«دفاتر الورَّاق» صنيعٌ روائي يكشف عالَم الفَقْد

«دفاتر الورَّاق»  صنيعٌ روائي يكشف عالَم الفَقْد

«دفاتر الورّاق»، هي الرواية الرابعة لجلال برجس (قرية حنينا، محافظة مأدبا، عام 1970)، صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ونالت الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، في دورتها الرابعة عشرة لهذا العام. برجس، روائي أردني، وشاعر وصحافي ومقدّم برنامج إذاعي عنوانه «بيت الرواية»، ورئيس مختبر السرديات الأردني، وسبق أن نال قَصَصُه عدَّة جوائز. وهذا يعني أنه يمتلك خبرة ودربة في الكتابة الروائية ومعرفة سردية نظرية يدلّ مصطلح «مختبر» على نوعيّته.

 

 يبدو بيان اللجنة الذي سوَّغ منح الجائزة لبرجس كأنّه خطاب إنشائي عامٌّ، لا يقدم معرفة بخصائص الرواية وخصوصيتها، ويستخدم مصطلحات غير دالَّة، مثل «لغة عالية»، فماذا تعني «عالية» عندما تأتي وصفًا للغة روائية؟ وهل توجد لغة روائية «واطية»؟! وقراءة الرواية تفيد بأن مفردات لغتها مأخوذة من المعجم اللغوي المتداول، وعباراتها السردية والوصفية قصيرة، بسيطة التركيب، ولا تخلو من تشبيهات، مثل: «كنت مثقلًا بالحزن مثل قطعة إسفنج أُشبعت بالماء»، ومجاز، مثل: «عندما رأيتها، لأول مرة، شعرت ببرق يهوي في سماء روحي».
  يمكن القول إن هذه الرواية «صنيع روائي»، و«صنيع» صيغة مبالغة من «صنع»، فبرجس الذي يجمع خبرة المبدع ودربته إلى التنظير السردي المخبري، كما قلنا قبل قليل، قال في وصف ما قام به لدى كتابته هذه الرواية: «أُحضِّر كثيرًا قبل الكتابة، ولا أذهب إلى الورقة مباشرة، وأبدأ الكتابة، وأنتظر الوحي الذي أراه مسألة وهمية. كتابة الرواية 99/100 اشتغال،   و1/100 موهبة، وهذه قناعتي». 

فطرة الذهاب إلى النّص
يمكن أن يمثِّل إهداؤه للرواية دالَّا على قصده إلى الإجادة، فهو يريد أن يربح الخلود، ولهذا يهدي روايته إلى قرائه، لكنه يتحدث، بعد قليل، عن «فطرة الذهاب إلى النّص» (راجع للمزيد: العين الإخبارية،26/5/2021). الاشتغال الذهني والفطرة فاعليَّتان مختلفتان، فكيف تم التوفيق بينهما؟  يبدو لي أن التجربة، التي كوّنها التفاعل بين الفاعلية الذهنية والفاعلية الحدسية، أملت هذا الصنيع الروائي الذي لا يخلو من هنات أملاها التحكم النظري بتشكيل بنية النص، فكيف تشكلت بنية هذا الصنيع، وأي عالم كشفت؟ 
الحكاية / المتن الروائي تبدأ في نوفمبر1947، في إحدى المناطق الرعوية شرق مأدبا، في فضاء تحكُّم الإقطاع وفقد فلسطين، ومعاناة الفقر والجوع والجفاف... في هذا الفضاء، يسعى محمود الشموسي، الراعي والأجير، إلى توفير حياة كريمة لأسرته. يتفوق أصغر الأبناء (جاد الله) في دراسته، وينتسب للحزب الشيوعي، ويسافر في منحة دراسية إلى موسكو لدراسة الطب، لكنه يدرس الفلسفة، ويحب فتاة روسية، لا تلبث أن تموت في حادث سيارة. وإذ يتحدث عن خذلان الاتحاد السوفييتي للعرب في حرب الخامس من يونيو، تعتقله المخابرات وتعذِّبه. عندما يعود إلى بلدته مهزومًا، يصاب أبوه بالخيبة. يعمل مدرّسًا، ويتزوج، وينجب إبراهيم وعاهد... يُعتقل، ويُعذّب، وبعد أن يُطلق سراحه، يرحل إلى عمان عام 1980، ويصبح قلقًا حذرًا، ويقول لأفراد أسرته: لا تثقوا بأحد، ويقيم عام 1981 كشكًا لبيع الكتب وسط عمان يُسمَّى كشك الورّاق، لكنّه لا يلبث أن يتركه لابنه إبراهيم ويختفي، ثم ينتحر. 
يرث ابنه إبراهيم الكشك، ويُعرف بإبراهيم الورّاق، غير أن الحكومة تهدم هذا الكشك بحجة توسيع الرصيف، ويبني إياد نبيل، وهو أحد النافذين، مكانه متجرًا لبيع الهواتف المحمولة. 

امرأة العقبة
يشعر إبراهيم بأنَّ بطنه ينتفخ كأنه في حالة حمل، وبأنّ صوتًا يصدر منه يحرِّضه على البقاء في الكشك وقول: لا. ثم يحرّضه على الخروج من حالة القبول/ الجبن التي يعيشها إلى حالة التمرد / الشجاعة، فيذهب إلى الطبيب النفسي، يوسف السماك، ثم إلى مركز الشرطة، ويعود من دون نتيجة، ليواصل حواره مع هذا الصوت الذي يواصل تحريضه على أن «يعلِّق الجرس». ويقول له: «أريد أن أعلّق الجرس من خلالك. إن فعلنا هذا ستبدأ الأجراس تتزايد إلى أن تملأ الفضاء»، ثم يُجبر على إخلاء المنزل، فيخليه ويحرق كتب الورّاق ويقرر أن ينتحر غرقًا في البحر.
 يذهب إلى العقبة، لينفّذ قراره. يلتقي، عند الشاطئ، امرأة تحاول الانتحار، أيضًا، غرقًا في البحر. يتحدثان، ويتراجعان، ويعود كل منهما إلى عمان. يلتقي، وهو يبحث عن مكان يأوي إليه، بليلى اللقيطة تحت جسر عبدون، وهي فتاة متشردة هاربة من شخص حاول اغتصابها، وكانت قد خرجت من الملجأ؛ حيث اغتصبتها المشرفة رناد محمود، فتأخذه، بعد أن شعرت بأبوّته لها، إلى البيت المهجور الذي يسكنه مشردون مثلها. وإذ يواصل الصوت تحريضه، يستجيب لأوامره، فيسرق، متقمصًا شخصيات روائية، بنكين وفيلّا. يبحث عن امرأة العقبة، على «الفيس»، وله فيه صفحة باسم «ديوجين»، فيجدها، ويلتقيها، فإذا هي ناردا الصحافية، طليقة أبيه. وإذ يحاول سرقة بيت تعمل ليلى في خدمة صاحبته إميلي، وهي سيدة عاجزة، تروي لخادمتها قصة غدر إياد نبيل بها وعدم اعترافه بابنها منه (يوسف)، تكشف هذه قِنَاعه، وتخبر الشرطة باسمه، فيُعتقل بتهمَتي السرقة والقتل، ويودع في مستشفى الأمراض العصبية؛ حيث تزوره ناردا، وتعطيه دفترًا، فيكتب ما يمرُّ به، ثم يسلّمها إياه كما سلَّمها دفاتر من قبل، فتُسمى هذه الرواية باسم دفاتر الورّاق. هذه هي الحكاية التي شكَّل منها برجس بنية النّص الروائي، فكيف تمّ ذلك؟
تبدأ الحكاية / المتن الروائي عام 1974، كما قلنا آنفًا، ويبدأ النصُّ/ المبنى الروائي بعد رحيل جاد الله وأسرته، عام 1980، إلى عمان بخمسة وثلاثين عامًا، أي عام 2015، وفي ذروة أزمة إبراهيم، على المستوى الشخصي؛ وفاة أمه وانتحار أبيه واستيلاء إياد نبيل على كشكه، وعلى المستوى الاجتماعي: تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية...، والدالُّ على ذلك، على سبيل المثال، بحث أنيسة عن بقايا الطعام في حاويات القمامة.

مفارقة زمنية
 المفارقة الزمنية بين زمن الحكاية وزمن النص الروائي تقتضي استخدام تقنيات روائية تتيح رواية ما جرى في سياق رواية ما يجري. تُعتمد، في هذه الرواية، عدة تقنيات روائية لإتاحة ذلك: أولاها إيلاء القص إلى عدة رواة يتنوعون بين الرواة/ الشخصيات والراوي العليم. لكن ما يلاحظ هو إيكال القص إلى رواة يمثلون وجهة نظر واحدة، ويروون من منظور واحد، فتعدُّد الأصوات / الحوارية يقتضي تعدد وجهات النظر، وتنوّع المنظور الروائي، فكان ممكنًا إيكال القص، أيضًا، للنافذ إياد نبيل والسحاقية رناد محمود ولجُلّ من رجالات السلطة، وثانيتها اعتماد الراوي/ الشخصية الرئيسية، إبراهيم، القصَّ المتكسر بالاسترجاع، المتقطع بالوصف والتأمل؛ إذ يتدفق القص تداعيات تختلط فيها الأزمنة، فسقوط قشرة الطلاء، على سبيل المثال، يستدعي سقوط الأم ووفاتها، واسترجاع حالة وفاتها، يستدعي حادثة موت الأب، وهكذا، وثالثتها اعتماد الراوي/ الشخصية؛ إبراهيم قراءة ما كتبته ناردا في دفتر عثر عليه عند لقائه بها في العقبة، وقراءة رسائل يوسف إليه بـ «الفيس»، وقراءة ناردا ما يتضمّنه دفتر عثرت عليه ذات يوم، كتب فيه صاحبه حكايته، وهي حكاية محمود الشموسي وابنه جاد الله، وهذه الحكاية يرويها الراوي العليم، وكاتبها هو جاد الله، ورابعتها رواية الشخصية / ليلى في سياق روايتها حكايتها ما روته لها إميلي، وخامستها تذييل إبراهيم كل فصل من خمسة فصول بما سمَّاه «كابوس»، وفيه يروي حادثة قتله شخصية من شخصيات الرواية.
خيوط القص، كما يبدو، كثيرة ومتشعّبة، تُحبك بمهارة، ويقطع الراوي السرد عند حدث مفاجئ مشوّق، ليتمّ الانتقال إلى راوٍ آخر يصنع صنيع من سبقه، وهكذا يمضي القص في تناوب بين الرواة والدفاتر. ينتظم هذا القص في بنية تتألف من سبعة فصول يتألف كل فصل من تصدير ومقاطع يتم فيها التناوب بين الرواة، وهكذا تتشكل بنية روائية مروحية، مشغولة / محبوكة من منظور تحضير واعٍ، وهذا ما أوقعها في إشكالية تحكم الصنيع الذهني، أي إن الرواية تُبنى إراديَّا، أو لا تنبني بفعل تفاعل عواملها الداخلية، وهذه الإشكالية تتمثل، أولًا، في أن نمو القص، في كثير من الحالات، يأتي وليد المصادفات، وليس وليد تفاعل العوامل الداخلية.

أحداث غير مقنعة
ومن المصادفات نذكر، على سبيل المثال: موت حبيبة جاد الله في موسكو بحادث سيارة، فماذا يحدث لو لم تمت، وجاءت معه إلى عالم «الفقد»؟، وموت أسرة ناردا بحادث سيارة أيضًا، فماذا لو لم يمت والد ناردا، هل كانت تستطيع أن تقول لا؟ وماذا لو قالتها؟ هنا تتمثل إشكالية تحرر المرأة، واختيار كل من إبراهيم وناردا، في وقت واحد، الانتحار غرقًا في البحر، ولقائهما في العقبة، ثم عزوفهما عن الانتحار لأسباب غير مقنعة، وعثور إبراهيم على دفترها الذي يروي سيرة أسرته. 
وثانيًا وجود كثير من الأحداث غير المقنعة، نذكر منها على سبيل المثال: السطو على البنكين والفيلا، فأحداث هذا السطو تدلُّ على سذاجة فاقعة، وعدم تقدير لمعرفة القارئ وذكائه؛ إذ لا يمكن أن تحدث بهذه السهولة، والسطو على منزل إميلي، غير مسوَّغ، فهي ليست ثرية ولا فاسدة، وإنما هي ضحية إياد نبيل، مثلها مثل إبراهيم، وكشف ليلى شخصية إبراهيم غير مقنع، فهو الوحيد الذي عطف عليها وأشعرها بالأبوة، والعثور على ناردا من طريق «الفيس» غير مقنع كذلك. 
أما تقمص إبراهيم للشخصيات الروائية فقد نجد له تفسيرًا بأنه جبان، ويحتاج إلى أن يتقمص شخصيات أخرى تمتلك صفات السارق الجريء، مثل سعيد مهران بطل رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، ولكن لمَ مصطفى سعيد، بطل رواية «موسم الهجرة» إلى الشمال للطيب صالح، وأحمد عبدالجواد بطل «ثلاثية» نجيب محفوظ؟! كما أن الإشارة إلى شخصية روبن هود غير صحيحة، فإبراهيم طمر المال الذي سرقه، وانصرف إلى ترفيه نفسه، مع أنه لمس تعطش الناس إلى بطل شعبي.

تحولات مجتمعية
تكشف هذه الرواية ذات البنية الروائية التجريبية المركَّبة التحولات المجتمعية، في عالم ثلاثة أجيال عانوا فقدًا لم يُعوض، وليس من طريق إلى تعويضه، لهذا تغدو شخصياته غير سوية، ويصاب معظمها بالاكتئاب، وتجد الحل بالخروج منه إما بالانتحار أو بالهروب، إلى وسائل تجعل العيش محتملًا، أهم هذه الوسائل الكتابة، ومن هنا جاءت تقنية الدفاتر، وتصاب شخصيته الرئيسية، إضافة إلى ذلك، بالانفصام وبالوسواس القهري، فما يُعاش، من ظلم، وفساد، وقهر، وقمع، واعتقالات سياسية، وفقر، وتشرُّد، وأولاد ملاجئ، وجرائم شرف، وتفاوت بين عالمين كأن أحدهما أُلصق بالآخر، وإعلام يحرف الحقائق...، لا يحتمل، ما يفضي إلى الخروج المزدوج، أولًا من حالة القبول / الجبن إلى حالة الرفض/ الشجاعة، وصيرورة الشخصية شخصيتين، وثانيًا الخروج إلى الفاعلية الفردية، السرقة والقتل الملتبس لرموز الخراب، غير أن هذا الخروج كان فرديًا، وانتهى إلى هدم البيت المهجور وضياع المال المطمور تحت بلاطة من بلاطاته، واعتقال الشخصية، الممثلة المواطن المعاني، بتهمتَي السرقة والقتل، ووضعها في مستشفى الأمراض العصبية؛ حيث تكمل كتابة حكايتها وتكسر الحاجز بين الواقعي والوهمي والكابوسي، وتعطي دفترها الأخير لناردا، فيضاف إلى الدفاتر الأخرى الكاشفة عالم فقدٍ لم يعوّض، فجاء السعي المخفق بخيبة جديدة تضاف إلى خيبات عالم لم يعد العيش فيه محتملًا، وتبقى النهاية مفتوحة،  فعسى أن يأتي مَن يكتب دفاتر جديدة مختلفة ■