علي الفزّاني.. طائر ليبيا الـمحلــِّــــق
هو شاعر من ليبيا المتحفزة للشعر استلهاماً للموروث وتطلعاً للآتي.. شاعر طائر بجناحين محلقين عاليا، من الموروث والآتي، في أفق مفتوح على العالم كله وليس على الثقافة العربية وحدها.
علي عبدالسلام أبوبكر الفزاني، شاعر ليبي ولد في مدينة صرمان في العام 1936, ونشأ فيها حيث تلقى تعليمه الأوَّلي وفقاً للخيارات الدينية التقليدية على يد والده القاضي في تلك المدينة، فحفظ القرآن الكريم وهو في حدود العاشرة من عمره, قبل أن تضطرهم ظروف عمل رب الأسرة للانتقال إلى مدينة بنغازي التي أتاحت للفتى الفزاني الالتحاق بمدارسها الحديثة, فتخرج في أول دفعة تمريض ليبية وعمل في بعض المستشفيات ممرضاً يساعد المرضى من دون أن يتخلى عن أحلامه التي بدأت بالتصاعد والانطلاق نحو آفاق الشعر. فكانت كتاباته الأولى تشي بشاعر موهوب يتحين الفرصة كي يبدأ رحلته مع الكلمة بشكل جاد على صعيد النشر في المنابر المتاحة في ليبيا والعواصم العربية كالقاهرة وبيروت.
لم يضع علي الفزاني ما يتبقى له من وقت بين نوبات عمله التمريضي سدى، بل استغله في استكمال دراساته الصحية في التمريض, وكذلك دراساته الأدبية، حيث تعلَّم علم العروض والقافية واطلع بشكل منهجي على أمهات الكتب والمراجع النقدية ودواوين الشعر القديم، بالإضافة إلى دواوين الشعر الحديث التي تصل إلى مكتبات ليبيا في ذلك الوقت.
وعندما قابل الفزاني في تلك المرحلة من عمره الشاعر الليبي عبدالسلام قادربوه وجد لديه من الاهتمام ما كان يتطلع إليه وينتظره، فساعده قادربوه على النشر بعد أن آمن بموهبته الغضة في كتابة الشعر وبعض القصص القصيرة لفترة من الوقت، قبل أن يقرر الفزاني بنفسه أنه بحاجة للتوقف قليلاً في سبيل مراجعات حياتية كانت تلح عليه بأسئلتها قبل أن يعود للانطلاق الشعري مجدداً مع منتصف ستينيات القرن الماضي.
نشر الفزاني أول دواوينه الشعرية بعنوان «رحلة الضياع» في العام 1967م، كتعبير عن السنوات التي توقف عن الكتابة والنشر فيها مستسلماً لأسئلته الوجودية التي لم يجد لها أجوبة إلا ما أودى به للمزيد من التيه في مفازات القوافي. لكنه بعد عام واحد فقط أصدر ديوانه الثاني بعنوان «أسفار المدينة المضيئة» تعبيراً عن استقراره النفسي والشعري أيضاً، فكانت قصائده المراوحة ما بين التقليدية والتفعيليَّة, في نفس ثائر على كل شيء في ليبيا وفي الوطن العربي كله تقريباً، واستمرت في ذلك الديوان أسئلة الشاعر القلق بلا إجابات.
ومع أن الفزاني اشتهر كشاعر فإن كتاباته النثرية التي بدأها بالقصة القصيرة وتركها لاحقاً إلى ما تتيحه المقالات التحليلية من وضوح ومباشرة، تدل على مواهب كتابية كثيرة تميز بها الفزاني وكانت كلها وسيلته للتعبير عن غربته التي لم تقتصر على شكلها الجغرافي، منذ أن ترك مدينته الأولى وهو على أعتاب المراهقة الأولى، بل تعدتها إلى غربة نفسية شاملة كان يعيشها الشاعر في مجتمع محكوم بتقاليده القبلية الموروثة, رغم التحديث الذي أتى به النفط من دون أن يكون الجميع مستعداً لتبعاته سياسياً واجتماعياً.
ولعل في قراءة عناوين دواوين الفزاني الشعرية، ومنها على سبيل المثال؛ «الموت فوق المئذنة»، و«الطوفان آت»، و«مواسم الفقدان»، و«أرقص حافياً»، و«دمي يقاتلني الآن والقنديل ضائع»، ما يشير إلى النزق الشعري والإنساني الذي ميَّز مسيرة علي الفزاني وحرضه على كتابة قصيدة ثائرة التفاصيل وحادة اللغة رغم استكانتها تحت سقف تقاليد القصيدة العربية العمودية والتفعيلية كما استقر عليها شعراء الخمسينيات والستينيات، ومن دون أن يلج بوابات التجريب الشعري التي سبقه إليها شعراء عرب كثيرون لا يتفوقون عليه بحجم الموهبة بل بروح المغامرة وظروفها وحسب.
عمل الفزاني في وظائف حكومية مختلفة معظمها ذات طبيعة ثقافية، لكن روحه الثائرة كانت تختنق بالفكر المؤسساتي الذي تبرع تلك الوظائف في تكريسه لدى العاملين فيها، فكان الشعر منفاه الاختياري قبل أن يهاجر فعلياً خارج الوطن المحكوم بالطغيان الشمولي آنذاك.
وفي المنفى هدأت روحه قليلاً، لكنه بقي على أفكاره الحادة التي تبلورت في صياغات نثرية مختلفة كان ينشرها كلما أتيح له في بعض الصحف والمجلات.
وعندما رحل الفزاني عن عالمنا في العام 2000م كان لايزال مهاجراً مغترباً في مدينة بيرن في سويسرا، لكن الجسد المسجى على التابوت عاد إلى أرض الوطن ليدفن في بنغازي التي انطلقت منها بعد أكثر من عقد ثورة ليبية أطاحت الحكم الشمولي وأتت بخيارات ديمقراطية متطلعة كثيراً ما حلم بها الشاعر الذي رحل قبل أن يلوح في آفاقه شيء من إشاراتها ■