العقيدة بمعزل عن المصطلحات

العقيدة بمعزل عن المصطلحات

كان أحد رؤساء الجامعة اللبنانية مسلماً وزوجته على دين المسيح، وكان يكره أن يقال لها نصرانية، مفضلاً صفة مسيحية. وسمعت عالم دين على أحد الأقنية الفضائية المصرية يعترض على صفة مسيحيين ويلزم المسلم باستعمال صفة نصارى ومفردها نصراني، لأنها وردت هكذا في القرآن الكريم، موحياً أنها مصطلح إلهي لا يجوز مخالفته. وكان أحد الزملاء في الجامعة اللبنانية يعترض على مصطلح «عصر ما قبل الإسلام» وما أشبهه، لأن كلمة جاهلية وردت في القرآن الكريم، ولا يجوز استعمال غيرها. والحقيقة أن المصطلحات التي لا تتصل بجوهر الدين تسميات يتواطأ عليها الناس ويتفاهمون بها، في أي ميدان علمي أو أدبي أو فني مخصوص، أو في الميدان العام، فإذا ما وردت في نص ديني فلا يعني ذلك أن لها صفة قدسية، وأنه لا يجوز استعمال غيرها. نعم، إن المسلم لا يستطيع أن يقول في الشهادة، مثلاً: وأن محمداً مبعوث الله، مع أن المبعوث مرادف للرسول، ومع أنه يقال: البعثة النبوية، لكن الرسول هو المصطلح الديني الإسلامي المستعمل في الشهادة وفي وصف النبي عامة في القرآن والحديث ومختلف المصادر الإسلامية، بصورة توحي وجوب استعماله. لكن لو قال وكيل المرأة لطالب الزواج بها: زوّجتك موكلتي، وقال طالب الزواج: قبلت، أو رضيت، أو وافقت، لصحّ العقد، لأن المقصود هو نية المتعاقدين، فالزواج في الإسلام عقد ديني في جانب منه، ومدني في جانب آخر، ويخضع نصه لمقتضى الخطاب ولإرادة المتعاقدين، وليس للمصطلح. وأما الشروط التي يضعها الفقهاء لصحة ذلك النص فلغوية بلاغية وليست دينية، ويمكن أن نجد مقابلاً لها في أي قانون مدني. فكيف لو كان الأمر عاماً كتسمية جماعة دينية أو وصف عصر من العصور؟
إن النصرانية كلمة حار اللغويون والمفسرون العرب في معرفة أصلها، وقد عرضنا لشيء من ذلك في مقالة سابقة، لكن الدراسات العلمية الغربية بحثت في ذلك الأصل، فأشار بعضها إلى أن «العهد الجديد» المكتوب أصلاً باليونانية (الأناجيل وأعمال الرسل المسيحيين ورسائلهم) يسمي المسيح نزورايوس أو نزارانوس، إما نسبة إلى الناصرة (نازارات في لغتهم)، أو إلى الكلمة الآرامية نصورية التي تعني المؤمنين أو الأنصار، وتدل على إحدى الطوائف المسيحية. والأغلب نسبة النصرانية إلى الناصرة. وأولئك الباحثون يعتقدون أن النصرانية كانت ديانة يهودية مسيحية، ثم لم تلبث أن انفصلت عن اليهودية، ودعت تلاميذ المسيح في أنطاكية بالمسيحيين على ما نقرأ في «العهد الجديد». ويعني ذلك أن النصرانية مرحلة وسيطة بين اليهودية والمسيحية، وأن المسيحية هي مرحلة الاستقلال عن اليهودية. ويذكر ابن خلدون أن مجْمع نيقية (سنة 325 م) أكد أن أتباع المسيح «جماعة قدسية مسيحية جاثليقية». 
ولعل هذا ما يعلل ضيق بعض المسيحيين بإطلاق صفة نصارى عليهم. أي أن هناك نزاعاً بين الاستعمال القرآني الذي اعتمدته الدول الإسلامية، والمصطلح الذي اعتمده المسيحيون أنفسهم، ليفرقوا بينهم وبين اليهود المسيحيين. وإنْ وصف يحيى بن ماري (ت 589 هـ) نفسه في مقاماته بـ«النصراني مذهباً»، واستعمل الأب لويس شيخو (ت 1927م) كلمة النصرانية في عناوين أربعة من كتبه، كما استعملها حبيب بن نقولا الزيات الدمشقي، بعد ذلك، في عنوان كتاب له، لكنْ لعل هذه التسميات كانت مراعاة للمصطلح السائد، لكون غالبية قراء العربية مسلمين، والكتاب يؤلَّف لجمهور القراء.
وكاد المسلمون يصفون كل علَم من الأعلام المسيحيين بالنصراني، وهذا لا يدل بالضرورة على أن ذلك العلَم اختار تلك الصفة لنفسه أو أنها تسمية لأسرته، بل هو اصطلاح إسلامي أيضاً؛ لكن اللافت أنهم وصفوا بعضهم بالمسيحي، فوصف ياقوتٌ الحموي ابن ماري السابق ذكره بذلك، ووصف أستاذ ابن سينا في الطب عيسى بن يحيى (ت 401 هـ) بالمسيحي الجرجاني، وكنّى عن طبيب الناصر لدين الله العباسي (ت 658 هـ) بابن المسيحي. وقد استعمل وصف المسيحي في الشعر العباسي أيضاً، فنسبوا إلى ابن طباطبا (ت 322 هـ) أنه وصف بعض الموائد بالمسيحية، فقال في ذلك:
قدْ قدموا فيها مسيحيةً أضْحتْ 
على أسْلافها نادمهْ
وتغزَّل الرقيق القيرواني، في القرن الرابع الهجري، بفتاة فقال:
مسيحيةٌ خوطيةٌ كلما انْثنتْ
تشكتْ أذى الزنار منْ دقة الْخصْر
فثمة استثناءات على الاستعمال الإسلامي الغالب، وإن متأخرة نسبياً، وهي تدل على شيوع كلمة مسيحي بين المسلمين، وأن مستعمليها لم يتقيدوا بالمصطلح القرآني، لأن مثل هذا الاستعمال قضية اجتماعية بحتة، وليست عقدية.
ومثل ذلك التمسك بلفظ جاهلي وجاهلية؛ فالقرآن الكريم لم يستعمل كلمة الجاهلية بوصفها تأريخاً لحقبة سبقت الإسلام، بل باعتبارها عقيدة وخلائق وعادات، فتحدث عن ظن الجاهلية بالله، أي اعتقادها به، وعن حكم الجاهلية، أي شرعها وأعرافها، وعن تبرج النساء الجاهليات، وعن الحمية الجاهلية؛ فالجاهلية مصدر صناعي لفعل جهل، يكاد يرادف معنى الجهل، لكنْ مع تضمينه معنى الهوية والفكر والسلوك الذي يعبّر عنه المصدر الصناعي عادة؛ فالعبارة القرآنية: «ظن الجاهلية» تعني ظن الجهل أو الجاهلين، وليس ظن العصر السابق للإسلام؛ وكذلك الأمر في عبارة «حكم الجاهلية» و«تبرج الجاهلية» و«حمية الجاهلية». يؤكد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: «إنك امْرؤٌ فيك جاهليةٌ» وذلك لأنه سابَّ رجلاً وعيّره بأمه؛ وقوله للسيدة عائشة رضي الله عنها: «لولا أن قومك حديثو عهْدٍ بالجاهلية» يعني: بالعقائد الوثنية. فالحديث يستعمل لفظة الجاهلية في الأمور الدينية والخلقية، غالباً، على نمط استعمال القرآن الكريم، لكنه يستعملها نادراً في الدلالة على الزمن السابق للإسلام، كقول ابن عباس رضي الله عنهما: «كان عكاظٌ وذو المجاز مَتْجَر الناس في الجاهلية». بيد أن الصحابة والمحدثين استعملوا عبارة «قبْل الإسلام» أيضاً، واستعمل أحدهم عبارة «في الجاهلية قبْل الإسلام». وهي عبارة تحتمل معنى وجود جاهلية قبل الإسلام وجاهلية بعده، كما تحتمل أن تكون شبه الجملة الثانية بياناً للأولى. وقد أخطأ بعضهم تفسير عبارة «الجاهلية الأولى»، فزعموا وجود جاهليتين قبل الإسلام، واضطربوا في تعيين زمن كل منهما، والحق أن المراد بالأولى هنا معنى القديمة، فالجاهلية قِدَمٌ والإسلام معاصرة.
والنتيجة أنه لا شيء يمنع من استعمال مصطلح مسيحي وعبارة «قبل الإسلام» وشبهها، بل لعل من المفضل استعمال مصطلح مسيحي للتفريق الذي أراده المسيحيون أنفسهم، ولو أن استعمال عبارة «قبل الإسلام» خطأ لوجب إهمال أهم موسوعة كتبت في موضوع العصر الجاهلي، وهي «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، للدكتور جواد علي ■