا طليعيًا يدين الواقع الحضاري / المدني الذي تميّز بالتراجع في مختلف مناحي الثقافة حينها، ورافعةً أخلاقية تليقُ بأهداف المسرح «لأنه بهذه المراسح تنكشف عيوب البشر، فيعتبر النبيه ويكون منها على حذر»، مما يعني محاكاةَ لا محاباة منظومة القيم التي تعبّر عن إنسانية المجتمع في وجه من وجوه مدنيّته المُشرقة، التي تحثه على العودة إلى إحياء أمجاده الحقيقية في العلوم والفنون والترتيب والتمدن «وترجيع مجدها وإعادة عزّها وسعدها».

منطلقات نظرية
من هنا أدرك النقاش وهو الرائد، والرائي الذي لم تتوافر رؤيته على منطلقات نظرية انبثقت من تيارات مسرحية، أهمية خوض التجربة كمنصة أساس تحتمل النجاح أو الفشل في ترسيخ أي منظور معرفي أو ثقافي، لا الابتعاد منها نهائيًا: «وإن سمعوا بأمر ومصير، فيرتاحون على حجة العجز والتقصير، ومن قبل التجربة يحكمون بأنه في بلادنا لا يصير». 
تكلم الّنقاش بِحسٍّ قوميّ لا قُطْري، في ضوء الحاجة البديهية إلى هوية ثقافية / أدبية تنظر بوضوح إلى مفهوم المواطنة وخصوصيته الذي لا يتعارض مع مفهوم الانتماء إلى الأمة الواحدة، وهو ما يفسّر ديناميكيته ولا مبالاته بين لَبْنَنة العملية المسرحية أو تعريبها كأصلٍ معياري لنجاح عمله، فكلاهما واحد وبِلُغةٍ واحدة بمواجهة مشاكل الإنسان العربي الواحدة. تعلُّقًا بما سبق، عاشَ مارون النقاش زهوةَ الرائد المُستحقَّة، الذي معه من الإرادة الصّلبة ما يفرّقُ به بين التأصيل والتقليد، والذي دفع من ماله على مسرحه الوليد زاهدًا وغافلًا عن أيّ مردود قد يجنيه مما يعرضه، مما عمّقَ صِدق الرؤية لدى هذا المسرحي الجديد ذي الثمانية والثلاثين عامًا، وهو يعيد إنتاج «أبي الفنون» شرقًا بشجاعة ووضوح، ويؤكّد أنه لم تكن هناك أزمة حقيقية للريادة في تاريخ المسرح العربي، وإنّما هي مسألة تم استشكالها بالتواتر من جهة بعض النخب المثقفة التي نهضت في آرائها على مدارس ومنطلقات مسرحية متعددة الاتجاهات وطنيًا وقوميًا في الحقب اللاحقة على انطلاق وانتشار هذا المسرح، من دون التنبّه إلى أن الريادة لا تشترط النضج الكامل والتخصص فيما أنجزه الرائد وقدّمه للناس، ولا يجب إخضاع ما يحققه الرائد في زمنه لاستقراءات أو أحكام يُطلقها أكاديميون أو مختصون ذوو خبرات عالية في أزمنة لاحقة خضع فيها ذلك المنجز لكثير من التغيير والتطوير والصقل والتعديل، وإنّما يكفي - في حالتنا هنا مع النقاش - أن يُعقد لواء الريادة لمن اكتشف المسرح في مهده الإيطالي عيانًا، وحقق السّبق الزمني في نقلِهِ وعرضه على خشبة أمام جمهورنا. وفي كلّ حالٍ وحين، ما الذي كان يمكن للنّقاش أن يقدّمه مسرحيًا أكثر أهمية وأجزلَ عطاءً مما قدَّمه في زمنه؟ ■