إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

لا جديد تحت الشمس!

          عندما كنت صغيرًا، كان لدي هاجس المشي على بلاطة وترك الأخرى حين كنت أسير على الرصيف. بمعنى أنه إذا كان الرصيف مبلطًا بنظام بلاطة صفراء ثم أخرى حمراء فإنني كنت أختار لونًا واحدًا أسير عليه إلى أن أصل، وإذا كان الرصيف مبلطًا بلون واحد كنت أتخيّل أنه مقسم إلى لونين بالطريقة نفسها، وأختار لونًا أسير عليه.

          لا أعرف الآن إن كان هذا له علاقة بشيء ما في الطب النفسي أم أنه مجرد نوع من اللعب وتزجية الوقت، فقد شفيت من هذا الهاجس الغريب الآن، إلا أن ما أسعدني وأدهشني هو أنني وجدت هاجسي عندما قرأت رواية «كائن منتصف الليل» لجورج ديهايمل، فبطل الرواية يعاني من الهاجس نفسه بالضبط وهواجس أخرى كنت أفكر فيها أحيانًا وأنا صغير.

          وبعد أن درسنا في العلوم أن المادة تتكون من ذرات والذرات تتكون من أنوية تدور حولها الإلكترونات، بدا لي هذا الأمر شبيهًا جدًا بأنظمة الكواكب التي تدور حول الشموس. هل يمكن أن تكون هناك كائنات حية تعيش على الإلكترونات التي تمثل الكواكب بالنسبة لها، بينما تمثل الأنوية الشموس التي تدور حولها هذه الكواكب؟ وهل يمكن أن تكون كواكبنا التي نعيش عليها مجرد إلكترونات تدور حول أنوية/ شموس تكوّن مادة أخرى أكبر حجمًا بما لا يمكن تخيله، وهذه المادة بدورها تمثل مادة كواكب وأنظمة شمسية هائلة لا يمكن تخيّلها؟

          ثم اندهشت أكثر عندما قرأت لكاتب الخيال العلمي آرثر سي كلارك أن هذه الفكرة راودته كثيرًا وهو صغير، ثم عندما كبر أفرد لها فصلاً في أحد كتبه يناقش فيه بالتفصيل إمكان أن تكون هذه الفرضية صحيحة.

          كثيرًا أيضًا ما أفكر في فكرة لقصة، وتظل في رأسي لفترة ما، ثم أفاجأ بالقصة قد كتبها شخص آخر! نوع غريب من توارد الأفكار الذي يحدث على مسافات متباعدة وعبر الزمن أيضًا! فيحدث كثيرًا أن يتوصّل عالمان يعيشان في مكانين مختلفين إلى اختراع واحد في وقت متزامن، دون أن يعرف أحدهما شيئًا عن الآخر، ويحدث أكثر أن نكتشف أن نظرياتنا الحديثة في السياسة والفلسفة والعلوم قد راودت أذهان علماء العصور القديمة ونجدها مذكورة في كتبهم التراثية.

          يبدو أن السبب هو أن عقولنا مصمّمة للتفكير بالطريقة نفسها، وكما تقول القاعدة العلمية إن البدايات المتشابهة تؤدي إلى نتائج متشابهة، فإن عقولنا تتوصل إلى الأفكار نفسها إذا أعطيت المعطيات نفسها. 

          لا جديد تحت الشمس، كل ما فكرنا فيه أو فعلناه فكر فيه الأقدمون، الأفلام تقتبس من بعضها والقصص تستنسخ التيمات نفسها والموضات تتكرر بصورة دورية، لذلك أشك كثيرًا في قول أبي العلاء المعري:

          وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ
                                        لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ

          لا أيها الشاعر، لا يوجد جديد، حتى تصميمات المركبات الفضائية وملابس رواد الفضاء وجدناها على جدران كهوف تاسيلي التي تعود إلى آلاف السنين، ومعظم معارفنا الحديثة عرفها القدماء بشكل ما.

          حتى فكرة هذا المقال ليست جديدة أبدًا، فقد كتبت مرات عدة من قبل، وكما يقول الجامعة بن داود: «ما كان فهو ما يكون وما صُنع فهو الذي يُصنع فليس تحت الشمس جديد».

          فعلاً .. لا جديد تحت الشمس، لذا أتوقف عن الكتابة وأضع نقطة في نهاية السطر.
----------------------------------
* كاتب من مصر.

 

 

ميشيل حنا*