لو كانت هناك محاكمات تاريخية لحوكم من قدموا مسلسلات عبثت بهوية أمتنا

لو كانت هناك محاكمات تاريخية لحوكم من قدموا مسلسلات عبثت بهوية أمتنا

رجل موسوعي من الطراز الأول, أمد المكتبة العربية بعشرات الكتب التي تلامس عشقه الأول وهو التاريخ, كما قال عملياً من خلال الإشراف على ترميم الجامع الأموي.
وهو يعد أستاذ الأساتذة كونه منح شهادة الماجستير والدكتوراه لعدد كبير من الباحثين. فغالبية من يدرسون تاريخ العرب والإسلام في الجامعات السورية هم تلاميذه، وهو صاحب نفس طويل في البحث العلمي، حيث صدر له أكثر من مائتين وستين مجلداً كبيراً، ود.سهيل زكار مواليد مدينة حماة 1936م، وتخرج في جامعة دمشق 1963م، وحصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة لندن 1969م، كما تولى التدريس في جامعة دمشق وجامعة محمد بن عبدالله وجامعة القرويين في مدينة فاس المغربية، وفي جامعة قسنطينة في الجزائر وجامعة صنعاء، وهو عضو اللجنة العليا المشرفة على ترميم الجامع الأموي بدمشق، ونائب رئيس اتحاد المؤرخين العرب في القاهرة. 

 

●  هل مازالت دمشق قادرة على إضافة الجديد للحضارة الإنسانية؟
- لا يمكن بسهولة القضاء على دور دمشق لأنه قديم جداً بقدر قِدَمْ الإنسانية والحضارة والإبداع، لقد حكمت دمشق عبر التاريخ من قوى إمبراطورية كثيرة، لكنها حافظت على كيانها واستوعبت كل المتغيرات، المدهش أن كل هذه القوى تسلطت رسمياً على دمشق، ولكنها من الناحية الحضارية كانت المتسلطة، والكثير من البلدان تأغرقت أو ترومنت وفقدت هويتها إلى حد بعيد، لكن سورية لم تتغير. 
وربما كان ذلك السبب هو الذي جعل معاوية بن أبي سفيان ينجح في تأسيس الدولة الأموية في الشام، في حين أن الإمام علي بن أبي طالب ،كرم الله وجهه، على الرغم من طاقاته وقدراته أخفق في جعل العراق مركزاً لدولة الخلافة، إن عروبة دمشق هي التي أنقذت العروبة في مصر وشمال إفريقيا ومدها إلى كل بقاع العالم الإسلامي الحالي.
وقد قيل إن حوض البحر الأبيض المتوسط فقد أهميته السياسية لمصلحة الأطلسي والقيادة أصبحت بيد الولايات المتحدة الأمريكية القطب الواحد المتحكم بالعالم، لكننا نلاحظ أن هذا القطب على الرغم من قوته الكبيرة شُدَّ إلى البحر الأبيض المتوسط بدليل غرقه بمشكلات المنطقة وهذا يعني أن دمشق لاتزال تحتل المكانة وتتحكم بجزء كبير ومهم من شواطئ البحر المتوسط.
 ●  وهل هناك أسباب أعاقت دورها في المنطقة؟
- على رأس تلك الأسباب ولاتزال الأوضاع السياسية وكثير من القوانين التي تحد من حرية الفكر والحركة الاقتصادية.
●  إذا كانت سورية كما فهمت من الجواب السابق تمر بمطب فكري يعيق دورها الحضاري فكيف تشخص هذا الوضع؟ وما علاجه؟
- نحن في سورية، كما في بعض الدول العربية الأخرى تأثرنا كثيراً بالنظام الماركسي من حيث طريقة الإدارة. وبناء على هذا التأثر أخذنا بعدة مبادئ وجعلنا وزارة الإعلام – لا أعتقد أن هناك حاجة لوجودها - هي بوق للدعاية للسلطة وليس للرأي الآخر والتوعية. وقد قلت ذلك في الكثير من المقابلات واللقاءات، مع أن المطلوب من وزارة الإعلام هو الإعلام وليس الرقابة الفكرية، وأنا من الناس الذين يتمنون إلغاء الرقابة. أما وزارة الثقافة فقد صارت نوعاً من الوعاء الرديف للسلطة، وخلال ربع قرن في سورية نشر ما امتلأت به المستودعات مثل ما يسمى بكتب الحداثة لأنها لم تجد من يشتريها كونها غريبة على الثقافة في حين أن الكتب التراثية تباع وتنفد من الأسواق خلال أيام قليلة.
ونحن في سورية ما زلنا نُحكم من قبل الرقيب وهو، أحياناً يتمتع بسلطة كبيرة للإلغاء والتعديل ويحدث ذلك بسبب الهوى وليس دراسة علمية، وعلى ذلك فالرقابة بحد ذاتها أمر لا يجوز.
●  هل تقتصر العلة في الرقابة على الكتب فقط أم أنها تشمل المشهد الثقافي بأكمله؟
- لقد استطاع المأمون تخليد نفسه من خلال عمله الثقافي، كما أن سيف الدولة الحمداني رغم إخفاقاته العسكرية الكثيرة أمام الدولة البيزنطية إلا أن الناس لا تذكر له حتى اليوم غير بلاط سيف الدولة الذي زينه بشعراء مثل المتنبي والفارابي وأبي فراس الحمداني وعلماء متميزين في شتى المجالات.
مع الأسف توجد هناك بعض المثبطات، فصحيح أن لدينا عدد كبير من المؤسسات الثقافية، ولكن دورها دور رسمي وإعلامي أكثر منه دوراً فعالاً، وهنا ولو نظرنا مثلا إلى مشكلة التسعيرة الحكومية لمكافآت الكتاب سنجدها أدنى من السوق بكثير، وطبعاً أدنى من التسعيرة العالمية كثيراً، وحتى في الجامعة لا يوجد تشجيع للعمل الفكري، فأنا كأستاذ جامعي إذا كتبت مقالاً ينبغي أن أدفع 36 بالمائة منه للجامعة!
إن المؤسسات تُنشأ من أجل تفعيل الدور الثقافي للمثقفين لأنهم حالات إبداعية فردية ولو حصلوا على الدعم سيزداد إبداعهم، لكن من الملاحظ في الوطن العربي في بعض المؤسسات أنها تؤخر دور المبدعين لا العكس. وأتمنى إلغاء وزارة الإعلام والثقافة، فالاتحاد السوفييتي بأكمله الذي استلهمنا منه هذا النموذج انهار وتغيَّر، لكن هناك حاجة إلى إنشاء وزارة للآثار والمتاحف لأن سورية بلد من أغنى بلدان العالم بالآثار والمتاحف وتنوعها يمثل كل مراحل التاريخ الإنساني.
●  كونك أحد المشتغلين بالدراسات التاريخية وخاصة الإسلامية منها لابد أنك لاحظت صعود الدراما السورية التاريخية، فهل برأيك ما قدم ساهم في خدمة التاريخ أم ساهم بتشويهه؟ 
- لقد برزت الدراما السورية في السنوات الأخيرة لأنها ملأت فراغ تقهقر العمل الدرامي في مصر وغيرها، ولكن دعني أقول إن الدراما السورية التاريخية عانت طبائع التاجر الشامي التي لم تتطور، وهي عدم الصبر والرغبة بتحقيق الربح العاجل دون وجود استعداد للإنفاق وانتظار الربح.
وبرأيي أن الكثير مما قدم شوه التاريخ، ولو كانت هناك محاكمات لحوكم من قدموا مسلسلات عبثت بهوية أمتنا، وأضرب مثلاً على ذلك  بمسلسل خالد بن الوليد؛ فلا كاتب السيناريو له علاقة بالتاريخ ولا المخرج عاش الأجواء التاريخية للأحداث، وإلا كيف تظهر هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بلباس جندي بيزنطي في معركة بدر؟، ومن أين جاءوا بالرايات الخضراء والصفراء؟ والمعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام عنده راية بيضاء وأخرى سوداء.
أما قصة خروج خالد بن الوليد بجيشه من العراق إلى بلاد الشام بألف من رءوس الخيل فهذه نتوقف عندها قليلاً، فأولاً منطقة البادية معروفة بين العراق وسورية، وثانيا رأس الخيل يحتاج إلى 40 ليتراً من الماء و12 كيلو من الأعلاف والشعير فما معنى ذلك؟ ذلك يعني أن كمية المياه التي احتاجها جيش خالد بن الوليد تحتاج إلى صهاريج إلى نقلها أو أنابيب تنقل له ماء الفرات أو أنه مر على الفرات وقت الربيع.
إن عرض مثل هذه الأعمال على الأجيال الجديدة ينقل لهم ثقافة مزيفة، وهو ما أعتبره جريمة من الجرائم. 
 ●  ألم تخض تجربة المساهمة في مثل هذه الأعمال التاريخية؟ حدثنا عنها؟ 
- جاءني شاب وطلب أن نعمل مسلسلاً عن الحياة اليومية للسيرة النبوية العطرة يتماشى مع آراء الفقهاء، وقد طلبت منه في البداية ألا أشرف فقط على السيناريو بل أعمل دورة للمخرج تشمل حتى اللغة العربية وكل حلقة أراقبها وأتدخل بالتعديل عليها إذا احتاج الأمر للتعديل، كما اقترحت أن تشكل لجنة مختصة بالتاريخ الإسلامي لأن الرأي الجماعي أفضل من الفردي، ولكني اكتشفت، وكما قلت، أنهم لا يحبون الإنفاق. 
وتابعت تسجيل بعض الحلقات وأرهقوني، وبعدها بأيام أبلغتني زوجتي أن هناك من ترك لي 5 آلاف ليرة قلت لها: لماذا لم ترجعيها لهم؟ بعدها بأشهر اتصلوا وقالوا العمل نجح نجاحاً هائلاً ونريد أن نستمر، ورددت: أنتم أناس ليس فيكم أخلاق، أنا شعرت بأنكم توجهون إهانة لي، وليس المبلغ هو السبب ولكن الطريقة. 
إن إنتاج أي مسلسل يحتاج إلى إنفاق وأن يُعطى الأمر حقه من جميع الجهات وإلا سيكون الضرر وبائياً وعميقاً.
●  هناك علاقة خاصة بين إسبانيا وبلاد الشام وتأثير شامي مشرقي في الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، فهل جذور تلك العلاقة أقدم من تاريخ الفتح أم بدأت معه؟
- العلاقة بين الشام والأندلس ترقى إلى الألف الثالث قبل الميلاد، والكنعانيون أسسوا عدداً من المدن في الأندلس خاصة قادس في منطقة إشبيلية، وعندما تم فتح الأندلس كانت الجذور الآرامية أو العربية لاتزال قائمة هناك، لذلك سهل تعريب الأندلس أو إعادة تعريبها، في حين أن بلداناً كثيرة دخلها المسلمون لم تتعرب مثل إيران والهند وبلدان ما وراء النهر، وحتى بعض البلدان الإفريقية وأقصد إفريقيا السوداء.
الأندلس كانت الشام في الجهة الأخرى من البحر المتوسط، لكن من يذهب إلى الأندلس الآن يشعر بأنه في بلاد الشام أكثر من أي مكان آخر، وأذكر أول مرة زرت الأندلس سنة 1967 وكنت طالباً وأحضّر الدكتوراه بجامعة لندن وسافرت إلى إسبانيا ورحت لجلب مخطوطات وزرت إشبيلية ويوم نزلت إلى مقهى على طرف النهر شعرت بنفسي أني في ميماس حمص، لذلك لما سمى الشاميون إشبيلية بحمص فلأنها تشبه حمص على الحقيقة، والآن عندما تذهب إلى قرطبة تجد أن جامعها هو نسخة طبق الأصل من جامع بني أمية في دمشق.
وإذا ما دخلت صباحاً إلى غرناطة فستجد الوجوه وطرائق الحديث والسلوكيات كلها شامية، حتى أن بعض العادات التي اندثرت في الشام
لا تزال موجودة عند الأندلسيين. 
●  هل صحيح أن حضارتنا العربية والإسلامية خسرت جزءاً كبيراً من رونقها وجمالها لتحريمها عنصر الرسم الذي يمثل جانب التوثيق في أحد أشكاله؟
- تحريم الرسم كان مشكلة، فلو أردنا اليوم تجسيد مرحلة تاريخية معينة في برنامج وثائقي، فسنجد صعوبة في تحديد الملابس الصحيحة المستخدمة في ذلك العصر فضلاً عن الكثير من الجوانب.
ولكن في العصور الإسلامية المبكرة كالعصر الأموي تم استخدام الرسوم وصكت صور الخلفاء على النقود، كما أن قصر الحير وغيره من القصور الأموية يحفل بالصور والتماثيل الجصية، ولدي مخطوطات من العصر المغولي فيها رسوم تمثل الكثير من الشخصيات، ولما دخل المسلمون إلى المدائن صلوا بشكل طبيعي داخل إيوان كسرى المليء بالتماثيل والصور، لأن المفترض بمن يصلي من المؤمنين أن يتعلق فقط بصلاته وليس بالموجودات أمامه ومن لم يفعل فهو يقوم بحركات رياضية فقط.
إن الإسلام هو دين العقل والمعرفة والنشاط واليقين، وسمح بالحوار ما بين العبد وربه، وقد وجدنا أن اللغة العربية يمكن أن تستخدم في النقوش وخاصة للآيات القرآنية، وهناك تيار مبدع في هذا المجال تراكمت خبراته سنوات وسنوات، ولكن هذا لا يعني أن الرسومات الأخرى محرمة ■