خلدون النقيب .. بين تكوين الوعي وتكوين الأفكار

خلدون النقيب .. بين تكوين الوعي وتكوين الأفكار

قد يكون مفيداً في البداية أن نلقي نظرة على منهجنا في درس المأثور الفكري لمفكرنا العظيم الراحل خلدون النقيب (سبتمبر 1941 - أبريل 2011). إن أصحاب الأفكار لا يموتون، فأفكارهم تظل تتوهج لتكشف عن أسرارها الدفينة كلما تقادم الزمان، خاصة عندما تكون أفكاراً أصيلة نابعة من معاناة فكرية حقيقية ووعي فكري حقيقي. وأحسب أن من أهم المناهج في درس الأفكار هو ذلك المنهج النابع من «الدرس السوسيولوجي المعرفي» الذي يربط بين الأفكار وبين تاريخ أصحابها: نشأتهم وتفاعلاتهم الحياتية والمؤثرات التي أثرت عليهم وعلى تكوينهم الفكري.

 

لا ينطبق هذا الدرس السوسيولوجي من رؤية انعكاسية مبسطة تربط بين الأفكار وحياة منتجيها، بل يفترض أيضاً أن للأفكار خصوصيتها واستقلاليتها، وهنا يأتي الوعي كمتغير وسيط فاعل في تعقد العلاقة بين الأفكار والسياق الذي تنتج فيه، هذا السياق هو الذي يشكل الأفكار عبر وعي أصحابها، وإذ يمر الفكر عبر الوعي، فإنه يكسبه استقلالاً وتميزاً وخصوصية.
وفي ضوء ذلك فإني سوف أسعى في هذا الدرس إلى أن أجد معالم تشكل الوعي الخلدوني (النقيبي هذه المرة) وأن أوضح عبر قراءة دراساته وإسهاماته كيف انعكس هذا الوعي في تشكيل أعماله الفكرية والبحثية.
لقد عاش الراحل العزيز متفاعلاً تفاعلاً خلاقاً مع واقعه من ناحية، ومن البيئة الفكرية التي تربى فيها وخبرها من ناحية أخرى. أعني بذلك الظروف المتغيرة للتاريخ العربي، بما فيه الواقع الراهن الذي كان شاهداً عليه، والأفكار المنثورة في البيئة الفكرية للعلوم الاجتماعية (ليس علم الاجتماع فقط) على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي، ولاشك أن وعي المفكر يتشكل في حدود الفضاء المعرفي الذي يرتاده، وأحسب أن النقيب لم يكتف بفضاء الفكر السوسيولوجي بل تعداه إلى الفكر السياسي والاقتصادي والثقافي الذي أنتجه مفكرو الغرب والعرب على حد سواء. كما امتد وعيه إلى فضاء التاريخ والتراث، فنراه يحشد الأدلة التاريخية، ويتناص في كثير من الأحيان مع مفكرين تراثيين من أمثال ابن خلدون والجاحظ والفارابي، وهو في كل الأحوال لا يمل ولا يكل من مشاكلة الأطروحات وطرح أطروحات جديدة مكملة. وهذا هو سمت الوعي الناضج، ونسخ العلماء العظماء الذين ينصهر أفقهم الفكري بشكل دائم مع الآفاق الفكرية والوجودية الحالة أمامهم من أجل إنتاج نصوص جديدة، وأفكار جديدة في تفاعل مستمر ينضج فيه الوعي من ناحية وتنضج فيه الأفكار من ناحية أخرى.
ولا أظن أنني قادر هنا على الإحاطة بكل ما كتب النقيب، أو أن أدعي أنني أقدم محاولة شاملة جامعة مانعة، وبناء عليه، فإنني سوف أحاول أن أقف ثلاث وقفات: الأولى أمام المنهج، والثانية أمام اكتشافه لطبيعة التسلطية في الدولة الحديثة، والثالثة أمام تشريحه لحالة التخلف العربي وخصائصها الجوهرية. وفي كل وقفة سوف أحاول أن أستدعي جانباً من تكوينه الاجتماعي والسياسي، وأن أجد وشائج صلة بين هذا التكوين وبين ما يطرحه من أفكار.

أولاً: الوعي بالتاريخ .. المرحلة المبكرة
لقد خبر النقيب طفولة متنوعة شهدت الكثير من التنقل، ومرت بخبرات مبكرة لاشك أنها صقلت الوعي وبلورت معالم طريقه. لقد امتدت هذه الطفولة فترة طويلة من الزمن امتد من ولادته (1941) وحتى منتصف الستينيات عندما بدأ يتأهب لدخوله الجامعة. وبحكم الموقع العائلي، والتشابك السياسي مع الأحداث، فإننا نفترض أن خبرات هذه الطفولة هي التي ساهمت في تشكل الوعي بالتاريخ لدى النقيب. ثمة هنا شعور قوي بوطأة الاحتلال والتي كشفت عن بواكير الوعي لدى مفكرنا الذي رفض من طفولته إلا أن يخرج في مظاهرة للمطالبة بالاستقلال، محرضاً زملاءه على ذلك، ومخالفاً لتعاليم إدارة المدرسة بعدم الخروج في المظاهرة، ولاشك في أن خبرة الشعور بوطأة الاستعمار هذه قد شكّلت البذور الأولى لإدراك خصوصية العلاقة بالآخر، المستعمر في هذه الحالة، العلاقة التي لا تقوم على التكافؤ بحال من الأحوال، بل تقوم على شكل من أشكال الظلم واستغلال الشعوب، وسلبها حقها في الحياة الكريمة. ولاشك في أن هذا الوعي قد تعمق عبر خبرة أخرى تعمقت في وعيه في هذه الطفولة المبكرة، تلك هي خبرة الهزيمة العربية في العام 1948، ما ترتب عليها من تقسيم فلسطين واحتلالها. لقد بات العرب، والاستعمار يبدأ رحيله، في رحلة استعمار جديد، يعمل من خلال أدوات الدولة التسلطية التابعة، فقد تشكل الوعي في هذه الطفولة على أصداء صور من العدوان على الذات العربية، وعلى الهوية العربية، عدوان استعماري، وعدوان صهيوني، يبدو الأول كرمز للظلم والاستغلال، ويبدو الثاني كرمز للاغتصاب والهوان.
لقد شب النقيب على أصداء واقع تسيطر عليه قوى أجنبية، بل وتغتصب جزءاً منه بالقوة. وأحسب أن وعيه التاريخي قد تشكل في هذه الفترة المبكرة من حياته. فالتاريخ يكتب أمامه، وهو يشارك فيه أحياناً، كما أن أعظم ما كتب في علم الاجتماع كان معتمداً على التاريخ كمصدر من مصادر جمع المادة العلمية (نذكر في هذا الصدد علماء عظاما من أمثال ماركس وماكس فيبر وسمير أمين وجندر فرانك وتوكفيل وفيتفوجل، ولقد تحاور معهم النقيب في كثير من أعماله مناقشاً نظرياتهم داحضاً لها في بعض الأحيان ومضيفاً إليها في أحيان كثيرة).

منهج بنائي مقارن
ورغم أن النقيب لم يسم منهجه بأنه منهج تاريخي، بل كان يميل إلى أن يطلق عليه منهج بنائي، أو منهج بنائي مقارن، أو منهج بنائي دينامي. ويقصد بالمنهج البنائي الدينامي محاولة اكتشاف التفاعل الدينامي بين مكونات البنية (الريف والحضر والبادية، والدور الذي تلعبه التجارة كقطاع دينامي في التركيبة العربية، وما يترتب عليه من نظم للملكية والخراج، ثم أخيراً مركزية الدولة في التكوين الخراجي العربي). ويواجه هذا المنهج البنائي الدينامي استاتيكية التحليل النسقي - البنائي الذي يتعامل مع المكونات وكأنها مكونات ساكنة لا حياة فيها. فالعلاقات والتشابكات بين المكونات تتغير مع تغير الحقب التاريخية، ومع دخول متغيرات جديدة، رغم أن الخصائص الجوهرية للبنية تبقى كما هي، ولكنها تتشكل في أثواب وممارسات جديدة.
وعند هذه النقطة أستطيع أن أفترض أن المنهج الذي نحن بصدده هو بحق منهج بنائي دينامي، ولكنه أيضاً منهج بنائي تاريخي. ففيه رؤية واضحة للتاريخ ودوره في العلوم الاجتماعية، كما أنه يقدم لنا تحليلاً تاريخياً يختلف اختلافاً كبيراً عن تحليل المؤرخين والمثقفين العابرين، فالتاريخ ليس رواية لأحداث متسلسلة، أو مجرد تقسيم للزمن إلى حقب تاريخية يطل من خلالها الرجال وأفعالهم ومواقفهم السياسية، ولكنه نسيج «مضفر» من الجغرافيا والاجتماع والسياسة والثقافة، إنه تكوين اجتماعي متكامل تتفاعل فيه العوامل الداخلية والخارجية في عملية جدلية مستمرة، وتتكامل فيه عناصر «الفعل الاجتماعي» بكل أبعاده الدينية والأخلاقية والاثنية والثقافية، ومن ثم فإن التاريخ إذا أفضى إلى شكل من أشكال الحياة، فإنه يفضي أيضاً إلى شكل من أشكال اللامساواة المنتجة للصراع، أي أنه يتسم بدينامية متدفقة لا توقفه عند حد معين أو فرد معين أو قرار معين أو حدث معين.
إن فهم التاريخ على هذا النحو يختلف عن فهم المؤرخين والمستشرقين والرحالة والهواة، كما يختلف عن تحليلات رجال الاقتصاد والكتّاب والصحافيين، وكلاهما ينظر إلى المجتمع نظرة ضيقة، كأن يحلل المجتمع الخليجي مثلاً من منظور تأثير اكتشاف النفط على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إن المنظور التاريخي يجب ألا يقف بحال عند هذا المنظور الضيق والمحدود، ولكنه يسعى إلى دراسة ما أطلق عليه النقيب اكتشاف «الحالة الطبيعية للمجتمع»، أي المجتمع في ظروفه التاريخية الخاصة قبل دخول النمط الاستعماري الحديث، إن هذه الحالة تتشكل من «المحصلة الدينامية للبنى الاجتماعية - الاقتصادية السائدة في مجتمع الخليج والجزيرة في فترة معينة من الزمن.. إنها الطريقة التي تصاغ بها النشاطات والعلاقات الاجتماعية في تقسيم عمل على المستوى المجتمعي يتناسب مع درجة تطور ونضج أو تخلف قوى الإنتاج في هذه الفترة» (كتاب المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية من منظور مختلف، 1987، ص27)، ثمة عناصر ثلاثة هنا تسهم في تكوين «الحالة الطبيعية للمجتمع»: ديناميات البنية الاجتماعية والثقافية، وطبيعة القوى السياسية، والخصائص المميزة للعلاقات الاجتماعية، ويعتقد النقيب أن هذا الفهم الكلي هو الذي يمكن الباحث من أن يضع يده على العنصر المحوري الذي تتشكل حوله البنية الاجتماعية في الحالة الطبيعية، وسوف يكون بالتأكيد عنصراً غائباً في تحليلات المؤرخين والاقتصاديين أو حتى علماء الاجتماع من ذوي النزعات الإمبيريقية. لقد أكد النقيب، في هذا الصدد - وهو يكشف عن طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية - أهمية التجارة، وخاصة تجارة المضاربة - وليس النفط في حد ذاته - كنوع غالب على النشاط الاقتصادي في مدن الخليج الساحلية، وهي نوع من التجارة التي تضرب بجذورها في التاريخ ما قبل الإسلامي (تجارة المقارضة أو القراض)، ولعل هذه الخصيصة هي التي جعلت الاقتصاد في الدول الإسلامية يتشكل تاريخياً حول ما أسماه النقيب «النمط الماركنتالي العربي الإسلامي» الذي احتكر تجارة البهار والحرير في الشرق، وتجارة الذهب والفضة في إفريقيا، وذلك قبل أن تكتمل «الخطة الإمبرالية العظمى»، وباكتمال هذه الخطة دخل المجتمع العربي في طور اجتماعي جديد يفقد فيه حالته الطبيعية (المؤسسة حول التجارة) ليدخل إلى نظم من الدول الريعية والتسلطية تحت حكم الاستعمار وفي ما بعده.
وأحسب أن ما تقدم هنا هو نمط جديد من التحليل التاريخي، نصادفه في معظم الإسهامات التي قدمها النقيب في دراسته للدولة والمجتمع في الخليج والجزيرة العربية، وفي قيام الدولة التسلطية، وفي دراسة الصراع بين الدين والسياسة، أو الصراع بين القبيلة والسياسة، أو بين الطبقة والقبيلة، أو حتى في تحليله لمعضلات الديمقراطية في الوطن العربي. فثمة دائماً رؤية كلية شاملة، يتم في إطارها رصد الخصائص المحورية أو الجوهرية التي تشكل المجتمع «في الحالة الطبيعية» ثم الانطلاق إلى ما لحق به من عوارض وتغيرات، مع الكشف بشكل دائم عن القوى الفاعلة في الحركة التاريخية.

قضية الصراع
ولا يتأسس المنهج التاريخي عند النقيب على هذه النظرة البنائية الشاملة فحسب، فالتاريخ عنده تدقيق وتنقيب من أجل اكتشاف حقيقة التفاعل والصراع بين القوى المختلفة، وبين المكونات المختلفة، ولقد انشغل النقيب بقضية الصراع انشغالاً كبيراً، حيث ألّف كتاباً، آثر أن يعطيه عنواناً «في البدء كان الصراع»؛ حاول فيه أن يكشف عن الصراع الكامن في الثقافة العربية والمجتمع العربي بين الدين والإثنية، والإثنية والأمة والطبقة، وهو صراع متعدد الأطراف، متشابك، ولعله هو الذي يخنق عملية التطور الحديث في المجتمعات العربية. ولقد كشف النقيب في هذا الكتاب عن منهجية جديدة في دراسة الصراع عبر منهجه البنائي التاريخي، لقد كان النقيب يؤمن إيماناً راسخاً بأهمية الصراع في فهم قوة «التدافع» في المجتمع، ولذلك فإنه لم يساير مطلقاً ما ذهب إليه البعض من أن المجتمع يشهد نهاية للتاريخ ونهاية للصراع: «فمن ينادي بنهاية الصراع ينادي في الواقع بنهاية التاريخ، إذ ليس هناك تاريخ معلوم أو غير معلوم من دون صراع... ونهاية الحرب الباردة ليست (بحال) نهاية للتاريخ» (في البدء كان الصراع: جدل الدين والإثنية، الأمة والطبقة عند العرب، 1997، ص7). وكتب في نص آخر يقول: «والصراع التاريخي متعدد المستويات، وله من الدوافع ما يمكن فهمه وتعليله عقلانياً، فالصراع والتصارع أصبحا بعد تقادم العهد سمة إنسانية سرمدية تغذي نفسها بنفسها في حركية دائرية مفتوحة هي دورة العدوان، ودورة العدوان ضرورة للتحكم والضبط الاجتماعي» (ص9).
لقد اهتم النقيب بالكليات في بحثه التاريخي، أو بما أسماه «الروح الناطقة» «أي الكل الحضاري الذي يتراكم عبر العصور، لتهيمن بشكل خفي وظاهر على مسلكيات ونزوعات السكان».  ولكن هذا الإيمان بالبحث الكلي الشمولي لم يجعل مفكرنا يجمح إلى رسم مخططات كلية تتجاوز البنية وتفارقها، ولكنه كان يتعمق في درس البنية إلى درجة اكتشاف جوهر التفاعلات الطوعية بين مكوناتها. لقد بدت البنية العربية أمامه وكأنها تعيش صراعات لم يتم حلها، صراع الدين والدولة، وصراع الدين والإثنية، وصراع الإثنية والدولة، والصراع الأشمل بين القبيلة والطبقة. ولعل الأصل في تكوين كل صور الصراع هذه دخول الدين إلى حلبة الصراع واستخدامه بشكل دائم لتبرير الموقف السياسي والاجتماعي. كما أن الأصل فيها أيضاً يرجع إلى ذلك الصدام العنيف بين التركيب القبلي الذي يرى الدولة على أنها ضرب من «القبلية السياسية»، وبين التغيرات التي تحدث في قيم الناس وأفكارهم، بل وبين الانتماءات الضيقة للأفراد، أثنية كانت أم دينية.
وثمة شرط مهم يلفت إليه النقيب النظر لكل من يتخذ من التاريخ نبراساً للفهم الموضوعي. فنجده يفرّق بين نوعين من الوعي في النظر إلى التاريخ: الوعي الموضوعي بالتاريخ والوعي الزائف بالتاريخ. فالوعي الزائف بالتاريخ «التوهم» أو «الإيهام»، لأنه في هذه الحالة يقرأ من زاوية المصلحة العقائدية أو الإيديولوجية والطبقية. أما الوعي الموضوعي فإنه يتأسس أصلاً على فهم هذا الوعي الزائف والوعي به، لأنه يهدف في الأصل إلى كشف هذا النوع من الفهم الزائف للتاريخ.

ثانياً: الوعي بجذور التسلطية
إذا كان لنا أن نصف فترة الشباب من حياة مفكرنا، فإننا يمكن أن نقول إنها فترة «الوعي القلق»، وعي الشاب الذي يبحث عن طريق، أو وعي الشاب الذي تنفجر في نفسه آمال وطموحات كثيرة، ليست طموحات أكاديمية فحسب، بل سياسية أيضاً، ويمكن أن نستدل على هذا «الوعي القلق» من ظروف التنقل الكثيرة التي صاحبت هذه الفترة، من بغداد إلى القاهرة إلى الكويت إلى لندن إلى باريس ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بل وإلى فلسطين باحثاً عن دور نضالي ثوري، ثمة دلالة مهمة في هذا التنقل: وهي أنه تنقل من أجل البحث عن المعرفة، من أجل التكوين الأكاديمي، أو قل من أجل إنضاج الوعي واكتماله. لقد اطلع في هذه الفترة على جل تراث علم الاجتماع، وخبر مستويات تدريسية في جامعات عديدة (عربية وأجنبية) وأنجز بحثاً مهماً عن التدرج الاجتماعي في الكويت، وقد عكس هذا البحث وعياً مبكراً بقضية البناء الطبقي والمداخل النظرية في دراسته.
وعلى الوجه الآخر من المشهد نكتشف أن هذه الفترة من تاريخ العرب قد امتلأت بأحداث جسام. إذ شهدت صعود الدولة القومية في بلدان عربية كثيرة (مصر وسورية والعراق) في فترة ما بعد الاستعمار، كما شهدت في الوقت نفسه انكسار هذه الدول وسقوط جلّ طموحاتها في ما بعد عام 1967، وتبدل مسارات بعضها في ما بعد انتصار 1973. كما شهدت هذه الفترة أيضاً بزوغ قوة النفط، لا من الناحية الاقتصادية فحسب، بل من الناحية السياسية أيضاً. وأحسب أن النقيب قد تشبع بالروح القومية العربية تشبعاً كبيراً - وأظنه واحداً من أكثر القوميين العرب أصالة وصدقاً. وإذا صح ذلك الحكم، فإن كبوة النظم العربية ذات التطلعات القومية - في مصر وسورية والعراق على وجه التحديد - قد تركت تأثيرات كبيرة على وعيه. ولكن ما إن هدأت ثورة الغضب، وبدأ الوعي الثقافي يستوي على سوقه وينضج حتى اكتشف النقيب جوهر الأمر كله، الدولة التسلطية. فلم تكن الدولة القومية التي يتضخم خطابها بهجو الاستعمار ومقاومة الصهيونية إلا شكلا من أشكال القهر والتسلط، وإخضاع الشعوب لإرادة النخب، وعدم قدرة النخب على أن تستجيب لإرادة الشعوب أو لطموحاتها أو حتى للتغيرات التي تحدث كل يوم في قلب البنية الاجتماعية على أثر الحداثة العربية.
من هنا كان اهتمام النقيب بالدولة التسلطية، ولكنها أوضح ما تكون في كتابه «الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر» (الذي صدر في طبعته الأولى عام 1991) والذي كتب في إطار مشروع أوسع لمركز دراسات الوحدة العربية حول الدولة والمجتمع في الوطن العربي. لقد كان الانتصار الذي حققته النخب السياسية في تأسيس دولة قومية انتصاراً زائفاً، بل يمكن القول إن ثوراتها المزعومة كانت ثورات زائفة أخرجتها من رواق الثورة إلى رواق الهزيمة. إن الدول التي أسستها هذه النخب لم تستطع أن تتجاوز النظم السابقة عليها (السلطانية والمملوكية والإقطاعية)، ولم تطور الصور الجنينية لليبرالية التي تطورت في رحم المجتمع العربي، أو أن تحارب الأمية والفقر والتهميش الاجتماعي، فدخلت إلى رواق التسلطية لتستخدم أجهزتها البيروقراطية والأمنية في الهيمنة على المجتمع المدني، وتحتكر مصادر القوة في المجتمع، وتهيمن على كل صور التنظيم الاجتماعي، عبر التشريعات تارة، والخطاب السياسي الذي يماهي بين الشعب وحكامه تارة أخرى، وإخضاع الشعوب بكل سبل الإخضاع.
وفي درس النقيب للتسلطية لم يحاول أن يخص شعوبا معينة بالتسلطية على غرار أطروحات قديمة حول «الاستعباد الشرقي» ونمط «الإنتاج الآسيوي». إن سير النقيب في هذا المضمار يضعه في قلب المركزية الأوربية، وفي قلب التحليل السوسيولوجي الغربي النابع من نظرية التحديث. لقد تمرد النقيب على كل هذه التراثات التي تربى أكاديمياً في داخلها (لقد تلقى تعليمه الجامعي الأول في معقل الوظيفية في قسم الاجتماع جامعة القاهرة، وتلقى دراساته العليا في أمريكا معقل الوظيفية والامبيريقية)؛ وآوى ذاته داخل تراثات أخرى حاول أن يطورها، معظمها نابع من التحليلات الاقتصادية - السياسة، أو الاجتماعية السياسية، ذات البعد التاريخي والحضاري. إن مثل هذا التمرد هو الذي يدفع باحثاً كبيراً مثل النقيب إلى أن يتجرأ بالقول بأن التسلطية هي جرثومة الدولة البيروقراطية أينما كانت «فالدولة البيروقراطية الحديثة تحمل جرثومة التسلط بحكم ممارستها ووظائفها الاعتيادية، من خلال التحكم البيروقراطي في المجتمع المدني والنظام الاقتصادي. وهذه الحال هي صفة عامة حتى في حالة الدولة البيروقراطية الدستورية التي نجح فيها السكان في تقييد القوة الاستبدادية للنخبة أو الطبقة الحاكمة وإضعافها».

ثالثاً: تشريح التخلف العربي
لاشك في أن المشروع الكلي للنقيب كان مجرد تقديم وجهة نظر أخرى (مغايرة وجديدة) في فهم عمليات التحول الحديث في الكويت والخليج بخاصة، وفي الوطن العربي بعامة. ومن ثم فإننا يمكن أن ننظر إلى مشروعه الفكري والبحثي برمته على أنه محاولة لتشريح الحداثة العربية أو حالة التخلف العربي. ولقد اتضح ذلك بجلاء في الفترة الثالثة من حياته التي يمكن أن نطلق عليها فترة التأمل. ففي هذه الفترة شغل النقيب مناصب أكاديمية متعددة كان من أهمها توليه عمادة كلية الآداب (في الفترة من 1986 إلى 1988)، وتعمقت علاقاته بالمؤسسات الفكرية العربية (مركز دراسات الوحدة العربية على سبيل المثال)، وبالمنظمات المدنية العربية (الجمعية العربية لعلم الاجتماع)، وبالدوائر الثقافية العربية في المشرق والمغرب ومصر. كما بدأت علاقاته تتوطد مع علماء الاجتماع العرب والفلاسفة والمفكرين العرب من أمثال محمد عابد الجابري وحسن حنفي والأنصاري... وغيرهم.
ولاشك أن فترة التأمل هذه يصاحبها دائماً نضوج الوعي وبداية اكتمال للمشروع الفكري والبحثي، في علاقته الجدلية مع المتغيرات البنائية التي تشكل الواقع المحيط. لقد حدثت وتشكلت في هذه الفترة من حياة النقيب بعض المتغيرات التي كان هو نفسه قد استشرفها في دراساته السابقة: مزيد من الهزائم، ومزيد من الصراع، ومزيد من التفكك والتشرذم ومزيد من التسلطية أيضاً. لقد بدت الساحة العربية وكأن التخلف قد وصل إلى مداه، وأصبح من الضروري أن يشار إليه على نحو واضح وصريح. وفي هذا السياق جاءت مؤلفات النقيب لكي تكمل دائرة التأصيل لظاهرة التخلف، وتكمل مشروعه في نقد الحداثة العربية وتشريحها. حيث ظهرت للنقيب كتابات عديدة في هذا الصدد من أهمها كتاب «فقه التخلف» (الصادر عن دار الساقي عام 2002). ففي هذا الكتاب جمع النقيب التشخيص النهائي لحالة الحداثة العربية التي كان قد تناولها بشكل أو بآخر في كتبه السابقة. فلقد تميزت النظم العربية الحديثة، ويقصد بها النظم البيروقراطية الحديثة، والدول الوطنية الحديثة، وتبنى النماذج الحديثة في الخطاب السياسي، هذه النظم تميزت باستمرار النظم القبلية القديمة متوازية مع مؤسسات الدولة الحديثة، بحيث تكيفت النظم التقليدية مع الأوضاع المستجدة بشكل مستمر، وبطريقة تمكن النظم الحديثة من استخدامها وتوظيفها على نحو يتغاير بتغاير الظروف المحيطة. ولذلك فقد أصبح الصراع بين مكونات قوى المجتمع القديم والحديث: الصراع بين القبيلة والديمقراطية، وبين القبيلة والطبقة، وبين الإثنية والطبقة أحد المعالم الأساسية للبنية العربية. وتلك الصراعات استطاعت الدولة التسلطية أن تستدمجها وأن تتعايش معها، بل وأن توظفها في كثير من الأحيان.
فما عسى أن تكون حالة المجتمع العربي، إلا أن يكون مجتمعاً متخلفاً بالضرورة؟ وماذا يمكن أن يجني المجتمع من ثمار وهو ينمو وتتصارع قواه في كنف دولة تسلطية تستخدم أدوات الحكم البيروقراطي في كبح عمليات التنمية والحركة التقدمية إلى الأمام.
هنا يأتي كتاب «فقه التخلف» وكأنه يضع «العلامة» أو «الشيفرة» النهائية لهذه الحالة، إنها حداثة التخلف. والمتأمل لكتابات النقيب يجد أنه لم يستخدم كلمة التخلف كثيراً في كتاباته السابقة، وكأنه كان لديه الأمل في نهضة جديدة، ولكنه من الواضح أنه في المرحلة الأخيرة من حياته - مرحلة التأمل - قد خلص بالفعل إلى أن الحالة التي نعيشها هي بالفعل حالة تخلف حقيقي. ولقد اقترب من الاعتراف بذلك عندما قال في مقدمة الكتاب: «ولم يتأت لنا أن نفهم ظاهرة التخلف واتصالها بتوزيع القوة بين الأمم إلا في الآونة الأخيرة عندما نجحنا، من خلال محاولات تنظيرية، أن نحرر مفهوم القوة من محتواه السياسي وتوسيعه لما هو ثقافي ونفسي أيضاً. فالتخلف بهذا المعنى ليس ضعف جهود التنمية حسب المقاييس الشكلية المتعارف عليها وإنما هو تأخر وارتكاس.. وتعنيان تخلف الفكر أي تأخره عن زمانه وأوانه وارتكاس الثقافة باتجاهها نحو الماضي والاحتماء به، بما يتناسب مع موقعها في معادلة توزيع القوة والهيمنة بين شعوب العالم» (فقه التخلف ص9). ويكشف النص عن دلالة أخرى في فهم التخلف على نحو جديد، إننا هنا بصدد توسيع لمفهوم التخلف ليشتمل أساساً على التخلف الفكري والثقافي، وتأخر الفكر عن زمانه وارتكاس الثقافة إلى الماضي لتحتمي به إزاء متغيرات عصرية عليها أن تتجاوب معها. هنا يكون «التخلف الخالص» هو النتيجة. ويعني ذلك بجانب التأخر الفكري والارتكاس الثقافي «فقدان الإرادة السياسية وانعدام الرؤية المستقبلية» (فقه التخلف، ص30). وإذا كان التخلف يرجع في الأصل إلى انتصار الدولة التسلطية البيروقراطية، فإن طريقة عمل هذه الدولة تقتل كل فرص التقدم والتحول الديمقراطي. ويزخر كتاب «فقه التخلف» بالتحليلات النظرية - والإمبيريقية - التي تفسر هذه الحالة من التأخر والارتكاس؛ فقد تعطل المجتمع المدني على إثر انتصار «القبيلة السياسية التي استبدلت تضامنية القبيلة بتضامنية المؤسسات الحديثة كالحزب، أو النقابة، أو على الأقل ظلت موازية لها متفوقة عليها في كثير من الأحيان. هنا يتحول المجتمع المدني إلى مجتمع محافظ من الناحية السياسية، وقبلي وطائفي... وأبوي التنظيم» (فقه التخلف، ص35). وبهذه الخصائص يتحول المجتمع المدني إلى أداة للتسلط: «لقد افترست الدولة المجتمع المدني، وجعلت منه امتداداً لسلطتها» (ص35). وهنا أيضاً تتحول المواطنة إلى إشكالية فيضعف الإحساس بالولاء، كما يغيب الانتماء في السلوك السياسي.
وثمة ميل لدى النقيب في استكناه روح الثقافة أو الجواهر الخالصة للبنية، فرغم إيمانه العميق بالدينامية والصراع بين القوى المختلفة، فإن التحليلات التي جاءت في كتابه الأخير «فقه التخلف» تشي بميل إلى محاولة استكناه روح الثقافة، أو البحث عن الخصائص العامة في البنية العربية. صحيح أن هذا الاتجاه قد ظهر لدى النقيب هنا وهناك، ولكنه أوضح ما يكون في هذا الكتاب. ففي إطار بحثه عن جوهر التخلف الفكري والارتكاس الثقافي أولى اهتماماً كبيراً لما أسماه «فقر السياسة» الذي يسيطر على أسلوب الممارسة السياسية العربية عبر سيطرة ثقافة البازارات، وسيطرة القبلية الفكرية (كنظير للقبلية السياسية) على المثقفين، والحماقة السياسية التي لا يعرف الحكام العرب غيرها سبيلاً، وفقدان روح المبادرة، واستمرار تراث الذل والإذلال.
ولاشك في أن هذه الأحكام تصدر من باحث قطع شوطاً كبيراً في البحث من ناحية، وفي النضال من ناحية ثانية، وفي التفاعل الخلاق مع ظروف مجتمعه الصغير والكبير من ناحية ثالثة. ويشعر القارئ لكتاب «فقه التخلف» أن به صيحات متعددة ومتراكبة، تنطوي على قدر كبير من الحزن، بحيث تأتي هذه الصيحات وكأنها صرخات وعي ناضج هادئ يرى الأمور دائماً بعين مغايرة. ولكنه رغم ذلك لا يفتقد الأمل. فما كان هذا الجهد النقدي إلا محاولة للبحث عن واقع أفضل، يصبح للعرب فيه كلمة تقال في الحضارة المعاصرة. ولعله في هذا الصدد يعوّل على دور المثقفين الذين لا يمكن أن يقوموا بدورهم «ما لم يكونوا مطلعين على نتائج البحوث في العلوم الاجتماعية».

خاتمة
إن الاحتفاء بذكرى خلدون النقيب هو احتفاء بالثورة، فقد كان النقيب باحثاً ثائراً بحق، نجح باقتدار في أن يشرح البنية الثقافية العربية، وأن يضع يده على أوتارها الحساسة. كما أن الاحتفاء به هو احتفاء بالأصالة الفكرية والدأب البحثي والكفاءة العلمية، كما أنه احتفاء بدور العلوم الاجتماعية في نقد الثقافة والمجتمع، وفي تأصيل نقد ثقافي بنّاء، وهو أيضاً احتفاء بالنموذج الحياتي للباحث الموضوعي الذي لا يخاف في الحق لومة لائم، ولا يخشى من أي خطر مهما كان. إن الاحتفاء بالنقيب هو احتفاء بالفضيلة والإنجاز، وأحسب أنهما ركنان أصيلان في بناء الحضارة منذ بذورها الأولى وحتى الآن. فهل لنا أن نستملك من فضائله وإنجازاته قبساً لبناء مستقبل لبلادنا، أو حتى لأنفسنا، نحن زملاؤه وتلاميذه وقراؤه؟ ■