النــهــضــة الأوربيـــة بين السلطان العثماني والأمير تيمور

النــهــضــة الأوربيـــة بين السلطان العثماني والأمير تيمور

عند العاشرة من صباح الثامن والعشرين من يوليو من العام 1402م، وإلى الشرق من مدينة أنقرة، في هضبة الأناضول، تواجه كل من سيد فاتحي آسيا، تيمورلنك، والسلطان العثماني الذي دوّخ الأناضول، بايزيد الملقب بالصاعقة، سقط على أثرها «سيف الإسلام» بايزيد أسيراً بيد «سوط الله» تيمورلنك.

 

وضع سيف الإسلام في القفص، كما نقل ابن عربشاه واصفاً حال السلطان العثماني وهو في الأسر: «ووقع ابن عثمان في قنص، وصار مقيداً كالطير في القفص».. وجعل (تيمورلنك) يحضر ابن عثمان كل يوم بين يديه، ويلاطفه ويباسطه ويترقق إليه ويسخر منه ويضحك عليه. ويضيف ابن عربشاه «... إلا أن تيمورلنك أقام مأدبة الانتصار وأحضر إليها بايزيد، وليزيد في إذلاله جعل السقاة جواريه وعامتهم حرمه وسراريه.. فاسودت الدنيا في عينه.. وتصدع قلبه، وتضرّم لبه، وتزايد كمده، وتفتت كبده..» ليفارق بعدها سلطان العثمانيين الحياة خلال الأسر.
ترى ما الذي دفع بـ «سوط الله» تيمورلنك، على مقاتلة «سيف الإسلام» بايزيد، هذا الأخير الذي كان الخطر الأول على أوربا، حيث استطاع سلطان العثمانيين بايزيد وفي خلال سنوات قليلة، توجيه الضربات المتتالية إلى الإمبراطورية البيزنطية، التي بدأت تلفظ أنفاسها، مما اضطر الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني إلى مغادرة عاصمته القسطنطينية، تاركاً الإمبراطورية بيد ابن أخيه يوحنا، حينها اقتنع الجميع في العالمين الإسلامي والمسيحي، بأن العاصمة البيزنطية ستسقط لا محالة، حتى أن أوربا مجتمعة حاولت عبر حملة صليبية فاشلة، تألفت من ستة عشر ألف مقاتل من جنود ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وهنغاريا ولاشيا وبولندة وبوهيميا وإيطاليا وإسبانيا، في مواجهة بايزيد وإنقاذ ما تبقى من الإمبراطورية البيزنطية، في معركة ضارية بالقرب من نيكوبوليس على نهر الدانوب، كانت نتيجتها تحقيق الانتصار السادس للعثمانيين على أوربا في العام 1396م.
وبدأت أوربا تتهيأ لمواجهة بايزيد الصاعقة إلى أن ظهر فجأة تيمورلنك قادماً من الشرق مع جحافل من «رجال توران، وأبطال إيران، ونمور تركستان، وفهود بلخشان، وصقور الدشت والخطا، ونسور المغول.. وأفاعي خنجد وثعابين أندكان، وهوان خوارزم وجوارح جرجان، وعقبان صغانيان وضواري حصار شاومان، وفوارس فارس وأسود خرسان.. وليوث مازندران، وسباع الجبال وتماسيح رستمدار وطالقان.. وذئاب الري.. وأفيال الهند والسند، وكباش ولايات اللور، وثيران شواهق الغور، وعقارب شهرزور.. وكلاب النهاب من رعاع العرب وهمج العجم.. وأنجاس مجوس الأمم».
كل هؤلاء ذكرهم ابن عربشاه، قدموا من الشرق للقضاء على الجيش الوحيد الذي كان يواجه خطر بيزنطيا والصليبيين.
يقول الدكتور سهيل زكار: «عندما توجه تيمور في حملته التي احتل بها إيران والعراق وجورجيا والشام وآسيا الصغرى، كانت أوربا هائجة مائجة مرعوبة من الإسلام المتقدم، الذي فتح أجزاء كبيرة من الشرق الأوربي، وباتت القسطنطينية ساقطة عسكرياً، وتوافرت إمكانات الدخول إلى أوربا الغربية، وقتها تلقى تيمور رسلاً من إسبانيا، ورد على ذلك برسل من عنده.. لماذا كان في نية تيمور قصد مصر والشمال الإفريقي، ولماذا خاطب السلطان العثماني بايزيد تيمور، بعدما وقع في أسره ورجاه بعدم ترحيل المسلمين من البلاد التي كانت تحت حكم العثمانيين، وطلب منه عدم تحمل آثام ذلك؟».
قد تكون هذه الأسئلة من نظريات المؤامرة التي نؤمن بها نحن العرب، والتي يأخذها علينا الغرب، إلا أن تسلسل الأحداث يظهر التالي:

1- العلاقة بين مملكة قشتالة وتيمور قبل وبعد معركة أنقرة
تقع مملكة قشتالة على حدود الدولة الإسلامية في الأندلس، كان يحكمها زمن تيمور، الملك أنريكي الثالث (1397 - 1406م)، ولا توجد معلومات دقيقة حول السبب الذي دفع بالملك القشتالي إلى الاتصال بتيمورلنك، إلا أنه ومن اللافت للنظر وجود فارسين من بلاط أنريكي مع جيش تيمورلنك أثناء معركة أنقرة، وهما بايوجوميز دسوتومايور، وهرنان سانشيز دوبالازولوس، ويبدو أنهما شاركا إلى جانب قوات تيمور أثناء القتال، أو كانا مجرد شاهدين على نهاية بايزيد الصاعقة.
والجدير ذكره أن العلاقة توطدت أكثر بين الأمير تيمورلنك والملك أنريكي حيث يحدثنا التاريخ عن سفارة بعثها الملك القشتالي إلى سمرقند، العاصمة التيمورية، رداً على سفارة أرسلها تيمورلنك إلى أنريكي الثالث يخبره فيها عن انتصاره على بايزيد وكان سفير تيمور، محمد الكاجي مصحوباً بعدد من الفتيات المسيحيات، هدية لملك قشتالة.
أما سفارة أنريكي، فقد ضمت عدداً من كبار رجال البلاط القشتالي؛ حيث تألفت من الكاتب الرئيسي في القصر الملكي وحاجب الملك، جونثالث دي كلابيخو، وأستاذ اللاهوت وعضو جماعة الوعاظ رجل الدين المسيحي، ألونسو بايزدوسانتا ماريا، وحارس الملك جوميز سالازار، ومجموعة من حملة الهدايا، وعدد من النساخ والكتبة الذين طلب منهم تسجيل كل ما يسمعونه أو يشاهدونه، وتكونت السفارة من أربعين فرداً، انطلقت من قشتالة عام 1403م وعادت إليها في مارس 1406م.

2- علاقة تيمورلنك مع ملوك أوربا قبل وبعد معركة أنقرة
مع انتصار تيمورلنك في أنقرة، بعث بالرسل إلى ملوك أوربا، فكان أسقف مدينة السلطانية جون، سفيره إلى ملك فرنسا شارل السادس، كما بعث برسول آخر إلى ملك إنجلترا هنري الرابع، وفي ذلك يقول الكاتب جاستن مروذي: «حرص هنري الرابع على أن يحوز رضا حاكم متمتع بهذا القدر من النفوذ والقوة كتيمور، فقام بإرسال التهاني إليه، ولو من دون سابق معرفة به، وصدر عن شارل السادس ملك فرنسا مدح وتبجيل لتيمور «الأمير المظفر».
لقد كان ملوك أوربا مرعوبين من تصريح بايزيد الأول، أثناء حصاره للقسطنطينية، من أنه سيفتح روما ويطعم حصانه من شعير على مذبح كنيسة بطرس.
وأرسل تيمورلنك إلى هؤلاء «ليطمئنهم وليوطد العلاقة بهم»، دليلا على تواصل سابق على معركة أنقرة، حتى أن بعض المؤرخين العرب، يعتبر أن تقدم تيمورلنك نحو آسيا الصغرى كان بإيعاز من ملوك وأمراء الغرب!

3- العلاقة بين بيزنطيا وتجار جنوى والبندقية وتيمورلنك قبل وبعد معركة أنقرة
كان موقف الوصي على عرش بيزنطيا، يوحنا، واضحاً حيث أرسل إلى تيمورلنك يخبره ويتعهد له بتوفير الجنود والمراكب، وحتى الأموال دعماً للجيش التيموري في المعركة مع بايزيد الأول، هذا الموقف تزامن مع التزام حاكم جنوى بمنع القوات العثمانية الموجودة في أوربا من دخول آسيا الصغرى لدعم بايزيد.
والجدير ذكره، أن تجار جنوى والبندقية الذين كانوا يسيطرون على الطريق عبر بحر مرمرة، ساعدوا في تهريب عدد كبير من قوات بايزيد بعد معركة أنقرة، باتجاه أوربا، إلا أن بعض الروايات تذكر أن بعض هؤلاء التجار عمد إلى قتل الركاب من الجنود العثمانيين ورمي جثثهم في الماء انتقاماً مما كانوا فعلوه من قبل من حصار للقسطنطينية.
أما الإمبراطور مانويل الثاني، فقد أرسل الوفود المحملة بالجواهر والقطع النقدية إلى تيمور، ليعيده هذا الأخير إلى عاصمته وليتأجل بالتالي سقوط القسطنطينية نصف قرن من الزمان.
في الختام، هل حقاً كان تيمورلنك مدفوعاً من الغرب الأوربي للقضاء على بايزيد الأول وإنقاذ أوربا من السقوط المحتم بيد العثمانيين؟ يقول الكاتب مروذي: «أوربا كقارة فقيرة تمتد من بحر إيجه إلى الأطلسي لا تغري إمبراطوراً كتيمور بغزوها، ولم يكن هنالك ما يشد انتباهه ويدفعه إلى شن الحرب المقدسة باتجاه تلك الأراضي.. كان صاحب نظرية نفعية (تيمورلنك) فخزائن أوربا وبيوت مالها آنذاك كانت خاوية، فلا غنائم تغريه لإعلان الجهاد المقدس..».
إلا أن الكاتب الجزائري، مالك بن نبي، له وجهة نظر مختلفة، حول تفسيره لأسباب قيام تيمورلنك بمهاجمة بايزيد: «لكي نعطي للأحداث تفسيراً متكاملاً يتفق مع مضمونها كله، يجب ألا نحبس تصورنا لها في ضوء العلاقات الناتجة عن الأسباب، بل ينبغي أن نتصور الأحداث في غايتها التي انتهت إليها في التاريخ. ومن هذا الجانب قد نحتاج إلى أن نقلب المنهج التاريخي: فنرى الظواهر في توقعها بدلاً من أن نراها في ماضيها، ونعالجها في نتائجها لا في مباديها. ينبغي أن نسأل أنفسنا: ماذا لو قدر لبايزيد أن ينصب رايته على أطلال فيينا، ثم على أطلال برلين؟ لو حدث هذا لأذعنت أوربا لصولجان الإسلام الزمني المنتصر، ولكن ألا يدفعنا هذا إلى أن نرى أن توقعاً مختلفاً تمام الاختلاف عما حدث فعلاً كان سيحدث في التاريخ؟ كانت النهضة الأوربية ستنصهر في (النهضة التيمورية) ولكن هاتين النهضتين كانتا مختلفتين، فلم يكن مغزاهما التاريخي واحداً، كانت الأولى فجراً يفيض على عبقريات جاليلي وديكارت وغيرهما، بينما الأخرى شفقاً يغلّف الحضارة الإسلامية لحظة أفولها. كانت إحداهما بداية لنظام جديد، وكانت الأخرى نهاية نظام دارس، وما كان شيء في الأرض يستطيع أن يدفع عن العالم الليل، الذي أخذ يبسط سلطانه آنئذ على البلاد الإسلامية في هدوء. فملحمة الإمبراطور التتري تجلو غاية التاريخ، إذ كانت نتيجتها متطابقة مع استمرار سيرة الحضارة ودوامها، كيما تتعاقب دوراتها، ويتم الكشف الخالد عن العبقريات التي تتناوب على طريق التقدم».
أما الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزي توينبي، فيعطي تفسيراً لما فعله تيمورلنك بقوله: «وهل لا يمكن أن نرى في ذلك إمارة على نوع من التجلي العلوي وراء تصرفات تيمورلنك؟».
والسؤال هنا: هل كان تيمورلنك الذي أنقذ النهضة، وأنقذ الحضارة العالمية، على علم بما قد يحصل لو سقطت أوربا؟ هل هذا نوع من التجلي كما يظن توينبي أم أنها الصدفة؟ ■