التعددية والمعرفة

 التعددية والمعرفة

حينما نتأمل تاريخ الحضارات، على امتداد التاريخ المدون الذي عرفته البشرية سنجد أن مشتركاً أساسياً، بين مشتركات أخرى، كان يجمع بين كل تلك الحضارات التي بلغت ذرى الرقي والتقدم، هو التحلي بالمعرفة، بما يعنيه ذلك من إقبال على العلوم والمعارف والأفكار المختلفة ومن تشجيع على إشاعتها في المجتمعات التي حققت النهضة.
 هكذا كان حال الحضارة المصرية القديمة، على سبيل المثال، التي قدمت للعالم القديم نموذجـًـا  رفيعـًا للارتقاء بالعقل البشري، عبر تحصيل المعارف والاستفادة منها في مجالات الحياة جميعـًا، في البناء والزراعة والفنون وغيرها. تماماً كما كان شأن الحضارات الآشورية القديمة والإغريقية وسواهما. 

 

 

وقد كان ذلك هو نفس ما حققته الحضارة العربية الإسلامية حين انحازت للمعرفة والعقلانية وساهمت بمنجزها الفريد في العلوم والآداب والفكر والطب والفلسفة، للدرجة التي جعلت من هذه الحضارة ومنجزها الفكري أحد أهم مصادر الحضارة الغربية حين أسست نهضتها منذ بدأ عصر النهضة.
وهذا هو ما حدث لكل أمة أو دولة أرادت أن تحقق الرفعة لذاتها، وشواهد التاريخ أكثر من أن تحصى. 
لكن المعرفة ليست فقط مجرد وسائل لتحصيل العلوم واكتناز المعارف، بل هي وسيلة من وسائل معرفة الإنسان، كممثل لمجتمع كامل، لقدراته وللتعرف على العالم من حوله، وهي أيضا وسيلته الأساس لكي يتعرف على الآخر. 
فكلما ارتفعت قيمة المعرفة والإقبال عليها في مجتمع من المجتمعات وجدنا هذا المجتمع أكثر قدرة على فهم الآخر، والتفاعل معه، بكل ما يعنيه ذلك من إشاعة لمناخ التعددية الثقافية والفكرية، ولأجواء حرية الفكر. وكلما كان المجتمع قادرا على تحقيق سمات التعايش المشترك، وعلى فهم الآخر والتفاعل معه بشكل إيجابي، فإنه يقدم بذلك تأكيدا لمعرفته بذاته وبقدراته الخاصة. 
ومن المهم هنا التأكيد على أن المجتمعات المعرفية لا تكتفي بإشاعة المعرفة والعلم وتوفير الوسائل الحديثة المختلفة لانتشار المعرفة، وبالتالي توفير المناخ الملائم للإبداع وللحوار بين الفئات المختلفة في المجتمع، بل وتعمل على تشريع الضوابط القانونية التي تحمي مفاهيم التعايش السلمي وترسخه، وتؤكد قيم الحوار والاختلاف والتعدد، من خلال بنود دستورية مصاغة بوضوح لا التباس فيه في الدساتير التي تخص تلك المجتمعات، وقوانين ملزمة لجميع أطراف المجتمع، أفرادا ومؤسسات، في هذا الصدد، لحماية المجتمع من مخاطر الفتن والاقتتالات الطائفية التي نرى اليوم ظواهر وأطيافا واسعة لها في عديد من دول العالم العربي مع الأسف.
فبقدر ما تؤكد معرفة الآخر على اليقين في قيم التسامح والتعددية، فإنها في الوقت ذاته تعبر عن ثقة الفرد والمجتمع في ذاته، ويقينه في قوته التي ترتكز على العقلانية والموضوعية، وبالتالي  خشيته من الآخر.
ولعل وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت اليوم عنصراً أساسيا من عناصر الحياة اليومية لقطاع واسع من الجماهير في أرجاء العالم قادرة على أن تبرز لنا كيف أنها نجحت في تحقيق ما يمكن أن نطلق عليه انضغاط الزمان والمكان، بتعبير المفكر الأمريكي ديفيد هارفي، بسبب الإمكانات الهائلة التي منحتها هذه الوسائل للبشرية في التواصل والحوار والتعارف، بحيث قربت البشر رغم الفواصل الجغرافية التي قد تفصل بين كثير منهم، وأيضا لأن برنامجا إلكترونيا مثل «غوغل إيرث» يتيح لمستخدمه أن يرى أي بقعة من بقاع العالم مصورة بعدسات «الساتلايت»، مما يجعل فكرة الاتساع اللامتناهي للكرة الأرضية فكرة واهية وقديمة، بل يمنح الأفراد اليوم تصورات جديدة عن إمكانية البشر في السيطرة على تصورهم عن عالمهم بكل ما فيه.
وعلى المستوى الثقافي، سنجد الآن أن هذا التصور المكاني الجديد قد تغلب على الإحساس بفكرة النظر إلى الأماكن المجهولة من العالم كأنها أسرار غامضة، وكانت محلاً للخرافة، فلم يعد هذا وارداً الآن.
وبالتالي فإن هذه الوسائل الحديثة للتواصل، والتقنيات الجديدة لمعرفة العالم بدقة من قبل كل البشر لا بد أن يكون من بين فضائلها إزالة مخاوف البشر ممن يختلفون عنهم، فالآخر لم يعد كائنا غامضا مختلفا يستحق العداوة والارتياب لمجرد الاختلاف، لكونه يعبر عن ثقافة أخرى أو ينتمي لعقيدة أو مذهب مغلق عليه، بل هو مجرد كائن إنساني له قناعات وأفكار يمكن لأي شخص أن يتعرف عليها ويتأملها ويفكر ويختلف معها، ولكن ضمن شروط المجتمع الحديث القائم على قيم التعايش واحترام الاختلاف.
هذه العوامل تجسد معا الوسيلة الرئيس لتحقيق فكرة التسامح  في المجتمعات البشرية ومفاهيمها، لأنها ترتكز على معرفة الآخر بشكل دقيق وواقعي، وبرغبة حقيقية في تلك المعرفة؛ مما يخلق الدافع والرغبة في قبول الآخر، وبالتالي في شيوع وسيادة مفاهيم التعايش المشترك، وإبراز العناصر المشتركة التي تجمع بين المختلفين والتركيز عليها بوصفها جوهر فكرة السلام الاجتماعي التي تعد حجر الأساس في أي مجتمع يرغب في تحقيق التقدم والنهضة.
ولعل نموذجا مثل نموذج الولايات المتحدة، بوصفه مثالا من التاريخ المعاصر والحديث، يمكن أن يكشف لنا بجلاء كيف أن هذه القارة الشاسعة التي ظلت تعاني لعقود من الحروب الأهلية بين الشمال والجنوب تمكنت من أن تحقق وحدة قومية يضرب بها المثال، وأن تتحول من مجرد جماعات متناحرة من المهاجرين والسكان الأصليين، إلى دولة عظمى، حين تأكد لها أن قوتها سوف تتحقق فقط بوحدتها، وفي تناغم الأعراق والجنسيات والإثنيات التي توافدت عليها منذ اكتشافها وحتى اليوم. 
وبعد الاستقرار على هذه القيم التي أسست للتعايش المشترك بدأت نهضة كبيرة في مفاهيم الديمقراطية، وفي تأكيد الحريات الفردية والعامة وما يترتب عليها من إشاعة قيم حرية التعبير والفكر، ومقاومة العنصرية البغيضة التي أوقعت الشعب الأمريكي طويلا في صراعات أهلية مريرة. ثم انطلقت النهضة العلمية والصناعية والتقنية غير المسبوقة في كل المجالات وبدأت أسطورة أمريكا بوصفها القوة الأولى في العالم.
والحقيقة أن نموذج الولايات المتحدة هو نموذج  لمجتمع معرفي من بين نماذج أخرى عديدة في العالم، مثلما هو شأن اليابان والصين وألمانيا وغيرها مثلاً. لكن النموذج الأمريكي ظل يعتمد انحيازه للتعددية أكثر من غيره، عمليا وليس نظريا فقط، بسبب تركيبته السكانية الفريدة والتي تكونت من عدد هائل من المهاجرين من أرجاء العالم. 
وصحيح أن ظاهرة الإسلاموفوبيا التي اجتاحت المجتمعات الغربية أخيرا، قد تكون مؤشرا ضمنيا على اختبار حقيقي تواجهه كثير من المجتمعات الغربية اليوم، بسبب المتغيرات التي تواجهها تلك المجتمعات ممثلة في وجود أجيال جديدة من المسلمين تحاول أن تفرض ثقافتها الخاصة على تلك المجتمعات، إضافة إلى أعمال الإرهاب التي قامت بها بعض الجماعات الإرهابية المتمسحة في الدين في الغرب، وخصوصا أحداث الحادي عشر من سبتمبر. 
لكن تلك المخاوف تنطلق من إحساس الغربيين أن ثقافة وافدة تريد أن تغير من طبيعة المجتمع التي تشكلت وترسخت بناء على أسس عريقة للديمقراطية والعلمانية، وبذل في تأسيسها جهد جهيد من الفكر والعمل الاجتماعي والممارسة السياسية، وأن هذا التغيير المطلوب من الجماعات المهاجرة والوافدة يتوسل حرية التعبير والحقوق الفردية المكفولة ليفرض ثقافته الخاصة. 
مع ذلك فإن هذه القضية تعد واحدا من المشاغل التي تشغل اهتمام مؤسسات الحكم والمؤسسات الثقافية والاجتماعية في تلك المجتمعات الغربية القائمة على ترسيخ فكرة التعددية وتحاول إيجاد سبل تعزيز فرص اندماج الثقافات الوافدة، وإقامة الحوار بين أطراف المجتمع حول سبل دعم هذا الاندماج.
لكن الاختلاف بين المجتمع الأمريكي والمجتمعات المعرفية الأخرى، خصوصا الأوربية منها، يتمثل في أن المجتمع الأمريكي واجه أولا صراعا داخليا كبيرا لكي يحاول أن يجعل من تعايش شتى الفرق المختلفة عرقيا ومذهبيا وطبقيا، واقعا على الأرض، وفق أسس ثقافية وممارسات اجتماعية تمت حمايتها بالقانون والدستور، ثم بدأ يؤسس للنهضة الكبرى. ولم يكن ذلك هو شأن النماذج الأخرى التي كانت أكبر معاناتها تتمثل في الحروب التي خاضتها قبل أن تلملم أشلاءها وتبدأ في بناء نهضتها، كما هو شأن ألمانيا واليابان والصين. 
وصحيح ان كل تلك العناصر البشرية المختلفة بسبب الهجرات من بقاع العالم المختلفة إلى القارة الأمريكية لم تنصهر مع بعضها في كيان مذهبي أو عرقي واحد، بدليل وجود أحياء كاملة في أكثر من ولاية أمريكية، تخص ثقافة ما، مثل الحي الصيني، أو أحياء الأمريكيين من أصل أفريقي، أو حتى العرب، لكن ما نجحت فيه الولايات المتحدة هو تأكيد قيم التعايش بين كل هؤلاء انطلاقا من أن الأولوية الأولى لأي منهم، ليست الطائفة ولا المذهب ولا الأصل العرقي، بل المواطنة وقيم المواطنة الأمريكية، وأن الجميع في النهاية أمام القانون الأمريكي وأمام الدستور الأمريكي سواء، لهم نفس الحقوق وعليهم الواجبات نفسها. 
بل لعل الولايات المتحدة  قد أفادت من هذا التنوع الكبير في إثراء ثقافتها بكل تلك الثقافات الوافدة إليها، وتحويلها لقوة دافعة لمشروعها لكي تصبح القوة الأولى في العالم. مع الإشارة إلى أنه بالرغم من كل ذلك فلا تزال أطياف العنصرية شبحا يطل برأسه على المجتمع الأمريكي، لم يختف بالشكل المأمول، ولكن المجتمع الأمريكي لا يزال يصر على مواجهة توابع الماضي العنصري وذيوله، بكل الوسائل.
فالتعددية بمنظور علم الاجتماع هي اطار للتفاعل تَظهر فيه المجموعات التي تحترم التسامح مع الآخرين والتعايش المثمر والتفاعل بدون صراع وبدون انصهار. ولهذا تعد واحدة من أهم ملامح المجتمعات الحديثة وربما تعد مفتاحاً لتقدم العلم والمجتمع والتنمية الاقتصادية. كما أن التعددية هي في جوهرها احترام عقائد ومذاهب وقيم الآخر مهما اختلفت عما يؤمن به ويعتقد الفرد، لأن احترام الفرد للآخر وما يعتقده هو علاقة تبادلية تعني ضمنيا احترام هذا الآخر لغيره.
 كما أكدت القيم الإسلامية أيضا على أهمية مفاهيم التعددية، من خلال العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وقد جاء في الذكر الحكيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} سورة الحجرات, آية رقم 13ٌ.
  وقد كانت «العربي»، ولا تزال حريصة على تأكيد دورها الأساس في إشاعة المعرفة في أرجاء العالم العربي، وفي تأكيد التنوع والاختلاف والتعددية في ثقافات العالم المختلفة عبر تحقيقاتها المصورة، التي بدأت بتعريف القارئ العربي ببقية الدول العربية، أي بتعريف أهل المنطقة العربية ببعضهم البعض، وخصوصا بتلك الأطراف النائية من العالم العربي، والتي لم يكن متاحا التعرف عليها في زمن ما قبل القنوات الفضائية، ومن خلال المقالات التي نشرتها لكبار قامات الفكر والعلم العربي. ثم بدأت في مرحلة لاحقة، ولا تزال، تهتم بتركيز الضوء على الثقافات الأخرى في أرجاء العالم شرقا وغربا، وخصوصا بعض الثقافات النائية غير المعروفة.
 ولا تزال «العربي» تؤمن بدورها الحضاري في إشاعة المعرفة والتعددية، كجزء من رسالتها، وعبر عديد المقالات التي تنشر على صفحاتها وتتناول عديداً من مجالات المعرفة والفكر والتي يلقي كثيراً منها الضوء على أبرز المنجزات الإنسانية في الفكر والاقتصاد والفنون الحديثة ليس في عالمنا العربي فقط، بل في أرجاء العالم أيضا.
فـ «العربي»  كانت ولا تزال تؤمن أن المعرفة والتعددية هي التي تحقق نهضة الأمم، وتُكبّر البشر ولا تصغرهم بتعبير الفيلسوف والمفكر الهندي الحائز على نوبل آمارتيا صن حين يقول إن «تصغير الناس» هو اختزال هوياتهم، واقتلاعهم من رحابة التعدد وأفق  الحرية والتعايش، وشحنهم بالخوف من الآخر وكراهيته.
 كما تعي «العربي» عديداً من معيقات الحداثة في عالمنا العربي اليوم وبينها  التراجع عن الفكر العلمي لفائدة الفكر الخرافي، وشيوع ظاهرة الخطاب الماضوي الذي يجهد في محاولة إرجاع العالم العربي إلي العصور المظلمة، ويحفّزه على التشبث بمرجعية ماضوية، وكأن الماضي ينبغي أن يحكم الحاضر والمستقبل وسيطرة العديد من المنابر على عقول البسطاء ببث أسباب الاختلاف مع الآخرين.  وغياب المنطق والعقلانية  وهذا كله لا يزال في حاجة إلى المواجهة بإعلام مستنير، وببرامج إعلامية تهتم بإبراز أهمية شيوع العقلانية وقيم التعددية في المجتمعات المختلفة، وببرامج دراسية تشجع على الاختلاف وتعدد مزايا التنوع ومعرفة الآخر وتؤكد على قيم التعايش المشترك في أرجاء العالم العربي ■