رسالة إلي

رجل باع نفسه للسلطان

"هذه مجموعة من الرسائل كتبتها ولم يقدر لها أن تصل إلى أصحابها والحمد لله".

سيدي

* ألا ترى أنك خرجت في تلك الليلة منتفخ الأوداج مزهوا بما تصورت أنه نصر مبين، ونمت قرير العين لأنك أحسست أن سادتك جميعا قد رضوا عنك واطمأنوا إلى حسن بلائك وفائق مقدرتك، وأنك رجل المهمات الصعبة.. ولكن ألا ترى يا صاحبي أنك في تلك الليلة الحزينة قد استطعت أيضا أن تدفن في التراب آخر ما تبقى لك من احترام لدى آخرين ليسوا من سادتك، ولا من أصحاب الكلمة النافذة فيما ترجوه من شأن يبدو لك أنه خطير وما هو بخطير.

* وصدقني إذا قلت لك إنني لا أفكر في هؤلاء ولا في هؤلاء، لا أفكر في سادتك الذين رضوا عنك واطمأنوا إلى مقدرتك ومهارتك، ولا أفكر في الآخرين الذين احتسبوك عند الله وأدركوا إدراكا لا ريب فيه أنك رجل باع نفسه للسلطان بثمن بخس أيام معدودات.

* صدقني إذا قلت لك إنني لا أفكر في هؤلاء ولا في هؤلاء، وإنما أفكر فيك أنت وفيما انتهى إليه أمرك.

* لقد مضى حين من الدهر كان بعض الصحاب - وأنا منهم - ننظر إليك على أنك بعض الأمل وبعض الرجاء وبعض النور، فإذا بك - وفي غير رحمة وفي وقت قصير - تعصف بذلك كله عصفا وتقضي عليه قضاء وتكشف لنا جميعا عن صورة جد كئيبة وجد صغيرة.

* هل أنت حقاً كذلك؟ هل أنت في أعماقك صغير إلى هذا الحد؟ وهل استطعت أن تخفي عنا حقيقتك طوال هذا الزمن إلى أن كشف عنك السلطان فإذا بك بمثل هذا الهوان؟

* إنني مازلت أذكر اليوم الذي لقيتك فيه بعد أن تغير الحال وخرجت من النسيان إلى الحياة الصاخبة من جديد، وحاولت يومها أن أذكرك بما يقال له المبادئ، وما يقال له القيم، وما يقال له المستقبل فإذا بك تزورُّ ازورارا وتنفر نفورا، وتقول لي في غير حياء: لقد كرهت أيام الظلام التي طالت وسأتمسك قدر طاقتي وبكل وسائلي بما نلت من أضواء.

* وأحسست يومها أنك أغمدت خنجراً في كل الأحلام.

* لقد طاف ذلك كله في ذهني وأنا أجلس في تلك القاعة تلك الليلة، أشهد تلك المسرحية الهزلية التي كنت أنت مديرها القدير.

* وتابعت ذلك النقاش الذي جرى بينك وبين صاحبنا الآخر، الذي وقف يدافع عن وجهة نظر يؤمن بها - حتى وإن كانت في الظاهر لا ترضي بعض ذوي الحظوة والنفوذ - وأدركت أنك تفسح له الوقت لعله بذلك - في تصورك - يضع الحبل حول عنقه، وينتهي أمره لدى من يهمك أن يظل حبلك موصولاً بهم وألا يظل لغيرك بهم صلة، ذلك أنهم هم - في نظرك - الذين يمنحون ويمنعون.

* وأفاض صاحبنا وأطنب وقدم لرأيه حججا وأسانيد أعجبت الكثيرين، وكان هلعك كبيرا عندما أدركت أن القاعة أو أغلبها قد كسبها صاحبنا إلى حجته الواضحة البسيطة، وأنك قد غلبت على ما أريد لك من أمر، وأن المسرحية الهزلية التي أدرتها منذ أول الليل توشك خيوطها كلها أن تفلت من يدك، مع ما في ذلك من خطر داهم عليك وعلى كل ما أنت فيه من متعة وأبهة وجاه.

* ولكنك كنت جسورا إلى أبعد حد، واستطعت أن تجد من الشجاعة ما يجعلك تقلب الليل نهارا والنهار ليلا، وتدحض الحقيقة دحضا، وتعلن على الناس ما يعلم الناس جميعا أنه لا صلة له بما حدث ولا بما قيل من قريب أو بعيد.

* وخرجت وخرج صاحبك وخرج الناس الذين كانوا معكما.

* خرج صاحبك يسير على قدميه، ولكن رأسه كان شامخا مرتفعا فوق كتفه، وخرجت أنت تحيطك كل مظاهر الأبهة، ولكنك تحس في أعماقك بخزي ليس بعده خزي، وعار ليس بعده عار.

* وقال أناس ما بال هذا الرجل قد اختار لنفسه تلك النهاية البشعة السيئة، وهل هناك أبشع أو أكثر سوءا من رجل يلقى ربه ويلقى أهله ويلقى تاريخ بلده وهو مزور يعبث بإرادة الناس عبثا لا يعرف الحياء ولا يعرف التردد ولا يخشى شيئا مما يوقره كرام الناس.

* ما كان أقسى تلك الليلة على نفسي، كان كلامك معي عن النور والظلام كلاما يقال، أما تلك الليلة فقد كانت شيئا آخر، كانت كشفا لمعدنك الذي عشت وعاش معي بضعة من الناس يظنون - أو يرجون - أن يكون معدنا نفيسا فإذا به معدن بالغ الهوان.

* ورأيتك كثيرا بعد ذلك، كنت أبش في وجهك لأني بطبيعة تكويني لا أحسن غير ذلك، ولكنني لم أكن أطيق أن أطيل جلستي معك، فقد كنت أحس بعد قليل برغبة في الغثيان، وكان ذلك الإحساس أكثر ما يكون عندما أراك وأسمعك تتحدث عن القيم والمبادئ والأخلاق.

* ألا ترى أن مثل هذا الحديث قد انتهى أوانه منذ زمن بعيد؟.

* وألا ترى يا صاحبي أنك بعت نفسك بثمن بخس أيام معدودات؟.

* وما أقبح ما أرى على وجهك هذه الأيام التي تنتظر فيها رأي سادتك فيما يعنيك في أمر! ما أقبح ما أرى على وجهك هذه الأيام من همٍّ وخوف واكتئاب يحيطها قلق واصب يعصف بنفسك عصفا ويكاد يمزقها تمزيقا، وما ذلك إلا لأن تلك النفس قد فقدت قيمتها الذاتية وفقدت طمأنينتها الداخلية وأدركت أنها لا تعدو أن تكون قشة يحركها من يملكون أمرها كما يشاءون.

* ولكني أحب أن أطمئنك إلى أنك ما دمت تملك ذلك الوجه الكئيب والصوت المنكر والقلب الصلد وما دمت تعرف حدود "اللعبة" وحدود دورك فيها، مادام يتوافر فيك ولك ذلك كله فاطمئن، فإن سادتك سيدركون أنهم في حاجة إليك، وعندئذ سيظل ما أنت فيه من أبهة وهيلمان وضجيج يحيط بك، وستظل نفسك تتآكل من داخلها حتى لا يبقى فيها قط غير رماد تذروه الرياح لكي تملأ رائحته العفنة الآفاق.

* ومع ذلك فإن لك أن تتساءل: هل يستطيع غيرك أن يقول "لا" حيث قلت أنت "نعم"، سيتطاول كثيرون من الناحية النظرية وهم بعيدون عن البحر- أي وهم على البر - لكي يتطوعوا بكلام ضخم كبير، ولكن من يدري هل كانوا سيصمدون للاختبار إذا تعرضوا للاختبار؟.

* ما أسهل الكلام على الناس وما أصعب الفعل.

* ولا تظن أنني بذلك أدافع عنك أو ألتمس لك عذرا، فإن الخطأ لا يبرر الخطأ، والضعف ليس جواز مرور إلى مزيد من الضعف.

* ومع ذلك يا سيدي دعني أقل لك: إن الله وحده هو الذي يعلم أي منقلب سينتهي إليه أمرنا وأمرك وأمر الناس أجمعين.