الناقد التنويري

الناقد التنويري

الناقد الأدبي هو الذي تكمِّل مهمته وظيفة الأدب وتوازيها. وإذا كان الأدب يزيد وعينا بالحياة عمقًا وشمولًا وتفردًا في آن، فمهمة الناقد الأدبي تبدأ من هذه الأهداف وتوازيها على مستوى وعي القارئ بالأعمال الأدبية الذي هو وعيه بمقاومة الضرورة في كل شيء حوله، وسعيه الإيجابي لاستبدال الحرية بالضرورة، ومن ثم استبدال العدل بالظلم، وروح الانفتاح على الآخرين بالانغلاق على الذات التي تتقوقع في حدود ضيقة مستريبة بكل شيء.

 

لهذا تتحد وظيفة النقد الأدبي مع وظيفة الأعمال الإبداعية، خصوصًا في أقطار التخلف التي يتحالف فيها النقد الأدبي مع الأعمال الإبداعية في الكشف عن سلبيات المجتمع، وتعرية مثالبه، ومواجهة أشكال فساده وتسلطه وجموده وتعصبه، ومن ثم مقاومة نزعات الإرهاب؛ سواء كان هذا الإرهاب لأفراد أو جماعات أو دول، وأيًا كانت نزعات هذا الإرهاب في تخلُّقها وأصل نشأتها، سواء كان ذلك ناتجًا من تعصب ديني، أو تسلط سياسي، أو تصلب اجتماعي، أو حتى تحيز ثقافي يحول دون انفتاح الفكر على غيره، وكمال قدرته في وضع نفسه وغيره موضع المساءلة الدائمة. ولذلك فبقدر ما يكون الإبداع رفضًا لشروط الضرورة، ومقاومة لكل أشكال الفساد، ورفضًا لكل أشكال الظلم، وسعيًا إلى تأكيد الوجود الحيوي للحرية، وتوسيعًا لدائرة الحق الذي هو كالعدل أساس العمران، فإن النقد الأدبي بوجه خاص كالنقد في كل مجال، هو تحقيق لهذه الوظائف التي يحققها الإبداع بكل أشكاله وأنواعه. لا فارق سوى أن الإبداع يجسّد وظائفه تخيلًا وتخييلًا، والنقد يجسدها فعلًا تصوريًا سبيله الفهم والإفهام؛ فالإبداع يلجأ إلى خطاب المجاز، والنقد يؤثر خطاب الحقيقة الذي يفهم القارئ معاني المجازات، ودلالات الرموز، ومرامي الكنايات، ومقاصد التشبيهات. 
هذا هو الأصل الذي يلتقي عنده الإبداع والنقد، ويتحدد على أساسه فهم الناقد التنويري الذي يرى الأعمال الأدبية والإبداعية، محققة الأهداف نفسها التي يتطلع إلى تحقيقها من خلال هذه الأعمال وبها، فعمله تنظيرًا أو تطبيقًا هو في النهاية، وفي التحليل الأخير، تنوير للأعمال الأدبية بما يجعلها تشع كل أضوائها على وعي القارئ من ناحية، وبما يسهم في النهاية، وعلى أنحاء مباشرة أو غير مباشرة، في تنوير الوعي المجتمعي بقيم الحق والخير والجمال التي لا تفارقها أشكال الإبداع المختلفة من ناحية أخرى. وسواء كان هذا النقد يقوم بمهام التطبيق أو التنظير، فهو واعٍ بوظائف اجتماعية لابد أن يحققها، استجابة إلى نوع من الالتزام الاجتماعي المضمر، أو حتى المعلن. لكن الذي يسهم في كل الأحوال في تشكيل وعيه الذاتي ما يستقبله من نظريات نقدية جديدة، أو استيعاب نظريات قديمة، وذلك على نحو يجعل من وعيه عنصرًا فاعلًا في إعادة إنتاج النظريات التي تدخل دائرة معرفته، لا لكي يرددها كالببغاء، سواء كانت قديمة أو حديثة، موروثة أو وافدة، وإنما يحيلها إلى أدوات فاعلة للإبانة عن ماهية الأدب ومهمته وأداته، بما يتجاوب مع التزامه المضمر الذي يجعل من حقل معرفته وسيلة للارتقاء بمجتمعه وتحريره من كل شروط الضرورة في آن. وهذا يعني أن عمل الناقد التنويري محكوم بإطار مرجعي للقيمة في آخر الأمر. هذا الإطار، رغم رحابة أفقه ومرونة توجهه، يتحكم في اختيار وإعادة إنتاج النظرية النقدية السابقة على الممارسة، وذلك بما يجعل منها نظرية فاعلة على مستوى التطبيق والممارسة العملية. وهو الأمر الذي يتحكم بكيفية من الكيفيات في اختيار الناقد الأدبي – مثلًا - لهذه الأعمال دون غيرها، وانشغاله بتحليلها وتفسيرها، ومن ثم تقييمها، بوصفها أعمالًا مسهمة في معركة التقدم التي يرى أن وظيفته النوعية تفرض عليه الإسهام في المعركة نفسها، وتحقيق شروط النصر فيها. مادة الناقد الأدبي في ذلك هي الأعمال الأدبية بكل أنواعها، وهدفه من ممارساته النقدية على هذه الأعمال هو تحقيق أهدافها المضمرة التي تتوافق وأهدافه التي هي – في النهاية - الإطار المرجعي للقيمة على مستوى غائية المادة الأدبية من حيث هي مفعول النقد، وعلى مستوى غائية الفاعل الممارس لنقده في المادة ذاتها، وذلك في سياق يجعل منه ومنها فعلًا من أفعال التنوير بامتياز.
والتنوير بهذا المعنى يمكن أن ينطوي على تعدد النظريات النقدية المتاحة وتنوعها، وأهم من ذلك أنه يعلوها، ويقبل أن يتماس معها أو يتفاعل، خصوصًا في المدى الذي يجعل من ثراء هذه النظريات وتنوعها عونًا على عمل الناقد التنويري، ودعمًا له بما يحقق هذه الغاية أو تلك من غايات عمله الذي ينطوي على خصائص نوعية خاصة به. بعبارة أخرى أتصور وجود نقاط تلاق أو اتفاق أو تفاعل بين الآليات التي يستخدمها الناقد التنويري والعمليات الجزئية التي قد تصله بالبنيوية اللغوية، أو التوليدية، أو حتى هذا النوع أو ذاك من أفرع النقد الأدبي الماركسي على سبيل التخصيص، والنقد الاجتماعي على سبيل التعميم. وينطبق الفهم نفسه على علاقة الناقد التنويري بتراثه النقدي العربي؛ فالأمر واحد في حال العلاقة بالموروث أو الوافد، وهو ألا يكون الناقد اتِّباعيًا أو مقلدًا في هذا الجانب أو ذاك، بل يكون مجتهدًا ابتكاريًا، وهو ما أعنيه بإعادة عملية إنتاج المستفاد من هذه النظرية أو تلك، موروثة أو وافدة بلا تمييز، وأن يتجانس ما أعيد إنتاجه على كل مستوى، ومن كل مجال، وذلك بما يصوغ تجاوبًا متناغمًا في كل مستويات العملية النقدية، تنظيرًا وتطبيقًا، فلا تتناقض جوانب التنظير، أو تتنافر أدواته، أو تتعارض تقنياته؛ سواء في البناء التصوري لمفاهيم النقد التنويري، أو الواقع العملي لمستويات التحليل والتفسير والتقييم عند الناقد التنويري. والأصالة هي الوجه الآخر من الابتكار في هذا المدى، حيث كل فهم تملك للمفهوم، وحيث كل مفهوم يتناغم مع غيره في تصور شمولي متضافر الأركان. وضمان ذلك أن تكون بنية النقد التنويري بنية مفتوحة على أي سؤال، قابلة لأن توضع موضع المساءلة في كل مراحلها، وفي المدى الذي يناقل فعل المساءلة من الذات إلى الموضوع.

الناقد العربي ونظيره الغربي
وليس هذا الفهم للنقد التنويري رفضًا لأي نقد وافد، قديمًا أو جديدًا أو أجدّ، وإنما هو تقبل لكل نظرية ممكنة، ولكن بما يؤكد خصوصية النقد، وهوية الناقد الأدبي، فمن المؤكد أن الناقد الأدبي الذي يعيش في العالم العربي يختلف اختلافًا بيّنًا عن قرينه الذي يعيش في عوالم متقدمة، لا تعاني التخلف الذي يعيشه العالم العربي في كل مجال، وينيخ بكلاكله على أكتاف الناقد الأدبي العربي، فيفرض عليه أسئلة نوعية مختلفة. ومهما تجاوبت عوالم التخلف والتقدم، بواسطة ثورة الاتصالات التي تقدمت تقدمًا مذهلًا، جعل العالم كله قرية كونية صغيرة، فإن نوعية الهموم والتحديات تبقى مختلفة، فعندما أعيش في وطن مثل مصر، تصل نسبة الأمية فيه إلى ما يقرب من خمسين في المائة، وتماثلها نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر، وأضف إلى ذلك نسبة كبيرة من الذين لا يعيشون تحت خط الفقر فحسب، بل أدنى من ذلك بكثير، حيث الفقر المدقع، أو «الفقر الدكر» كما يقول العامة. أضف إلى ذلك التدني الملحوظ والتأخر المتزايد في خدمات الصحة والتعليم والإسكان، حيث تتكاثر العشوائيات مع الانفجارات السكانية المتواصلة التي تشكِّل قنابل موقوتة قابلة للانفجار في كل لحظة. أضف إلى ذلك ثقافة التخلف، كتبت عنها كتابا (راجع نقد ثقافة التخلف) في موازاة مخاطر تديين كل شيء لأغراض نفعية سياسية، لا علاقة لها بالدين. وهو سبب المحنة التي تعانيها مصر حاليًا، وبسببها لاأزال أصل بين فكر التنوير وأمل الدولة المدنية الحديثة وصل السببية التي تقود إلى التقدم.
هذا الوضع الذي أعيشه وأعاني منه بوصفي ناقدًا للأدب يفرض عليّ ما يذكرني بخصوصية وضع بلدي المتخلف، وهويتي التي لا ينفصل عنها وعي تخلفي باعتباره عنصرًا تأسيسيًا في تكوين هذه الهوية. ولذلك أدرك اختلاف همومي عن هموم نظيري في إنجلترا أو فرنسا، أو هموم زميلي وليام جرانارا في جامعة هارفارد التي درست فيها مرتين، وقس على ذلك أمثالي من أساتذة الجامعات في نصف العالم الآسيوى الجديد، إذا استخدمت تسمية محبوباني مؤلف الكتاب. ما أذكره أنني كنت أتحدث بالإنجليزية لطلابي في جامعة هارفارد حول موضوعات لا أناقشها في جامعة القاهرة لأسباب عديدة. لا يعني ذلك أنني أقل من زميلي وليام جرانارا وعيًا بالنظريات البنائية أو التفكيك أو غير ذلك من النظريات الأدبية للعالم الأوربي الأمريكي، فمعرفتي بهذه النظريات لا تقل عن معرفته. ولكني أعترف أن معرفتي بخطاب ما بعد الاستعمار، أو نقض الخطاب الاستعماري، فضلًا عن النقد الثقافي، جعلتني أسترجع وعي الهوية الذي كدت أنساه، وإدراك الخصوصية التي تتطلب إدراكًا خاصًا في الأعمال الأدبية العربية.
وليس معنى الإشارة إلى الخصوصية أو الهوية هو دعوة إلى انغلاق جديد على الذات كما حدث في واقعنا الثقافي، ولايزال يحدث. إن ما أريده وأسعى إليه هو وعي مفتوح على الآخر. وعي يدرك أن الهوية هي وعي الغيرية بقدر ما هي وعي الذاتية. ووعي الاختلاف في فكري النقدي لاينفي وعي المشابهة، بقدر ما يؤكد ضرورة المعرفة التي لا ضفاف لها، والتي لا تحصر نفسها في دين تعصبًا، ولا في قومية تحمسًا، ولا في لغة تنعُّرًا، فهي معرفة مفتوحة على كل شيء. ورغم وعي الذات العارفة فيها بخصوصيتها فإنها لا تكف عن البحث عن أشباهها وأضدادها بالدرجة نفسها، فالمعرفة قوة كما قال أكثر من فيلسوف. ولاأزال أذكر كلمات غاندي التي تقول: «إنني أفتح نوافذ بيتي في كل اتجاه، كي تستقبل الهواء القادم من كل حدب وصوب، شريطة ألا يقتلع الهواء جذور بيتي». ولذلك عندما كنت أشرف على المجلس الأعلى للثقافة – في مصر- حرصت على أن أدعو نقاد العالم وأدباءه من دون تمييز. ولا أزال أذكر زيارة جاك دريدا فيلسوف التفكيك وحواراتي معه، واقترابي منه. ورغم ذلك فأنا لاأزال بعيدًا عن الاقتناع بالأساس الفلسفي للتفكيك، وكتبت عن ذلك، ما جعل بعض زملائي النقاد يختلفون معي وأختلف معهم إلى اليوم.

نقد النقد
إننا لا يمكن أن نتجاهل حقيقة أننا نعيش في قرية كونية صغيرة، وأن أنهار المعرفة تنهمر علينا من كل اتجاه، وعلينا أن نفتح عقولنا ووجداننا فلا ننعزل عن شيء مما يحدث في القرية الكونية التي نحن طرف فيها نتفاعل معها سلبًا وإيجابًا على السواء. وما ينقذنا من الوقوع في شباك الاتِّباع والتبعية هو الحرص على الاستقلال الوطني في حال مقاومة التبعية السياسية، والحرص على وعي المساءلة الذي ينجينا من الشراك أو المخايلات التي توقعنا في أسر الاتِّباع الفكري. ولذلك فإن النقد التنويري هو نقد مساءلة يضع كل شىء غيره بما في ذلك نفسه موضع المساءلة. ولذلك فالناقد التنويري هو ناقد موضوعي، تعتمد موضوعيته على مبادئ أساسية، لكن ضمان موضوعيته الوحيد هو مساءلته الدائمة للأعمال التي يقوم بنقدها، وذلك بما يتوازى دائمًا مع فعل مساءلته لنفسه، في أثناء مساءلة غيره، انطلاقًا من وعيه بالهوية التي تنطوي على الغيرية.
والناقد التنويري ناقد عقلاني في ما أفهمه. إنه ناقد ينطبق عليه ما قاله صلاح عبدالصبور في «مرثية رجل عظيم»:
كان يريد أن يرى النظام في الفوضى
وأن يرى الجمال في النظام 
ولذلك فهو ناقد يبحث في ركام الأعمال الأدبية وتدافعها العفوي الذي يشبه الفوضى- في حال استقبالنا التلقائي لها- عن المبدأ العقلي الذي ينتظم به كل منها على حدة، وينتظم به مجموعها في دائرة النوع أو الجنس، هذا الانتظام هو المرادف للجمال في إدراكه، لكن الجمال الذي يتبدى في انتظام الأعمال الأدبية لا يكشف عن نفسه على نحو مباشر. إنه جمال يشبه في إدراكه إدراك الخيط الخفي الذي يلم النجوم المتناثرة في السماء، وهو مختف خلف النجوم. والوعي الذي يدرك انتظام جمال العمل الأدبي، فيما تتتابع دوال «مرثية» صلاح عبدالصبور، أشبه بالمقلة التي ترى خلف تشتت الأشكال والصور، وتغير الألوان والظلال، وخلف اشتباه الوهم والمجاز والخيال، حقائق الأشياء والأحوال، أو عوالم الواقع التي يكشف عنها اشتباك المجاز والخيال في الأعمال الأدبية.
إن عقلانية الناقد التنويري، في هذا السياق، هي بحث الناقد ما بين أجزاء العمل الأدبي عن علاماته الدالة، أو عناصره التأسيسية، تلك العناصر التي إذا وصل وعي الناقد بينها دلاليا، توصل إلى ما يغدو تفسيرا للعمل الأدبي. ولكن هذا التفسير ليس واحدًا في كل الأحوال. إنه يتوقف على زاوية الرؤية التي ينظر بها الناقد إلى العمل الأدبي، موصولة- أي الرؤية- بالإطار المرجعي للقيمة التي ينطوي عليها ذهن الناقد إلى العمل. ويعني ذلك أن استخراج القيمة الجمالية للعمل هي النتيجة غير المباشرة لكل من عمليتي التحليل (التي هي تحديد واكتشاف للعناصر الأساسية) والتفسير (التي هي عملية وصل دلالي للعناصر الأساسية المكتشفة). وقد كان للمذاهب الشكلانية أثرها في إغفال جانب القيمة في الأعمال الأدبية، فغالبًا ما كانت تكتفي بالتحليل والتفسير، متصورة أنها أنهت عملها بذلك. وهو أمر يريح الناقد –على كل حال- من مصارحة الأديب بالقيمة الحقيقية لعمله، من منظور الناقد بالطبع. ولكن تجنب حرج تصريح نقاد كثر بالقيمة، ترتب عليه سلبية الخلط بين الأعمال الذائعة Best Seller التي قد تكون بلا قيمة إبداعية أصيلة والأعمال الإبداعية الأصيلة التي لا ينبغي التسوية بينها والأعمال الذائعة في كل الأحوال.

الصبر من شيم النقد
ولكن عقلانية الناقد التنويري التي هي منهج في الرؤية ينبغي ألا تحول بينه والأعمال المجافية للعقل في الظاهر على الأقل. أعني الإبداعات السريالية والعبثية وألوان الإبداع الأخرى التي ترحل صوب أندلس الأعماق، وتمضي بعيدًا في محيطات اللاشعور، حيث يمكن أن يتماس الإبداع السريالي والإبداع الصوفي الذي يجافي المنطق العملي وسطوح الحس الظاهر ليصل إلى عوالم الحس الباطن، وما يجانسه من الشطح الصوفي الذي يصل في لحظات الكشف والتجلي إلى عوالم لا يمكن قياسها بالمنطق البارد أو الحس العملي الدنيوي. هل عقلانية الناقد التنويري تحول بينه وفهم هذا النوع من الإبداع؟ أظن أن الإجابة بالنفي، خصوصًا عند الناقد التنويري الذي يريد أن يرى النظام في الفوضى، مؤمنًا أن كل إبداع مهما جافى العقل في الظاهر، فإنه ينطوي على نسقه الخاص، وأن دلالات الأعمال اللامعقولة تكمن خلف اشتباه الوهم والخيال والمجاز، ففي مدى كل إبداع من هذا النوع، في الخيط الذي ينظم الإبداع الصوفي والسريالي والعبثي، هناك نسق ما، هو نوع من البنية الوصول إليه صعب حقا، ولكنه يحتاج إلى صبر المجاهد والمحب الذي ينطوي على أمل الوصول رغم الصعاب. وفي مثل هذه الأحوال، يتحول البحث عن المعنى إلى مجاهدة، يأتلف فيها العقل والقلب، وعلى قدر المجاهدة، تكون نقطة الوصول إلى معنى أو دلالة، هما بمنزلة درجة على سلّم الكشف الذي يصعد إلى حيث تتكشف الدلالات، ويكتمل فهم العمل الإبداعي الذي يمثله هذا النوع، ويلقي بكنوزه المخبوءة إلى الناقد الصبور. وقد عانيت ذلك في ممارساتي النقدية، خاصة وأنا أقرأ ما غمض على الآخرين من شعر أدونيس ومحمد عفيفي مطر، خصوصًا حين يتجلى له الذي هو واحدها فيَّ أعضاؤه انتثرت، أو يتشكل المفرد بصيغة الجمع، أو يتحول الشعر إلى شطح في محيطات اللاشعور للوصول إلى أندلس الأعماق عند أدونيس. وقس على ذلك الكثير من أنواع الإبداع التي يحتويها رمز ديونيسيوس، مقابل الإبداع العقلاني الذي يستدعي رمز «أبوللو» إله الشمس الذي لا يفارق دلالة الشمس وتجليات العقل الساطعة كنورها من نظام صارم وأبنية محكمة ودلالات قريبة المأتى ميسورة الإدراك.
والعقلانية تلازم الحرية في صفات الناقد والنقد التنويري، على السواء. يستوي في ذلك أن تكون الحرية صفة من صفات النقد التنويري، أو مطلبًا ملحًا من المطالب التي يراها الناقد التنويري ملازمة لكل مبدع، وضرورة حتمية لإطلاق سراح القوى الخلاقة لكل قيود. وإذا كانت العقلانية (التي تفضي إلى العلم بالضرورة) مطلبًا حتميًا في مجتمعاتنا العربية التي لاتزال غارقة في أسر الجهالـة وشعوذات الخرافة، في مدى التخلف الذي لايزال عميق الجذور، فإن الحرية مطلب حيوي بقدر ما هو حتمي لحياة المواطن في أي دولة تحاول أن تكون حديثة، مدنية ديموقراطية، حرية إرادتها التي توازي استقلالها هي الوجه الملازم لحرية المواطن الذي يسعى إلى ممارسة حريته فيها على كل المستويات، رغم كل القيود.

الحرية هي الجمال
ولحسن الحظ، فإن ميراث الفكر المصري من الحرية وتنظيراتها المختلفة ميراث متميز، ابتداء مما كتبه رفاعة الطهطاوي، مرورًا بما كتبه أحمد لطفي السيد، رائد الدعوة إلى مذهب الحريين، في موازاة ما كتبه عبدالرحمن الكواكبي عن طبائع الاستبداد، وليس انتهاء بما كتبه أبناء جيل ثورة 1919 أمثال محمد حسين هيكل وعباس محمود العقاد وطه حسين. وقد سبق أن كتبت عن مفهوم الحرية وأبعادها النقدية في كتابات هيكل وطه حسين. ويبقى التذكير هنا بمفهوم الحرية عند العقاد، من حيث هو بالغ الأهمية في نظريته الأدبية والسياسية والجمالية على السواء. ولذلك لا بأس من الإشارة إلى علاقة الحرية بالجمال عند العقاد، بوصفها تمثيلًا للترابطات الأدبية والنقدية لمفهوم الحرية عند جيل ثورة 1919 الذي هو الجيل المؤسس لأغلب مبادئنا الحديثة عن الأصول الفكرية للدولة المدنية في علاقتها بالحرية، وأتصور أنها أصول تؤسس لركن ركين من أركان النقد التنويري، خصوصًا في علاقة الحرية بالجمال. لقد كان العقاد يؤكد أنه لا وجود للجمال الأدبي أو الفني أو حتى الطبيعي إلا إذا انطوى على الحرية، ولا حرية في الحياة والأحياء إلا إذا كان الجمال عنصرًا تأسيسيًا في بنائها، بل إننا يمكن أن نذهب مع العقاد إلى حد القول إن الحرية هي الجمال، والجمال هو الحرية، كلاهما مترادفان، وكلاهما بمنزلة تعريف للآخر ووجهه المتحد في الهوية على السواء، خصوصًا في ارتباط معنى الحرية بالحركة والحيوية التي تُشربها معنى الحرية، وفي ارتباط الجمال بالتناغم والتناسق والانسجام التي يدخلها إلى معنى الحرية. ولذلك يقول العقاد إن الجاري أجمل من الماء الآسن، والوردة الطبيعية أجمل من الوردة الاصطناعية، والإنسان عندما يرى شيئًا جميلًا تنشرح نفسه ويطرب خاطره ويبتهج فؤاده، وتتحرك دوافعه إلى الحركة. والصوت الجميل هو الذي يخرج بسلاسة من الحنجرة ولا يحتبس فيها. والجسم الجميل هو الذي يتحرك حرًا، فلا تشعر أن عضوًا فيه قد نبا عن غيره، وكأن أعضاءه قائمة بذاتها في هذا الجسد، على خير ما يكون من التناسق والانسجام والتناسب. والانسجام كالتناسب والتناسق مدلولات لدال واحد يشير إلى قانون ثابت في الحياة والأحياء وإبداعات الفن على السواء. ولذلك كان العقاد يرى الجميل في كل ما ينطوي على الانسجام، وكل ما يتحقق به أو فيه التناغم والتناسب. العمل الفني جميل لأنه يحقق أقصى درجة من التناغم بين أجزائه، حيث لا يخضع شيء للمصادفة، ولا ينبني عنصر على العشوائية، بل تتضافر العناصر والمكونات في وحدة واحدة، تنسجم عناصرها، وتتجاوب علاقاتها. والحياة نفسها عمل فني تحكمه الأصول التي تحكم بيت الشعر ولحن الموسيقى وصور المصوّر، وتخرج الحياة في جملتها من الفن الإلهي. والإنسان نفسه هو أعظم الأعمال الفنية التي خلقها الله، ولذلك فهو مفطور على الحرية، بقدر ما هو مركب من كل ما هو متجانس متناسب متناغم في أعضائه وخصاله في حال كماله. هذه الحال مقرونة دائمًا بالحركة، فالجمال كالكمال لا يتحقق إلا على أساس من الحيوية التي لابد أن ينطوي عليها. والحيوية تحقق الحركة المتدفقة بين العناصر والأجزاء التي تحفظ على الاستجابة الجمالية نشاطها وتوترها الدائم.
ولذلك فالماء الجاري أجمل من الماء الساكن، والكائن الحي المتحرك أكثر إثارة للشعور بالجمال من التمثال الساكن، والتمثال الساكن- بدوره- لا يتميز على غيره إلا بما يوحي به من الحركة. والحق أن حرية الفن لا تختلف عن حرية الطبيعة، أو حرية الكائن، فهي حرية غير مطلقة، توازن بين الروح والمادة، والقانون والعفوية، والقاعدة والانطلاق. هكذا نعود إلى العقلانية التي تتضافر مع الحرية، حتى في مدى البحث عن النظام في الفوضى، ورؤية الجمال في النظام. وبقدر ما قام جيل ثورة 1919 بتأصيل مفاهيمنا للحرية، وقدموا النماذج العملية على التضحية من أجلها، وتقديم النماذج الملموسة على ممارستها سياسيًا وأكاديميًا وفكريًا وإبداعيًا، فعرفنا ما نال العقاد من أشهر سجن بسبب ما قاله في البرلمان، وما عاناه طه حسين من فصل من الجامعة، وما لقيه علي عبدالرازق من فصل من وظيفته في القضاء، وسحب شهادة العالمية منه. والنماذج كثيرة تدل على أن مطلب الحرية الذي يراه الناقد التنويري حقًا لنفسه وللإبداع والمبدعين، بل وكل المفكرين والكتّاب على وجه العموم، إنما هو مطلب عزيز المنال، نادر الوجود أو التحقق في ظل الدول التسلطية التي فرض على أكثرنا أن نعيش تحت سطوتها، إلى الحد الذي جعل يوسف إدريس يصرخ قائلا: «إن كل الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي روائيًا واحدًا». والحق إن صرخة يوسف إدريس لا تنصرف إلى التضييق على الروائيين فحسب، بل التضييق على كل أصحاب الكلمة الحرة في كل مجال، ذلك لأننا نعيش في أزمنة القمع. 

القمع والحرية
ويقيني أن مقاومة القمع، دفاعًا عن كتابات الحرية، أو الكتابة الحرية، هي واحدة من التحديات التي تواجه الناقد التنويري، وتفرض عليه الوقوف في الخندق الذي يقاوم فيه المبدع القمع بالإبداع، ويواجه الناقد بالقدر نفسه، كاشفًا ومحللًا ومنحازًا لأشكال الكتابة التي تواجه القمع بأشكاله الثلاثة: السياسية التي يكون الفاعل فيها، عادة، قوة الدولة التسلطية التي لا ترى في الدولة المدنية الحديثة ومؤسساتها سوى عناصر شكلية للزينة، خالية من طاقة الفعل أو قدرة الحركة، وتولي رعايتها الأولى لأجهزتها القمعية التي تتولى تأديب ومعاقبة كل من يخرج على تعليمات هذه الدولة، وينطق أو يكتب خطابًا إبداعيًا مسكوتًا أو منهيًا عنه. أما الشكل الثاني للقمع فهو ما يتمثل في أشكال التأسلم السياسي، الموازية للدولة التسلطية والمتحالفة معها في أغلب الحالات. وهي تمثل قوة قمع موازية لقوة قمع الدولة التسلطية ومتداخلة أو متحالفة معها في غير حالة. وضحايا هذا الشكل القمعي الذي يتخذ طابعًا دينيًا، تغطية لأهدافه السياسية كثر بين الأدباء والمبدعين والمثقفين بوجه عام، وطرائق قمعهم تتدرج هابطة من القتل الذي اغتال أمثال فرج فودة في مصر وعبدالقادر علولة في الجزائر، وكاد يودي بحياة نجيب محفوظ، ونجح في التفريق بين نصر أبي زيد وزوجه. والحق أن الوقوف في صف المقاومين لشكلي القمع السياسي والديني إحدى مهام الناقد التنويري. وهي أحد معايير القيمة التي تمايز بينه والناقد الشكلاني الذي يؤثر الصمت على الجرائم، ويهرب من المواجهة أو المشاركة في مقاومة بادعاء الانغماس في تحليلات شكلانية هي نوع من الهروب أو الصمت العاجز في أحيان كثيرة. والأمثلة كثيرة على هذا النوع من النقد لا تحتاج إلى أمثلة أو إشارة. 
ويبقى الشكل الأخير من القمع الاجتماعي الذي يتمثل في أوضاع التصلب الاجتماعي وأنواع الفساد الاجتماعي، في موازاة المراء والنفاق واختلال المعايير الناتجة إما عن ثقافة متخلفة أو عن أوضاع التسلط السياسي التي هي الموازي الطبيعي لأوضاع البطريركية الاجتماعية في أحوال تسلطها وتأسيسها لتقاليد اجتماعية غير سوية. وتعد روايات مثل «العيب» و«الحرام» وغيرهما ليوسف إدريس نماذج لهذا النوع من القمع الاجتماعي الذي تكمله قصص قصيرة مثل «أكبر الكبائر» و«بيت من لحم» للكاتب نفسه. والأمثلة كثيرة من إبداع غيره. 
والحق أن الأشكال المتعددة من القمع كانت، ولاتزال، نبعًا فياضًا ثريًا لأنواع الإبداع وأجناسه المختلفة في الأدب العربي بوجه عام، وفي فن الرواية بوجه خاص على أساس أننا قد أصبحنا نعيش في زمن الرواية، ولاتزال الرواية هي ديوان العربية الأكبر والأكثر لفتًا للانتباه، خصوصًا بما فيه من روايات القمع، تأمل مثلًا الروايات التي أنتجها جحيم الحرب الأهلية في لبنان، والروايات التي حملت ملامح المقاتل الفلسطيني منذ غسان كنفاني، وروايات السجن التي دشنها عبدالرحمن منيف منذ أن كتب «شرق المتوسط» وقبله صنع الله إبراهيم في «تلك الرائحة» التي كانت بمنزلة انقطاع فني في مجرى الرواية العربية، وبداية لما أصبح موصوفًا بمصطلح «شعرية القبح». والحق أنني أتخيل، أحيانًا، أن الرواية العربية هي أكثر الأنواع الأدبية تجسيدًا للقمع ومقاومته، فعندما أسترجع بذاكرتي عناوين الروايات العربية وموضوعاتها، لا أكاد أرى سوى أنواع متعددة، متنوعة الأشكال والسمات من مواجهة القمع السياسي والديني والاجتماعي. وظني أن هذا الملمح في الروايات يصنع إحدى قسمات خصوصيتها النوعية بالقياس إلى غيرها من روايات العالم. وهو ملمح يفرض نفسه على الناقد التنويري الذي لابد أنه ينتهي إلى أنه من العدل أن ينتبه إلى هذه الخصوصية في أدبه، ويرى فيها بعض ملامح خصوصية نقده، وعلامة دالة على هويته في آن، خصوصًا إذا كان هذا الناقد ينتدب نفسه لمواجهة القمع بالكشف عن الجماليات الخاصة بالإبداع المقام، وتحويل نقده إلى فعل مقاومة مواز للكتابة الإبداعية.
والحق أن وعي الناقد التنويري بالقمع الذي يعانيه المجتمع العربي هو ما يدفعه إلى تبني قضايا العدل بوصفها نقيضًا وترياقًا للظلم الذي هو السبب الأول للقمع في كل حالاته. وإذا كان من العدل الإيمان بحقوق الإنسان وكل ما يؤكد كرامته الإنسانية، في كل مستويات الحياة التي يحياها، فتمام العدل لا يؤسس للعمران والدولة المتقدمة فحسب، وإنما يزيد وعي أبناء هذه الدولة غنى بحقوقهم وواجباتهم فيها، فيكمل العدل معنى المساواة، مضافًا إليه معنى المواطنة على السواء، وعندما يتعمق العدل في وعي الناقد التنويري، فإنه سوف يزداد يقينًا بأن العدل ليس مرتبطًا بعدالة توزيع الثروة في المجتمع فحسب، وإنما يرتبط بعدالة توزيع المعرفة على كل أبناء المجتمع وإتاحة ثمرات الآداب والفنون لكل المواطنين دون استثناء بدل قصرها على فريق منهم دون غيره. ويلزم على تنوير النخبة الحاكمة في المجتمع، وأهمية نشر التعليم، وجعله إلزاميًا من جديد، خصوصًا بعد أن تزايد الفقر في المجتمع المصري؛ مما أدى إلى ظاهرة التسرب المبكر من التعليم لأسباب اقتصادية. وهو أمر لا يزيد نسبة الأمية في المجتمع فحسب، وإنما يضيف إليها الاستخفاف بالآداب والفنون وعدم إدراك أهميتهما؛ سواء للذوق الفردي أو الجمعي. وما سرقة الآثار والتعامل معها بوصفها سلعة جالبة للمال إلا مظهر من المظاهر التي تترتب على تحالف الأمية والفقر المدقع. وقس على ذلك تدهور الذوق العام وما آلت إليه أحوال المتنزهات العامة، وما يصيب التماثيل من تخريب أو امتهان. وما حدث في اعتصامات الإخوان في ميدان النهضة المواجه لجامعة القاهرة هو خير دليل على ما يمكن أن يترتب عن الجهالة التي تترتب على عدم عدالة توزيع المعرفة وثمار الفنون في المجتمع، فلولا هذه النتيجة ما قام معتصمو الإخوان ومن انضم إليهم من شذاذ الآفاق بالتخريب الذي حدث في النصب التذكاري الذي هو أول ما يلفت العين في مدخل الجامعة، وهو نصب على شكل زهرة لوتس مستطيلة، مكتوبة على أسفلها أسماء شهداء الجامعة الذين سقطوا برصاص جنود إسماعيل صدقي، عندما فتح عليهم كوبري عباس عام 1946. وقل الأمر نفسه على تمثال نهضة مصر الذي يقع في أول الطريق المفضي إلى الجامعة، ما بين حديقة الأورمان وحديقة الحيوان. ولا أظن أن الذين شوّهوا تمثال نهضة مصر عرفوا أن الأمة اكتتبت كلها ليكمل مختار تمثاله الذي يرمز إلى ثورة المرأة التي اشتركت مع الرجل. ويقيني أن الوعي المشوّه لهؤلاء الذين شوّهوا تمثال نهضة مصر لا يختلف عن الذين اجتثوا الأشجار النادرة في حديقة الأورمان؛ فكل ذلك من نتاج الجهل، والجهل ليس عدم المعرفة بالقراءة والكتابة فحسب، وإنما هو ناتج الخلل وعدم العدل في توزيع الذوق السليم على أبناء الأمة بتربيتهم على تذوق كل ما هو جميل، وكل ما تنتسب إليه الفنون التي هي قرينة الآداب. وطبيعي أن يفعل هؤلاء الجهال الذين استغل الإخوان كل ما فعلوا من جرائم حضارية في ميدان النهضة وما حوله، بل وأن يضيفوا إليه سرقة متحف للآثار بأكمله في ملوي بمحافظة المنيا في صعيد مصر ■