طه حسين.. أيقونة الفكر النقدي والتنويري العربي المعاصر

طه حسين.. أيقونة الفكر النقدي والتنويري العربي المعاصر

كان تنوير الأذهان من استراتيجيات محمد علي الأساسية في مشروعه الطموح لإقامة إمبراطورية عربية حديثة منفصلة عن الإمبراطورية العثمانية، قاعدتها مصر بحيث تكون خلال عشر سنوات (في نهاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر) القوة الخامسة في العالم اقتصادياً وعلمياً وصناعياً وعسكرياً بعد روسيا وبريطانيا وفرنسا والنمسا. نقرأ ذلك في رسالة وجهها ابنه إبراهيم باشا في عام 1833 إلى السلطان العثماني محمود الثاني قال فيها: «إن محاولة النهضة لا تبدأ بتزويد الشعب بالكتنيات أو البنطلونات الضيقة، وبدلاً من البدء بالملابس كان الأجدر بالباب العالي أن يهتم أولاً بتنوير الأذهان».

 

كانت البعثات العلمية التي أرسلها محمد علي إلى البلاد الأوربية المتطورة، خصوصاً فرنسا (تسع بعثات عدد أفرادها 319 طالباً في شتى الاختصاصات) هي التعبير العملي والعمود الفقري لتلك الاستراتيجية، وأرسل الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي (1801-1883) كمرشد روحي لبعض البعثات إلى باريس عام 1826، فكان انبهاره شديداً بما رآه في هذه «المدينة البهية العامرة بسائر العلوم الحكمية والفنون والعدل العجيب والإنصاف الغريب»، واستطاع أن يستوعب بسرعة، رغم خلفيته الأزهرية اللاهوتية، الفكر العلمي والتنويري الأوربي عند اصطدامه به، وأن يتفاعل معه تفاعلاً خلاقاً جعله يقول بمرارة: «إن الإسلام لولا نصرته بقوة الله سبحانه لكان كلا شيء بالنسبة لقوة الأوربيين وسوادهم وثروتهم وبراعتهم». وهي مقارنة يرددها في معظم مؤلفاته ليبيّن ضخامة التفاوت العلمي والحضاري بين الأوربيين المسلحين بالعلوم الحديثة والأفكار التنويرية، وبين المسلمين الذين يجترون علوماً تراثية عفا عليها الزمن لا نفع لها لحاضرهم أو لمستقبلهم. وإذا كانت القوى الكبرى يومئذ قد نجحت في إجهاض مشروع محمد علي السياسي (مؤتمر لندن 1840)، وتفكيك بناه الصناعية والعسكرية، إلا أن الفكر التنويري الذي حمل لواءه الشيخ رفاعة الطهطاوي وأفراد البعثات العلمية وخريجو مدرسة الألسن والمدارس العلمانية العامة الابتدائية والثانوية والمهنية المجانية التي أنشأها محمد علي في مصر على الطراز الأوربي، وخصص لطلابها رواتب شهرية وأسكنهم وأطعمهم على حساب الدولة، وكذلك الأثر الثقافي الكبير لمطبعة بولاق الشهيرة، كان كالشعلة الموقدة التي سطعت أنوارها على مصر والعالم العربي، مشرقه ومغربه، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فأثمرت حركات فكرية وسياسية وطنية واجتماعية ودينية متنورة ساهمت في تخليق طبقة وسطى مصرية وعربية جديدة، كان محمد علي يطمح بأن تلعب الدور الريادي نفسه الذي لعبته الطبقة الوسطى في نهضة الدول الأوربية الحديثة وتطورها، فيما لو نجح مشروعه السياسي. وعند وفاته عام 1849 لم تكن هذه الطبقة قد تبلورت بعد، رغم أن الطهطاوي جسّد بفكره التنويري البشائر الأولى لنهضتها، وعمل على ترسيخ الانتماء الوطني بدلاً من الولاء الديني. ومنذ ستينيات القرن التاسع عشر بدأت هذه الطبقة تنمو وتزدهر بحيث لعبت دوراً رائداً في ما سمي «عصر النهضة العربية الحديثة».

تبديد الظلام
في هذه الأجواء ولد طه حسين (اسمه طاهر في وثيقة الولادة) في 14 نوفمبر عام 1889 في قرية صغيرة من قرى صعيد مصر الأوسط لعائلة كبيرة العدد من زواجين (13 ولداً، طه سابعهم)، تغلب عليها البساطة والتديّن والشح المادي. كان الحدث الأبرز في طفولته إصابته بالعمى في سن الرابعة تقريباً، ما ولّد له صدعاً نفسياً عميقاً أذاقه ألواناً من الشقاء والتعاسة في بعض مراحل حياته، إلا أن ذلك لم يحوله إلى يائس ومتبرّم بالحياة وعازف عنها، كما يحدث عادة لمعظم العميان، كالمعري مثلاً، بل أقبل عليها بنهم، مقتحماً مشكلاتها، ساعٍ إلى تبديد ظلماتها وتغيير ما يستطيع من ظروفها، يحركه ذكاء حاد وإرادة صلبة وطموح بغير حدود.
أحيط طه الضرير بعناية خاصة من والديه، خصوصاً من والده الموظف الصغير في شركة للسكر، والذي كان على جانب من التعليم والانفتاح والحس الإنساني، فبذل جهداً كبيراً لتعليم أبنائه رغم ضائقته المادية، فأرسل طه إلى كتّاب القرية ليتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وشجعه على حفظ القرآن وتجويده عند شيخ القرية، فحفظه كاملاً في سن التاسعة، وزودته مجالس والده مع أصدقائه بثقافة من الأدب الشعبي المتغلغل في بيئته، كقصص الغزوات والفتوحات وحكايات ألف ليلة وليلة وأخبار عنترة بن شداد والظاهر بيبرس، وأخبار الأنبياء والنساك والصالحين، وكتب الوعظ والإرشاد والسنن، وكان لهذه الثقافة في ما بعد أثرها في أسلوبه الأدبي، وفي عرضه لبعض فصول التاريخ الإسلامي.
لم يتوقف طموح والده عند هذا الحد بعد أن لاحظ ذكاء ابنه المتقد، فكان قرار إرساله في عام 1902 إلى القاهرة للدراسة في الأزهر أسوة بابنه الأكبر أحمد، فسكنا في غرفة متواضعة في حي الحسين، وأفادته في التعرف إلى بعض تلامذة الشيخ محمد عبده الأزهريين زملاء شقيقه أحمد.
كان الأزهر عند التحاق طه حسين به لايزال مؤسسة تعليمية من عصور الانحطاط في مناهجه وموضوعاته، وقلعة حصينة للتخلف المعرفي عصيّة على الاختراق، حتى أن محمد علي لم يحاول إصلاحه في مشروعه التحديثي لمصر، بل تركه يواجه مصيره أمام المدارس المدنية التي أنشأها، لاعتقاده أن مثل هذا الإصلاح الضروري لا يمكن أن تفرضه السلطة السياسية، بل يجب أن ينبع من داخل الأزهر نفسه ليتمكن الأزهريون من المساهمة في تقدم الوطن والعمل في جهاز الدولة الحديثة، وهذا ما قام به بعض رجالات الأزهر المتأثرين بالفكر التنويري الأوربي وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده.

الأزهر والتنوير
وجه الطهطاوي نقداً إلى محمد علي لأنه لم يعمم أنوار العلوم على الجامع الأزهر بل تركه يجترّ معارف بالية في علوم الشرع واللغة. أراد الطهطاوي أن يعود الأزهر إلى سابق عهده قبل عصور الانحطاط، معقلاً علمياً للحضارة الإسلامية تدرّس فيه علوم الطبيعة والطب والرياضيات والفلك والهندسة وعلم المواليد والمعادن، ولكن بوجوهها الحديثة، كما توصل إليها الأوربيون، ولم يجد مانعاً شرعياً يحول دون ذلك لأن الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي كانت حضارة علمية منفتحة على أفكار الحضارات الأخرى، وكل حوار أو تفاعل مع الغرب وحضارته مشروع، بل واجب من أجل تطور المسلمين ومستقبلهم. وأشار الطهطاوي إلى جهود علماء المسلمين في الموضوعات العلمية المذكورة وإلى إفادة الأوربيين منها في العصور الحديثة، كما أن بعض المشايخ مشهود لهم بسعة معارفهم العلمية كالشيخ أحمد الدمنهوري الذي أصبح شيخاً للأزهر، والشيخ عثمان الورداني الفلكي، والشيخ حسن العطار، فهؤلاء لم يكتفوا بدراسة علوم اللغة والفقه وتلخيص المتون أو شرحها، بل تجاوزوها إلى دراسة العلوم الرياضية والطبيعية كما كانت معروفة في أيامهم، وهي موضوعات برع فيها العرب وقدموا دراسات قيّمة بموضوعاتها.
أما الشيخ محمد عبده فقد دعا إلى دراسة الحقائق الدينية على أسس عقلانية، وانصب اهتمامه وتلامذته على تحطيم النماذج التقليدية للتفكير الديني من دون تعريض مبادئ العقيدة لأي نقد حقيقي، إلا أن إسهام عبده الأكبر في هذا المجال تمثل في محاولة إصلاحه مؤسسات التعليم الدينية وعلى رأسها الأزهر، إذ اعتقد كما اعتقدت البورجوازية والإنتلجنسيا العربية يومذاك بأن الكثير من مشكلات مصر والعرب والمسلمين مصدرها الجهل والأمية، وأن حلها الجذري يكمن في نشر التعليم الحديث وإدخاله إلى الأزهر بحيث يلغي المفاهيم التقليدية المتحكمة بعقول أهله كإرث من العصور الوسطى، ويدخلهم إلى آفاق العالم الحديث وحضارته، إلا أن هذه الجهود قوبلت بمعارضة شديدة من جانب الشيوخ المحافظين.
اكتشف طه حسين بعقله المتوقد هذا القصور في تعليم الأزهر منذ الدرس الأول (الأيام، ج 1، ص 144)، وأصيب بخيبة أمل شديدة عندما ترامت إلى مسامعه مواقف، شيوخ الأزهر وطلابه، من مشروع الإمام محمد عبده لإصلاحه وتطويره.
وكان طه قد حضر في الأزهر آخر دروس تفسير القرآن على الإمام محمد عبده قبل وفاته عام 1905 فأعجب به إعجاباً شديداً. إلا أن بارقة أمل لاحت في أفقه الدراسي عند التقائه، وهو في السنة الرابعة بالأزهر، بالشيخ الضرير حسين أحمد المرصفي (ت1889) أحد الأزهريين المتنورين، وحضوره دروسه في الأدب العربي فوجد فيه الأستاذ الذي يرضي طموحه ويعبر عن أفكاره، والناقد الذي يوجه سهامه الحادة للأزهر ورجاله، ويتحدث في حرية مطلقة عن كل إنسان وعن كل موضوع. وفي صف المرصفي التقى لأول مرة بأحمد حسن الزيات والشيخ محمود الزناتي فشكل معهما فريقاً ناشطاً لمهاجمة الأزهر، ما أزعج أهل السلطة الأزهريين وطلابهم خصوصاً بعد تصريح طه حسين أن الحجّاج حين قال: «والناس يطوفون بقبر النبي ومنبره، إنما يطوفون برمة وأعواد» لم يكفر بل أساء الأدب. إثر ذلك استدعي الثلاثة إلى مكتب شيخ الأزهر الذي اتهمهم بالكفر ومنعهم من حضور الدروس. أثار هذا الموقف طه حسين فكتب مقالاً نارياً ضد الأزهر وشيوخه، وحمله إلى لطفي السيد محرر جريدة «الجريدة» لنشره، إلا أن لطفي السيد رفض نشر المقال وتوسط لهؤلاء الفتيان المشاكسين عند شيخ الأزهر فاستأنفوا دراستهم، وكان ذلك أول لقاء بين الفتى طه حسين والكاتب والصحفي أحمد لطفي السيد، فأخذت علاقاته تتوطد به وبالشيخ المتنور عبدالعزيز جاويش، كما بدأ يتعرف على بيئة جديدة من المتعلمين تعليماً مدنياً أمثال محمد حسين هيكل ومحمود عزمي وكامل البنداري، ويرجع الفضل إلى أحمد لطفي السيد في تعريفه بالفلسفة اليونانية وتشجيع جهوده الأولى في مجال الصحافة بنشر بعض مقالاته في «الجريدة» ومن رد هجمات الخصوم عليه في ما بعد.
أما الشيخ جاويش الذي درس في الأزهر سنتين قبل انتقاله إلى دار العلوم للتخصص بالتربية، وأصبح أستاذاً للغة العربية في جامعة أوكسفورد ومكافحاً وطنياً، وأحد مؤسسي التعليم الحديث في وزارة المعارف العمومية، فقد كان له أيضا دور في الاتجاهات الفكرية لطه حسين، فشجعه على المضي في انتقاد الأزهر والأزهريين لأنهم آفة مصر الذين يحولون بينها وبين التقدم». وأوحى لطه بحسنات السفر إلى أوربا للدراسة، ونشر له بعض المقالات النقدية في صحف الحزب الوطني، وشجعه على تعلم مبادئ اللغة الفرنسية في مدرسة أنشأها بالقرب من الأزهر. وعندما فتحت الجامعة المصرية الأهلية أبوابها عام 1908، وكان الشيخ محمد عبده من أكبر دعاتها، شرع طه حسين حضور بعض دروسها كطالب غير ملتزم، وما لبث أن تسجل فيها عام 1910 بقسم الآداب كطالب رسمي، وقطع علاقته بالأزهر نهائياً عام 1912 بعد رسوبه في امتحان العالمية بتوجيه من شيخ الأزهر حسّونة النووي بسبب مشاكساته وانتقاداته. 
في هذه الأثناء كان لايزال مترددا في ترك الأزهر كما يقول «كنت أريد أن أكون شيخاً من شيوخ الأزهر، مجدداً في التفكير والحياة على نحو ما كان يريد المتأثرون بالشيخ محمد عبده، أستعين في ذلك بما أسمع في الجامعة، وما أقرأ من الكتب المترجمة، وما أجد في الصحف، وما ألتقط من أحاديث المثقفين، فأصبحت وأنا أشد الناس انصرافاً عن الأزهر ونفوره من دروسه وشيوخه، وحرصاً على أن أهجر مصر وأعبر البحر إلى بلد من هذه البلاد التي يطلب فيها العلم الواسع والأدب الراقي وتتغير فيها الحياة من جميع الوجوه» (كتاب أديب ص 42).

مرحلة الانفتاح
بدأت في الجامعة المصرية مرحلة جديدة ومفصلية في حياته وتحصيله العلمي وسط فضاء ثقافي جديد يختلف في موضوعاته ومناهجه وأساتذته عن الفضاء الأزهري المنغلق، فدرس موضوعات جديدة على أساتذة مصريين ونخبة من المستشرقين الأوربيين، في طليعتهم كارلوس نللينو Nallino واجناس جويدي I. Guidi ولويس ماسينيون، ودافيد سانتيانا D. Santillana أستاذ الفلسفة الإسلامية الذي كان له تأثير عميق في نفسه. وفي رحاب هذه الجامعة أعد رسالته عن «تاريخ أبي العلاء المعري»، التي نوقشت أمام الجمهور في 15 مايو عام 1914 مع موضوعين إضافيين اختارهما: الجغرافيا عند العرب والروح الدينية عند الخوارج، من دون الحصول على الليسانس أو الماجستير وحتى من دون أن يكون له أستاذ مشرف كما في الجامعات الأوربية، وناقشته على مدى ساعتين وسبع دقائق لجنة تحكيم مؤلفة من ثلاثة أساتذة من الجامعة: محمد الخضري رئيساً وعضوية محمد الهندي ومحمود فهمي ومندوبين من نظارة المعارف. وبعد مداولة اللجنة نال درجة جيد جداً في الرسالة، ودرجة ممتاز في الموضوعين الإضافيين.
كانت هذه الدكتوراه أول درجة علمية تمنحها الجامعة وأول رسالة تقدم إليها. أحدث الكتاب (الرسالة الجامعية) ضجة كبرى في الأوساط العلمية وفي الصحف، وكاد يثير «مشكلة خطيرة» عندما اتهم أحد أعضاء الجمعية التشريعية (عبدالفتاح الجمل عن بور سعيد) مؤلف الكتاب بالإلحاد طالباً حرمانه من حقوق الجامعيين. لكن تدخل سعد زغلول رئيس الجمعية التشريعية يومئذ حال دون استمرار إثارة هذا الموضوع. وعلى الرغم من ذلك، حصل طه حسين على منحة من الجامعة لدراسة العلوم التاريخية في فرنسا التي توجه إليها في نوفمبر عام 1914 وحل في مدينة مونبيلييه التي أمضى فيها عشرة أشهر تعلم خلالها الفرنسية واليونانية واللاتينية، وحضر في جامعتها دروساً في علم النفس والتاريخ الحديث والأدب الفرنسي، وتعرف إلى سوزان بريسو الفتاة التي ستكون له قارئة ومعينة ثم زوجة. إلا أن أزمة مالية حلت بالجامعة المصرية اضطرتها إلى استدعاء مبعوثيها في سبتمبر عام 1915، لكن مساعدة السلطان حسين للجامعة سمحت بإعادتهم، ومنهم طه الذي توجه إلى باريس. وتسجل في جامعة السوربون في قسم التاريخ ليتابع دراسة الليسانس فكان من بين أساتذته لوسيان ليفي بريل L.L. Bruhl في الفلسفة وخصوصاً في محاضراته عن ديكارت، وإميل دوركهايم في علم الاجتماع، وكان إلى جانب ذلك يحضر في الكوليج دوفرانس دروس تفسير القرآن على المستشرق بول كازانوفا، وأنهى دراسة  الليسانس بنجاح في يوليو عام 1917، وكان أول مصري يظفر بهذه الشهادة. وفي 9 أغسطس من العام نفسه اقترن بالآنسة سوزان «ذلك الصوت العذب الذي يقرأ عليه روائع الأدب الفرنسي وأوليات التاريخ اليوناني والروماني ويعينه على درس اللاتينية» والذي لعب دوراً ضخماً في حياته (الأيام، ج 3، ص 101). وخلال هذه السنة نفسها بدأ بتحضير رسالة الدكتوراه بإشراف إميل دوركهايم من أتباع سان سيمون وأحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث، موضوعها: دراسة تحليلية ونقدية لفلسفة ابن خلدون الاجتماعية (Étude analytique et critique de la philosophie sociale d’Ibn Khaldoun).
إلا أن وفاة دوركهايم في 15/11/1917 جعلت سيلستان بوجليه C. Bouglé يخلفه في متابعة الإشراف على الرسالة التي ناقشها طه حسين أمام لجنة من الأساتذة في 12 يناير عام 1918 ومنح على أثرها شهادة الدكتوراه برتبة الشرف الممتازة، كما منحته الكوليج دو فرانس بسببها جائزة سيناتور Prix Senateur.
وفي كلمته التمهيدية للأطروحة يذكر طه دوافع اختياره موضوعها، فيقول: «يحتفظ تاريخ الآداب العربية منذ عصر الجاهلية إلى عصرنا هذا بذكر رجلين يمتاز كل منهما بابتكار خارق لم يتصف به أحد من المسلمين، أساتذة كانوا أم تلامذة... أولهما أبو العلاء المعري الذي استحدث في أدبنا صنفين لم يُنسج مثلهما منذ عهده، إذ استعرض في مجموعة شعرية اسمها «اللزوميات»، فلسفة باهرة تفيض زهداً وتشاؤماً حتى قيل إنه «لوكريس Lucrèce» العرب، وتخيل لنا في شبه قصة اسمها «رسالة الغفران» التي تذكرنا قراءتها بالكوميديا الإلهية، رحلة إلى العالم الآخر وصف لنا فيها الجنة وصفاً قوياً رائعاً. أما العمل الثاني فطبيعته تخالف عمل الأول تمام الخلاف، وقد لا يجب أن نصفها بالعبقرية، كان ابن خلدون عقلية عملية لم تمكنه حياته الدبلوماسية، التي مزجت أيما امتزاج بالدسائس من تلك الحياة ذاتها، ومن دراسته لتاريخ الإسلام ومختلف النظريات الفلسفية التي عرفها المسلمون دراسة عميقة مستفيضة، فلسفة جديدة موضوعها: «المجتمع وتاريخه». وفي يونيو من العام نفسه نال طه حسين دبلوم الدراسات العليا في التاريخ بدرجة ممتاز، وهو الدبلوم الذي تطلب منه الكثير من الجهد لإتقان اللغة اللاتينية الضرورية له.

رحلة باريس
بعد ثلاثة أشهر عاد إلى مصر، ومثلما كانت باريس مرحلة تحول فكري جذري للطهطاوي، كذلك كانت بالنسبة لطه حسين، فباريس عنده «تكاد تختصر العالم الإنساني باختلاف أزمنته وأمكنته»، وعلى الرغم من الصعاب التي واجهها في العام الدراسي الأول، سواء من الناحية المادية أو من ناحية العزلة التي عاشها بسبب آفته البصرية و بسبب ظروف الحرب المدمرة التي كانت تعانيها فرنسا وأوربا في تلك الفترة، فقد عاش في باريس كالسجين بحيث لم يخرج قط إلى أي ضاحية من ضواحيها، بل انصبت جهوده على العمل والاطلاع على منابع الأفكار التي كانت تضج بها فرنسا وأوربا، خصوصاً تلك التي أشاعها ديكارت وفلاسفة عصر التنوير وأدت إلى ثورة في المفاهيم الفكرية والاقتصادية الاجتماعية وفي دراساتها ومناهجها التي حاول طه حسين محاكاتها في محاضراته الجامعية ومقالاته الصحفية بعد تعيينه أستاذاً في الجامعة المصرية للتاريخ اليوناني والروماني القديم ( كرسي أنشئ خصيصاً له واستمر فيه حتى عام 1925،) وهو العام الذي تغير فيه اسم الجامعة إلى جامعة فؤاد الأول الرسمية، وعين أحمد لطفي السيد رئيساً لها، وطه حسين عضواً في مجلس عمدتها ومحمد حسين هيكل وإسماعيل مظهر ومنصور فهمي أساتذة فيها. كما أنه العام الذي صدر فيه كتاب الشيخ علي عبدالرازق الناري «الإسلام واصول الحكم» الذي قيل إن صديقه طه حسين كان وراءه، كما أنه العام الذي عيّن فيه طه حسين أستاذاً لآداب اللغة العربية، فأبدع في تدريسها، وأصبح من أنجح أساتذة الجامعة وأكثرهم شعبية بين الطلاب وأخلدهم أثراً في نفوسهم.
وفي عام 1926 أصدر كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي أحدث ضجة كبرى في البرلمان المصري والجامعة المصرية والأزهر والصحافة وتاريخ الفكر العربي في وقت واحد. فقد تصدى فيه بأسلوبه العقلاني الديكارتي للروايات القديمة التي جعلها المحافظون من المقدسات التي لا يمكن التعرض لها، فرموه بالكفر والإلحاد والعمالة، ما جعله محط أنظار الأوساط الدينية والثقافية والسياسية والصحافة المصرية، لكن ذلك لم يمنع إدارة الجامعة من تعيينه عميداً لكلية الآداب عام 1928 (ليوم واحد لأسباب سياسية)، وما لبث أن أعيد انتخابه عميداً في 10 نوفمبر عام 1930، إلا أنه أثار في مارس عام 1932عاصفة سياسية جديدة عندما رفض بعناد طلب رئيس وزراء مصر (إسماعيل صدقي) منح الدكتوراه الفخرية من الجامعة لعدد من السياسيين المصريين، احتراماً منه لاستقلالية الجامعة وشهاداتها، فعزل من منصبه ولزم منزله، بعد عزوفه عن جميع المناصب الأخرى التي عرضت عليه.
وفي 29 مارس 1932 أحيل على التقاعد الإجباري وتفرغ خلال فترة هذا العزل للكتابة في الصحف، ليعبر عن أفكاره من ناحية وليؤمن لعائلته لقمة العيش من ناحية أخرى، فكتب في جريدة « السياسة» وفي «كوكب الشرق» الوفدية، وتملك جريدة «الوادي» ورأس تحريرها إلى أوائل ديسمبر عام 1934 عندما أعادته الجامعة إلى التدريس تحت ضغط شعبي كبير قاده أساتذة الجامعة وطلابها، وفي هذه الفترة أطلق عليه لقب «عميد الأدب العربي»، ثم أعيد انتخابه في 27 مايو عام 1936 عميداً لكلية الآداب مرة ثالثة حتى عام 1939 عندما عين مراقباً عاماً للثقافة في وزارة المعارف، وفي أكتوبر عام 1942 عين مديراً لجامعة فاروق الأول في الإسكندرية فور إنشائها (جامعة الإسكندرية) بعد إشرافه على تأسيسها حتى بلوغه سن التقاعد في 16 أكتوبر عام 1944. وفي 13 يناير عام 1950 عين وزيراً للمعارف، وكان من أهم إنجازاته في الوزارة إنشاء جامعة عين شمس، وقرار مجانية التعليم الثانوي والفني وإنشاء عدد كبير من المدارس في كل أنحاء مصر، والإكثار من البعثات إلى الخارج وتوحيد نظم التعليم ومجانيته، ما أتاح لملايين المصريين سنويا فرص التعليم المجاني وانتقالهم من غياهب الجهل والأمية والفقر إلى رحاب نور العلم والعيش الكريم. وفي العهد الناصري أخذ بالكثير من آرائه التربوية كافتتاح العديد من الجامعات الجديدة وتحويل الأزهر إلى جامعة حديثة. وفي عام 1940 انتخب عضواً بمجمع اللغة العربية في القاهرة، وأصبح في عام 1960 نائباً لرئيس المجمع ثم رئيساً له في عام 1963 إثر وفاة رئيسه أحمد لطفي السيد وبقي في رئاسته حتى وفاته عام 1973، كما كان عضواً بمجامع علمية عربية وأجنبية ورئيساً للجنة الثقافية بجامعة الدول العربية وحصل على أرفع الأوسمة من بعض الدول العربية والأجنبية وعلى الدكتوراه الفخرية من جامعات مدريد وكمبردج وأثينا وروما وليون ومونبيلييه، وقبل وفاته بيوم واحد أي في 27 أكتوبر/عام 1973 منحته الأمم المتحدة جائزتها لحقوق الإنسان.
كانت القضايا التعليمية والتربوية والثقافية حجر الزاوية في حياة طه حسين وفكره، لاعتقاده أن التربية والاستقلال السياسي والديمقراطية موضوعات متصلة ببعضها البعض لا يمكن فصل أحدها عن الآخر. وكان لا يكف عن زرع الأفكار الجديدة في كل مركز تبوأه وفي كل كلمة خطها قلمه، وما زال كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» الذي وضعه عام 1938 من أهم المشروعات التعليمية في مصر، ويبدو في بعض فصوله التربوية سابقاً لعصره.

عصر المجددين
كان طه حسين أحد أعضاء جماعة جديدة من المفكرين المصريين والعرب (خاصة اللبنانيين والسوريين) الذين اعتنقوا نمطاً علمياً في التفكير هدفه تحرير العقل العربي من الأسلوب التقليدي العقيم في النقد ودراسة الأدب العربي وتراثه. تصدت هذه الجماعة التي أطلقت على نفسها اسم «المجددون» لجماعة أخرى من التقليديين ودارت بين الجماعتين رحى حرب فكرية عنيفة على صفحات الجرائد والكتب.
برز هؤلاء المجددون في نهاية الحرب العالمية الأولى، فكانوا امتداداً للاتجاه التحديثي العلماني الذي كان أحمد لطفي السيد أهم المعبرين عنه. وأتاحت جريدة «الجريدة» لسان حزب الأمة وغيرها من الصحف والمجلات (كالمقتطف والهلال والرسالة والمصور) لهؤلاء الكتاب الناشئين ذوي الثقافة الغربية فرصة التعبير عن أفكارهم على صفحاتها وفي طليعتهم طه حسين ومحمد حسين هيكل وإسماعيل مظهر. وكان لإنشاء الجامعة الأهلية المصرية وأساتذتها من المصريين والمستشرقين الأوربيين دور كبير في بث الفكر التنويري في عقول طلابها الذين لم تسمح لهم الظروف لتلقي العلم في الجامعات الأوربية.
انطلقت هذه الحركة التجديدية التنويرية ما بين بداية العقد الثاني من القرن العشرين ونهايته وساعد في تعزيز انطلاقتها عاملان مهمان، الأول تأسيس الحزب الدستوري الحر الذي شجع الأفكار الليبرالية ووثق علاقاته بدعاتها من المثقفين في محاولة لصد نفوذ حزب الوفد، وكانت جريدة «السياسة» التي رأس تحريرها محمد حسين هيكل هي الناطقة باسم ذلك الحزب. فأصدر ملحقاً أسبوعياً لجريدته خصصه للقضايا الثقافية ونشر أفكار التجديديين التنويريين ليقرب بينهم وبين حزبه من ناحية، ولتشجيعهم على الكتابة في صحيفته من ناحية أخرى. أما العامل الثاني فهو إعادة تنظيم الجامعة المصرية عام 1925 وإلحاقها رسمياً بوزارة المعارف.
كان على طه حسين الزعيم الحقيقي لهذه الحركة وعميد الأدب العربي في الجامعة أن يخوض معركة ضارية مع التقليديين والمحافظين وأن يواجه النصيب الوافر من هجماتهم بسبب آرائه الجريئة وأسلوبه المميز واقتحامه موضوعات كانت تعتبر حتى ذلك الحين من المقدسات التي لا يمكن مسها أو الخوض فيها. وحين عاد من فرنسا كان قد تبلور في ذهنه مشروع ثقافي هدفه إخراج بلاده من مجاهل القرون الوسطى والعصر اللاهوتي وإدخالها إلى آفاق العصر العلمي الحديث. وكانت نقطة الانطلاق في هذا المشروع فكرة أساسية استقاها من فيلسوف المجتمع الصناعي الأوربي «سان سيمون» ومن أستاذه دوركهايم، فحواها « أن أمور الحكم الصالح المنتج الذي يحقق العدل ويكفل رقي الشعب ويتيح للإنسانية أن تتقدم إلى الأمام يجب أن تؤول إلى العلماء الذين يستطيعون الملاءمة بين نتائج العلم على اختلافها وبين حاجات الناس وطاقتهم واستعدادهم للتطور والرقي».
أدى إيمان طه حسين العميق بهذه الفكرة إلى تصور مشروعه الذي يرتكز أساساً على التربية والتعليم ويرمي إلى هدفين أساسيين، الأول إقرار برنامج تربية مدنية حديثة لطلاب المدارس المصرية، والثاني تكوين نخبة مستنيرة متشبعة بأفكار الحضارة الغربية الحديثة ومفاهيمها لقيادة المجتمع المصري وعصرنته. ولتحقيق الهدف الأول كان لا بد من تعميم التعليم الابتدائي وإلزاميته باعتباره حقاً لكل مواطن والوسيلة الفعالة لتحويل مصر إلى مجتمع ديمقراطي حديث يتمتع فيه جميع المواطنين بفرص متكافئة، ثم توحيد مناهج التعليم الثانوي بإلغاء الفوارق بين التعليم الرسمي والديني والخاص والأجنبي, ما يؤدي إلى خلق ذهنية مصرية متجانسة ومنسجمة مع روح العصر ومتطلباته، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق الدولة، وتأسيس المدارس الوطنية، ومراقبة التعليم غير الرسمي حتى لا يتعارض مع أهداف التربية الوطنية. كما يجب التركيز على تعليم اللغات الأجنبية الحية لأنها مفتاح معرفة العالم الحديث وتطوراته. أما التعليم العالي، أي الجامعي، فيجب ضمان حريته المطلقة المادية والأكاديمية حفاظاً على استقلالية البحث العلمي ونتائجه, لأن الجامعة يجب أن تكون قبل كل شيء مجتمعاً فكرياً قائماً على المودة والصداقة والتعاون والاحترام.
إن ربط طه حسين التعليم بالديمقراطية هو استئناف لموقف عام للمفكرين العرب منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الذي يعتبر النظم السياسية الاستبدادية التي خضع لها المسلمون والعرب زمناً طويلاً هي السبب الرئيس لتخلفهم، أي إن مشكلة التخلف عندهم سياسية ولا يمكن حلها إلا عن طريق التربية والتعليم واستبدال النظم الاستبدادية بنظم ديمقراطية مستندة إلى دساتير، وبذلك يتحقق مجتمع مصري وعربي جديد على الأسس التي قامت عليها المجتمعات الأوربية الحديثة، فالحضارة الأوربية كما يعتقد طه حسين أصبحت نموذجاً عالمياً ينبغي الاقتداء به للتخلص من أمراض التخلف والانحطاط، وبالتالي يجب الولوج إلى هذه الحضارة  من أصولها بدل الاقتداء بها سطحياً، وما عدا ذلك إضاعة للجهد والوقت والمال. وقد أتيح لطه حسين أن يحقق الكثير من بنود مشروعه من خلال المراكز المهمة التي تولاها أو من خلال مؤلفاته وترجماته ودروسه الجامعية ومقالاته الصحفية، وأحاديثه الإذاعية. وقد اعتبر هيمنة الفكر اللاهوتي الغيبي على عقول العرب والمسلمين من أهم العقبات أمام مشروعه، لذلك كان اقتحام هذا الفكر وتفكيكه ونقده من أهدافه الرئيسية. عبّر عن ذلك بجرأة في كتابه «في الشعر الجاهلي»، بعد عام من صدور كتاب الشيخ علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» الذي حاول هو الآخر نقد الفكر اللاهوتي الإسلامي وتراثه. وإذا كان الهدف الحقيقي من كتاب عبدالرازق الفصل بين الدين والدولة، فإن هدف طه حسين في كتابه المذكور كان الفصل بين الدين والعلم، وهما هدفان أساسيان لعلمنة المجتمع وتصدع قيم العقل التقليدي عند السلفيين. فالخصومة بين العلم والدين كما يقول طه حسين أساسية وجوهرية « لأن الدين يرى في نفسه الثبات والاستقرار، ولأن العلم يرى لنفسه التغير والتجدد. ولكن المسألة في حقيقة الأمر أن نعرف هل كتب على الإنسانية أن تشقى بالعلم والدين أو أنها تسعد بالعلم والدين؟ «أما نحن فنعتقد أن الإنسانية تسعد بالعلم والدين جميعاً» (كتاب من بعيد، ص 228 وما بعدها).

منجزات التنوير
يعتبر هذا الاقتحام للمقدسات الإسلامية حدثاً بالغ الأهمية في مجتمع ما زال يعيش في مرحلة التشبع الديني التي ظلت في منأى عن النقد العقلاني منذ ظهورها قبل خمسة عشر قرناً بسبب هالة القداسة التي أحيطت بها.
لقد رفض طه حسين الاعتراف بالتقييم التاريخي للشعر الجاهلي اعتماداً على المنهج الديكارتي التحليلي النقدي الذي من قواعده الأساسية «أن يتجرد الباحث من كل شيء يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلواً تاماً». وهذا المنهج لا يستخدم فقط في العلم والفلسفة, لكنه عند طه حسين منهج للتغيير الاجتماعي الذي يبدأ بمواجهة الجمود الثقافي وتحطيم «القيود الثقيلة التي أمسكت بأيدينا وأرجلنا ورءوسنا لتحول بيننا وبين الحركة الجسمية الحرة، وتحول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة أيضاً». (في الأدب الجاهلي، ص 63، 68). والمعروف أن الطبقة الوسطى في أوربا كانت في بداية تكوينها تجد في المنهج الديكارتي تعبيراً عن تطلعاتها لأن التراث بالنسبة إليها كان في الأساس تراث الطبقة الأرستقراطية المتحالفة مع رجال الكنيسة، أي أن التراث كان داخلاً في عملية الصراع الاجتماعي الذي كان محتدماً يومئذ داخل المجتمع الأوربي بين الطبقة الأرستقراطية واللاهوتية من جهة والطبقة البورجوازية الناشئة من جهة أخرى. أما طه حسين فكان كغيره من جيل الرواد يعبر عن الاحتياجات الفكرية الضرورية للطبقة البورجوازية المصرية والعربية الناشئة كي تستطيع مواجهة الفكرين الإقطاعي والديني السلفي الراسخين في قلب المجتمع المصري والعربي ووجدانه.
لا نستطيع في صفحات قليلة أن نستعرض كل إنجازات طه حسين التنويرية نظراً لوفرة إنتاجه الفكري (42 كتابا في التاريخ والأدب و11 كتابا مترجما و19 كتابا من القصص والروايات و1481 مقالا في المجلات والصحف) ولوفرة المعارك التي خاضها من أجل حرية الفكر وعدالة الحياة وتطور المجتمع المصري والعربي وتخليصه من براثن القيم التقليدية السلبية التي ما تزال تمسك بمساحات كبيرة من عقولنا حتى الآن وترمينا في متاهات التخلف والانحطاط، وتربط دائما بين التجديد والإلحاد. فالمكانة المرموقة التي احتلها طه حسين في تاريخ الفكر العربي المعاصر لم ترتكز على جهوده وتضحياته في سبيل تنوير الأذهان وحرية البحث والفكر وحدها, ولا لكونه محاضراً فذاً وأستاذاً جامعياً قديراً عميق الأثر في أجيال عديدة من الطلاب والباحثين، ولا في إنجازاته في ميدان الأدب وحده أو التاريخ وحده أو التربية وحدها, وإنما ترتكز على كل هذه الأسباب لتجعل منه ركناً رئيسياً من أركان النهضة الفكرية العربية المعاصرة، وأحد أبرز الباحثين العلميين العرب الذين تجرأوا على اقتحام عالم الأفكار التراثية  المقدس وتسليط النقد العقلاني عليها لإظهار حقائقها، وتمهيد الطريق أمام حركة فكرية علمانية ضرورية الوجود لنهضة المجتمع العربي وتطوره من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة العلمية التي يعيش الغرب في رحابها منذ القرن السابع عشر وفتحه للأدب والفكر العربيين آفاقاً عالمية وإنسانية جديدة بحيث أصبح يعد اليوم في الدوائر الثقافية العالمية واحداً من أبرز رجالات الثقافة الإنسانية ■