كيف نختار مستقبلنا؟ رجب سعد السيد

كيف نختار مستقبلنا؟

وجهة نظر سياسية في الشئون البيئية
المؤلف: آن تايلور

أصبحت مشكلة البيئة تفرض نفسها في مقدمة مشكلات العالم. فكلما زادت درجة التطور زاد الإنسان من إفساد البيئة التي يعيش فيها. وفي هذا الكتاب رؤية مختلفة لهذه المشكلة. فهو يقدمها من منظور سياسي أولا، ومن وجهة نظر نسائية ثانيا. فمؤلفة الكتاب آن تايلور عضوة مجلس العموم تلقي نظرة شخصية مدققة حول المشكلات البيئية التي تواجه سكان الأرض من منظور أنه عالم صغير منكمش لا يستطيع الواحد فيه العيش بمعزل عن الآخرين.

" كانت المرة الأولى التي أتيح فيها لبشري أن يرى الأرض من الفضاء الخارجي، في منتصف القرن العشرين، ووصفها بأنها كرة صغيرة، تبدو هشة وخالية من العمران، تغطيها السحب، وتحتل المياه معظم مساحتها. ولقد اتضح لنا عجز البشر عن إدارة أحوال هذه الكرة. إنها حقيقة، لا مهرب من مواجهتها ".

جاء ذلك في تقرير اللجنة العالمية للبيئة والتنمية، الذي أصدرته في عام 1987، تحت عنوان: " مستقبلنا المشترك " ، ليؤكد على أنه لا مجال للعزلة في عالم اليوم، فالعلاقات بين الدول تتزايد وتتعقد، بحيث أصبحت إدارة الشئون العالمية في حاجة إلى التطوير المستمر لمسايرة النمو في تلك العلاقات. ولقد تحقق بعض التقدم في هذا المجال، استجابة لذلك التقرير؟ فظهرت - خلال السنوات الست الماضية- مبادرات إقليمية ومحلية لمعالجة بعض أحوال البيئة ومشاكلها، مثل تلوث الهواء، وسياسات استغلال الموارد المائية والتخلص من النفايات؛ كما ظهرت استجابات عالمية، تمثلت في معاهدات وبرامج للتعاون الدولي من أجل حماية طبقة الأوزون، وبداية التباحث لوضع برامج دولية لدراسة أحوال المناخ.

هذه علامات مشجعة، ولكننا لا نراها كافية لمواجهة التدهور المتسارع في أحوال البيئة العالمية.. فثمة تقديرات تشير إلى أن التوسع في الأنشطة البشرية مستمر في الضغط الشديد على قدرات وإمكانات الأنظمة البيئية والموارد الطبيعية في العالم، حتى أن بعض هذه الأنظمة والموارد، مثل الوقود الأحفوري وطبقة التربة الزراعية الخصبة والتنوع الحيوي، يتعرض للاستنزاف الشديد. كما أننا كبشر، بدأنا نلاحظ ونعاني من بداية مرحلة حرجة في تاريخ حياتنا على سطح الأرض، حيث لم تعد الطبيعة قادرة على امتصاص النفايات المتخلفة عن أنشطتنا، مضيفة عبئا جديدا على الحضارة الإنسانية وهي تنهي قرنا من الزمان شهد تحولات سريعة وعميقة في مختلف مظاهر الحياة، ولتدخل في قرن جديد يتوقع له أن يشهد انطلاقات أكبر.

وجهة نظر شخصية في البيئة

كيف السبيل إذن إلى صون ودعم هذا العالم الذي نعيش فيه، والذي تنهشه التغيرات السريعة الحادة؟ وهل نكتفي بمجرد مقاومة هذه التغيرات؟، أم تتعداها جهودنا إلى مزيد من الخطط الشاملة والطويلة الأجل، للتعامل مع مختلف قضايا البيئة؟

علامات استفهام عديدة لا تزال قائمة، يدور حولها جدل كثير، يشارك فيه العلماء والهيئات الرسمية والأهلية المهتمة بشئون البيئة.ولعله من المفيد أن نستمع إلى وجهة نظر ذات طابع مختلف.

من الضروري أن نشيرإلى أن المؤلفة تنتمي إلى حزب العمال البريطاني، وشغلت مقعدا في مجلس العموم، ممثلة لحزبها، لمدة تسع سنوات " 74- 1983 ". وفي عام 1987، أصبحت وزيرة لصون البيئة، فيما يسمى بحكومة الظل، ومن الطبيعي أن تتبنى أفكارها توجهاتها الحزبية. فإذا تعرضت لقضايا البيئة من خلال هذه الأفكار والتوجهات، فقد تظهر مساحات للاختلاف معها، ولكن هذا لا يدعو إلى عدم الالتفات إلى وجهة نظرها، خاصة إذا كان هدفها أن تدلنا على كيفية اختيار وتحديد ملامح مستقبلنا.

ولا تنسى المؤلفة كونها سيدة. وهي تريد أن تلفت نظرنا إلى خطورة تجاهل رأي المرأة في مثل هذه القضايا الحيوية، ولكنها لا تقول ذلك بنفسها، بل توصله إلينا من خلال تقديم الكتاب الذي قام به "جروهارلم بروند تلاند" رئيس وزراء النرويج ، والذي يقول فيه ".. إن التغيرات التي تطرأ على عالمنا يجب ألا تغفل المرأة، إذ إنها- وخصوصا في الدول النامية- تعاني- ربما أكثر من الرجل- من تدهور أحوال البيئة.كما أن المرأة تمثل 50% من مجمل تعداد سكان العالم، وثلث القوة العاملة فيه، ولكنها لا تمتلك القوة السياسية الموازية لنصيبها من التعداد ومن المشاركة في الإنتاج والأنشطة الاقتصادية. فليس ثمة من هو أشد إحساسا من المرأة- عاملة أو ربة بيت- بأهمية صحة البيئة، وألا نستهين بخبراتها في إنقاذ مستقبلنا المشترك! ".

وها نحن نفعل.. لنرى ماذا تقول "المرأة" و"السياسية"!

الفرصة مازالت سانحة

تعطينا المؤلفة مقدمة ممتعة تتحدث فيها بحماس بالغ، وتعرض علينا جوانب من خبراتها وثقافتها الواضحة التنوع. وهي تبدأ متفائلة؟ فالفرصة لا تزال سانحة لاتخاذ قرارات وتحديد اختيارات جديدة، مفعمة بالأمل ومدعمة بالعزم والتصميم على حماية مستقبلنا كبشر نعيش في هذا الكوكب المرهق. وتأمل الكاتبة أن تقدم من خلال فصول كتابها وجهة نظرها كمشتغلة بالسياسة، في مشاكل البيئة، وما تراه من حلول مناسبة.وهي لا تجد غرابة في تعرض السياسيين للمسائل البيئية. إنها ترد بذلك على بعض علماء البيئة الذين يدعون إلى إبعاد شئون البيئة عن حلقة الجدل السياسي التي يموج فيها العديد من الاتجاهات الفكرية والحزبية التي قد تضر الخلافات الناشئة فيما بينها قضية البيئة. ففي رأيها أن المسائل البيئية لها بعدها السياسي الذي لا يخفى على المحلل العادل، بل إن بعضها يمثل الجانب السياسي فيه عنصرا رئيسيا، لأن كل ما يطرأ على البيئة من تغيرات هو في الواقع نتيجة مباشرة لطريقة تركيب المجتمع، ولأنماط توزيع واستغلال الموارد الطبيعة فيه، وللأهداف الاقتصادية والاجتماعية التي يجد المجتمع في طلبها، وهي كلها أمور سياسية.

وتضرب المؤلفة مثلا يؤكد وجهة نظرها، بما يحدث الآن في بريطانيا من اتجاه إلى تمليك القطاع الخاص شركات توزيع المياه والكهرباء، وما يدور حوله من جدل يتلخص في سؤالين: أيهما أكثر أهمية: أن يحصل المساهمون في شركة المياه على أرباحهم، أم أن نمد المواطنين بمياه شرب تتوافر فيها المواصفات الصحية؟ وأيهما أكثر أهمية: توفير الكهرباء مهما كانت الوسيلة، أم تحري أمن وسلامة الوطن والمواطنين وصون البيئة من أجل مستقبل أطفالنا؟

وهل تخلو محاولة الإجابة عن هذين السؤالين من التعرض لأمور سياسية؟!

وتعود آن تايلور إلى طبيعتها كسيدة، وكأم، فتقول: لا أجدني في حاجة لتبرير تصدر اهتمامي بالأطفال لتناولي ومعالجتي لقضايا البيئة، فهي مسألة فطرة تجعلني لا أستطيع الفصل بين شئون البيئة وصحة ومستقبل أطفالي. ولست فريدة في ذلك، إنه شأن كل الآباء والأمهات، وهي محقة في هذا. وتعود لتقول: إن أطفالنا يجب أن يكونوا الدافع الرئيسي لنا في معالجتنا لقضايا البيئة.. فالرضيع الراقد في مركبة تدفعها أمه أمامها في الشارع هو الأقرب منا إلى مستوى مواسير العادم في السيارات المارقة بجانبه.. إنه- هكذا- يكون أشد التصاقا بمشكلة تلوث هواء المدن. كذلك يتعرض أطفالنا لخطر تراكم المبيدات السامة في أجسادهم الغضة بمعدل أكبر من معدل تعرض الكبار لهذه السموم.. لذلك يجب أن تكون قدرة الصغار على تحمل تركيزات هذه المواد هى الأساس في تقدير المستوى المأمون المسموح به، مادمنا أصبحنا لا نستطيع الاستغناء عن هذه المبيدات.

وتهتم المؤلفة- قبل أن نتعرض معها لمحتويات فصول كتابها السبعة- بأن تجيب عن بعض الأسئلة، منها: ماذا نعني بمصطلح " البيئة "؟.. وما معنى " المنظور البيئي "؟

تقول آن تايلور إننا نعيش في عالم " منكمش " أو " متقلص " بالنسبة لما كان عليه العالم نفسه قبل أن تطأ قدما رائدا الفضاء الأقريكي " نيل آرمسترونج " سطح القمر، وينظر إلى الأرض ويصفها بأنها "سفينة الفضاء: الأرض" ! لقد أصبح العالم فعلا " قرية كبيرة "، بعد ثورة الاتصالات وثورة المعلومات؟ ونحن أول جيل من البشر يرى ذلك ويعايشه. وهكذا ، يمكن القول بأن البيئة التي يعيش فيها البشر ليست مجموعة من الأجزاء المتباعدة بل "كل " مركب، أو نظام تتلاشى فيه الخطوط المرسومة على الخرائط كحدود دولية. والبيئة - كما قال أينشتاين- هي "أي شيء آخر غيري "!، أي الأشياء المحيطة بنا.

ومن منظورها البيئي، تريد المؤلفة لهذه " الأشياء " أن تكون قادرة على دعم حياة الآدميين في الأرض وضمان تمتعهم بصحة جيدة. إن ذلك لا يعنى الفصل بين البشر والطبيعة، أو بين البشر والنظام البيئي الذي يعيشون فيه، لأن ذلك الفصل مستحيل، فالمنظور البيئي هو إطلالة شاملة تتأكد فيها أهمية علاقتنا كبشر بسائر عناصر البيئة من حولنا بما فيها من مخلوقات غيرنا. وبالرغم من أن وجود هذا المنظور ضروري، إلا أنه لا يكفي، فهو لا يقول لنا ماذا نفعل لمواجهة التأثيرات المدمرة الناشئة عن النشاط الصناعي واستنزاف الموارد الطبيعية. إنه قد يوحي إلينا بخيارات محتملة، ولكنه يترك لنا مهمة اتخاذ القرار وتحديد المسار والاختيار.

البيئة والتخطيط

وتمضي الكاتبة في عرض أفكارها البيئية مجدولة بانتماءاتها السياسية في حماس بالغ، مستعينة بالإضاءات التاريخية، ومعتمدة على الأسلوب الساخر في مواقع كثيرة من الكتاب. ولا غرابة أن يطالعنا ضمير المتكلم طوال قراءتنا للكتاب، فالمؤلفة لا تزعم أنها تقدم كتابا علميا يهتم بمشاكل البيئة.. إنها ليست عالمة، ولكن سياسية، تتعرض لقضية ذات صبغة علمية تمسك حياة كل البشر، فتنقل المباراة إلى ملعبها، وتحاول أن تنتصر لرؤيتها.

ويحمل الفصل الأول عنوانا هو: البيئة والأخلاقيات الاشتراكية. وهي ترى أنه من الطبيعي أن يبدأ الكتاب بهذا الفصل، وذلك لأنها تهدف إلى البحث عن القيم وترسيخها ؛ وتعتقد أن شمولية الرؤية الاشتراكية وإيمانها بإمكان التخطيط لتحقيق نوع الحياة التي ترغب فيها يجعلان تلك الرؤية أكثر وعيا بمفهوم المنظور البيئي. وهي تسلم بأهمية الدور الذي يلعبه كل من الفنيين وخبراء الإدارات المركزية، ولكنها تميل إلى تضخيم أهمية القيم والاعتبارات التي نحتاج إليها لدفع العمل البيئي، والتي تزعم أنها مثبتة في تاريخ الحركة العمالية.

وتتعرض المؤلفة في الفصل الثاني للعلاقة بين البيئة والتنمية، وتذهب في ذلك إلى أن التركيب الحالي للاقتصاد العالمي لا يوفر الشروط الضرورية لتنمية ثابتة الأركان. وتقترح لتحقيق الانسجام بين التنمية وصحة البيئة، أن تتبنى دول العالم الاتجاه إلى تكوين التجمعات الإقليمية، مثل المجموعة الأوربية، وأن تبرم الاتفاقيات والمعاهدات الدولية لحماية الموارد الطبيعية من التدهور، ولتحديد مستويات لمختلف أنواع التلوث، على أن تتضمن هذه الاتفاقيات نصوصا صريحة تعترف بحقوق واحتياجات الدول الفقيرة.

ويأتي الفصل الثالث تحت عنوان: إشعار الأفراد بالمسئولية. وفيه تنتقل من المنظور العالمي الذي ناقشت من خلاله مضمون الفصل الثاني، إلى المنظور المحلي، لتناقش إمكان دفع الأفراد إلى المشاركة فى صون البيئة. وهي تدعو الحكومات إلى خلق الأطر الإدارية والتنفيذية المناسبة التي تتيح للأفراد أن يشاركوا بالفعل وباتخاذ القرارات في قضايا البيئة، وتطالب بأن يعطي هؤلاء الأفراد الإمكانات والقدرات ليلعبوا دورا أكبر في التخطيط وصنع القرارات السياسية المتصلة بشئون البيئة.وتؤكد الكاتبة على أهمية التعليم البيئي، وتقدم بعض الاقتراحات التي تجعله أكثر شمولا وتأثيرا.

والحقيقة أن اهتمام المؤلفة بمشاركة العامة في مواجهة قضايا البيئة يمتد في الفصلين الرابع والخامس، وهي ترى في ذلك حقا من الحقوق الديمقراطية للمواطنين الذين يجب أن يحاطوا علما بالأخطار المحدقة بالبيئة من حولهم ليتكون لديهم الوعي بها، أو بعدم وجود مثل تلك الأخطار، فلا ينتابهم القلق على صحة بيئتهم. إن توافر هذا الحق للمواطنين لن ينمي الوعي البيئي لديهم فقط، بل سيزيد من ثقتهم بالمؤسسات الحكومية أيضا، ويهيئهم لتقبل أي إجراءات تتخذ لصون البيئة.

وتضيف المؤلفة في الفصل الرابع تخوفها من أن يعزف العامة عن المشاركة في بحث السياسات البيئية إذا تولد لديهم إحساس بأن النقاش الدائر ذو صبغة فنية بحتة، وأن القضية تخص الخبراء وحدهم. وترى أن ذلك يحرم القضية من الشكل الديمقراطي الذي تجده ضروريا لإنجاح أي خطط أو سياسات بيئية.

من أجل تكنولوجيا نظيفة

وفي الفصل الخامس، تقترب المؤلفة من خصائص العلاقة بين البحث العلمي والتكنولوجيا وبين البيئة والمجتمع والتنمية. ونتفق معها في الأمل في تكنولوجيا "نظيفة" تخفف من وطأة الصناعة على البيئة. لذلك، فإنها تجد من الضروري الاستفادة من كامل جهود . البحث العلمي ونتائجه، وأن تقوم الحكومات بالتنسيق بين مراكز البحوث وجهات المراقبة والإدارة. وتنتقد المؤلفة الافتقار إلى هذا التنسيق في بريطانيا، وتنتهز الفرصة لتقترح نظاما متكاملا لمراقبة التلوث تحت مظلة الحزب الذي تنتمي إليه.

وتناقش المؤلفة في الفصل السادس النواحي العملية المتعلقة بتخفيض التلوث الناتج عن الأنشطة الصناعية والتجارية لرفع الأخطار عن حياتنا وتيسيرها. وهي تختار لهذا الفصل عنوانا هو: تخضير الصناعة!. وهي ترى أن تلك مسألة شائكة يجب أن تعالج بحكمة بحيث لا تبدو الدعوة إلى وجود إطار عمل واضح ومنظم نتعامل به مع هذه المسألة، وكأنها تهديد ووعيد للمؤسسات الصناعية العامة والخاصة. والمسألة- ببساطة- تتلخص في أن تكلفة التلوث- وتشمل الخسارة المادية المباشرة بالإضافة إلى خفض قيمة ونوعية الحياة البشرية- تفوق بكثير تكلفة منع التلوث. وتشير المؤلفة إلى أن العديد من الشركات الصناعية والاتحادات والنقابات العمالية في بريطانيا والعالم تتبنى الدعوة إلى مقاومة التلوث، بعد أن أدركت ضرورتها للمحافظة على قدراتها الإنتاجية وعلى قيمة منتجاتها التي تمكنها من المنافسة في السوق.

وتتناول المؤلفة في الفصل الأخير من الكتاب التكامل بين سياسات البيئة والسياسة الاقتصادية، وهى ترفض المبدأ الداعي إلى ربط القرارات البيئية بتحليل تكلفة الفائدة، لأنه يضع الخيارات البيئية تحت رحمة السوق والأسعار، ولا ينظر إلا تحت قدميه، متجاهلا المستقبل.

 

رجب سعد السيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب





آن تايلور