ما بعد الجائحة بين أمن اللقاح وأمان الحياة
يعيش العالم اليوم على إيقاع ما بعد الجائحة، بعد حملة التطعيم الواسعة، واختبار أدوية معالجة مرضى الوباء، حيث أحسَّ الناسُ ببعض الأمان، ولكن ذلك لا يعني خروجًا آمنًا من الجائحة، فهو خروج محفوف بالمخاطر، وعودةٌ إلى استئناف الحياة الاجتماعية بكثير من التوجّس والحَذر، فقد اعتبر بعضُ العلماء هذا القرن؛ قرن الأوبئة والكوارث الطبيعية، وهو ما يستدعي تطوير وسائل التدخل، وتنمية مهارات حياتية جديدة، بل وإحداث وزارة خاصة بالطوارئ لتدبير الأحداث المفاجئة كالأوبئة والزلازل والفيضانات والحرائق.
تقتضي مرحلة ما بعد الجائحة، تعديل الكثير من العادات المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية وأشكال التعبير الإنساني عن المشاعر والأحاسيس، بل وأيضًا تعديل الكثير من التصورات حول العمل والحركة والتواصل، انسجامًا مع الشروط الجديدة للعيش الآمن في عالَم جديد يصنع أسوارًا جديدة تفرض أنماطًا مغايرة من السلوك.
مهما حاولت الدول وضع الاحترازات الوقائية، لضمان حق الحياة وأمن المجتمع، بل وفرض تلك الإجراءات بالقوانين الرادعة أو الحملات الإشهارية، أو حتى وضع تحفيزات معيّنة، فإنَّ النجاح لا يأتي من جهة واحدة، إذ لا بدّ من تكاثف جهود كل مكونات المجتمع، إذ ليست جهود محاربة الجائحة مقتصرة على المؤسسات الرسمية فحسب، ولكن أيضًا يُعتبَرُ المواطنُ مسؤولًا مباشرًا عن نجاح تلك المؤسسات في أداء رسالتها، بما يمثله من إحساس فردي بالمسؤولية وانتماء لمجتمع مدني له سلطته في التغيير أيضًا، ولنجاح الجهود التي تُبذل لا بدّ كذلك من تدخّل الأمن والقضاء لردع المخالفين، فهناك تجار الأزمات الذين يحبون الاصطياد في الماء العكر بخلق الإشاعات وترويج الأكاذيب وزرع الشك في نفوس الناس وتزييف الوعي الجماعي وصناعة رأي عام مشوّه، من أجل الاستفادة من حالة الفوضى وعدم الاستقرار، فيرفعون الأسعار ويحتكرون السلع الأساسية، إلى جانب الغش والاحتيال والكذب والتزوير، الشيء الذي يقتضي من أجهزة الدولة المزيد من اليقظة والتأهّب لردع كل الاختلالات الملاحظة أو المحتمل حدوثها وتتبعها ضمن سياق سياسة وقائية واستباقية، فبعض الظواهر ينبغي القضاء عليها في المهد قبل أن تستفحل في المجتمع، فتشكّل نزيفًا وتدميرًا لكل جهود البناء والحماية، ولذلك فإن التعامل مع مرحلة ما بعد الجائحة يحتاج إلى نمطين من المواجهة:
الأول: ما يُعرف بالوقاية الصحية التقليدية كالاحتياطات الفردية والجماعية التي يقوم بها الأفراد والمؤسسات، والثاني: ما يُعرَف بالحرب على الشائعات ومستغلّي الأزمات، وفي النوعين معًا يبقى المواطن هو العنصر الأكثر قوة في نجاح جهود محاربة الجائحة، عندما يلتزم بالقوانين، ويعمل على إخماد الشائعات بعدم ترويجها وأن تتوقف عنده، لأنّ وسائل التواصل الاجتماعي تغرق في بحر من الأخبار والآراء المجهولة المصدر، والتي يتم نقلها وتداولها دون تفكير مسبق أو تدقيق في المحتوى، بل يتحكم في سرعة انتشارها ذلك الحماس الشعبي الذي يميل مع الكثرة والوفرة، ويتعاطف مع الصورة والحدث، دون التثبت من الخبر، وهذا الجانب يشكّل نقطة الضعف الكبرى في المجتمعات المتخلّفة، بسبب سيادة الجهل والأمية والأنانية وسرعة الانفعال وتغييب العقل... مما يخلق بيئة مناسبة لانتشار الخرافات والتأويلات غير الدقيقة: ومنها أن وباء كورونا من صنع الجن أو العفاريت، ومنها أنَّ الوباء يقتل أعداء الله فقط، ومنها أن الوباء مِن صُنع دولةٍ معيّنة لتدمير اقتصاد العالم، ومنها أنّ الوباء عقاب إلهي، وغير ذلك من التأويلات التي تجد انتشارًا واسعًا في بعض الأوساط الاجتماعية، فتخلق لدى تلك الفئات نزوعًا نحو اللامبالاة وعدم التقيّد بإجراءات الوقاية والسلامة، مما يجعل الاهتمام بمحاربة الجهل أولوية كبرى لا تقلّ عن ضرورة محاربة انتشار الأوبئة ■