حدث ذلك في المقهى
صوته عالٍ كعلوّ سقفِ بيتٍ عالٍ يتكلّم مع صديقين أو رفيقين له أو صاحبين، لكن صوته يرن في كل آذان الجالسين والواقفين في المقهى، الجميع اعتادوا على ضجة صوته، أنا لم أعتدْ، مع أني أراه يومياً في المقهى منذ زمن، أُجبرت يوماً أن أكون مع الجالسين على طاولته، لم أبق طويلاً، لم أستطع. صوته عالٍ جداً.. والمقهى ليس بحاجة لهكذا صوت، يكفي قرقعة الكراسي ونداءات الزبائن وزمامير السيارات وضجة الشارع.. فوق كل هذا فإن صوته طاغٍ، قلت إني لم أبق طويلاً على طاولته لأني آتي إلى المقهى لأجلس وحدي أو مع صديق أو صديقة أو صحيفة أو كتاب أو دفتر للرسم أو أوراق للكتابة. كل هذا بالنسبة لي أصدقاء أعزاء.. أبقى حراً أتمتع بمرافقتهم وأعتقد أنهم يتمتعون برفقتي المتواضعة الهادئة. إن كنت مع صديق فحديثنا يبقى هادئاً يدور حول أشياء بسيطة، أو كنت مع صديقة فالحديث يدور حول أشياء بسيطة أيضاً، أو حول بعض الأفكار العاطفية.. لمَ لا؟ وهل يصح إن كنت برفقة صديقة ولا تدخل في الجُملِ جُمل عاطفية؟ أو تحكي عن العاطفة.. أو لا تحكي كلها عن العاطفة؟ أو تحكي ولا تقول شيئاً؟ وهذه أجمل وأصح الأحاديث.. أن تقول أشياء لا شيء فيها.. ثم.. ثم إذا رافقتني صحيفة فرفقتها لا تزيدني معرفة ولا أستفيد منها سوى بقلب صفحاتها، ماراً بالصفحات الثقافية البريئة من الثقافة، لانعدام الثقافة عند من يديرها ويترأسها، والجدير بالذكر أن كل مسئول عن صفحات ثقافية في جريدة هو شاعر ومفكّر ومنظّر سياسي. أما إذا رافقني كتاب، فهو كتاب اخترته بحرية أقرأه وأنهي قراءته أو أكتفي بقراءة بعض صفحاته، وأتسلى بفلش صفحاته، ثم أغلقه وأنظر إلى غلافه واسم مؤلفه والدار الناشرة التي فتحت له أبوابها واسم المطبعة وعدد الصفحات، ثم أرتاح شاعراً أني قرأت الكتاب. أما إذا رافقني دفتر رسم فهو رفيق دائم أرسم على صفحاته ما يروق لي أو ما يروق للقلم أن يخطّه أو يرسمه.. هو صديق، هذا الدفتر.
أما أوراق الكتابة فهي رفيقة مخلصة لدفتر الرسم، وشخصيتها شبيهة بأوراق الكتابة، هما متفقان معاً وأنا متفق مع كليهما. ماذا أيضاً؟ لا أعلم.. هناك أشياء كثيرة ولكن ما هي؟ أتساءل: كيف أقول ماذا أيضاً؟ ولا أعلم، ثم أقول إن هناك أشياء كثيرة. الحقيقة هي أن من يكتب هذه الأسطر هو هذا القلم.. كونه آلة حرة تخط ما تريده ولا من مانع يمنعها.. وإن خطت ما لا أوافق عليه ولا أرغب بذكره.. هنا أرى أن القلم حرٌّ وأنا أقل حرية منه..
***
لن أقول أكثر.. لقد عددت ما أحب من أصدقاء.. ألا يكفي أن يكون هؤلاء أصدقاء وتذكر كل واحد منهم؟ قلت إن المقهى كان خالياً من الزبائن.. سوى منه.. فلم أجد بدّاً من أن أجلس وإياه وكنت بحالة نفسية جيدة، وعندما أكون هكذا أترك غيري أو أعطي الحظ لمن يستأهل أن يكون مثلي، مثل حالي.. أي بحالة جيدة، وهكذا جعلت من الذي سأجلس على طاولته بحالة جيدة وما استغربت منه أنه أصبح أكثر حظاً مني، إذ طفح وجهه بتعابير السرور والفرح واللطافة، ورأيت فيه ما لم يكن يملكه من سرور وفرح ولطافة، وكأن الغيرة قد اجتاحتني وأصبحت أغار من الذي كنت أعتبره سيد الإزعاج في المقهى بصوته، عندئذ شعرت أن صوتي تغيّر وأصبح لا يطاق وكنت كلما فتحت فمي لقول شيء يشمئز جليسي ويرجوني بصوته الناعم الحنون الجميل، ألا أتكلم كنت أتمنى أن يتابع كلامه ولا يتوقف عن الحديث فصوته طرب وأنغام كأني أستمع لبعض أغاني محمد عبدالوهاب.
***
قال لي: أتيت باكراً.. أجبته بصوتي المزعج: وأنت أيضاً, ثم سكتنا ورحنا ننظر إلى بعضنا إلى أن دخل المقهى رجلان من رفقاء الذي كنت لا أحب صوته الذي يضج، سلّما علينا مستغربين أصواتنا، أتى النادل حاملاً فنجانَيْ القهوة! قلت لهما أهلاً وسهلاً بصوتي المزعج فارتاحا، ابتسما وهما ينظران إلى وجه صديقهما المبتسم، إلى أن فتح فمه وخرجت منه كلمات وكأنه بها يغني فيُطرب، سأله أحدهما: هل.. هل.. أجابه بصوت جماله لا يوصف: هل لاحظت ذلك؟
- نعم.. ماذا حصل؟ كيف أبدلت صوتاً بصوتك؟
- لا أعرف كيف، فجأة سمعت صوتي كصوت غيري.
- لم يتغير صوتك فقط، أنت يا أخي تغيّرت، صرت شخصاً آخر..
- كيف؟
- تسألني عن حالي وأنا أسألك عن حالك؟ قل لي ماذا حصل؟
أمّا أنا فقد بقيت هادئاً مستمعاً ملاحظاً مستغرباً لتلك الأعجوبة التي حصلت وأنا شاهد عليها.. قلت.. قلت لذاتي سأدخل معهم في حديثهم لأرى.. لأسمع صوتي، من يدري.. لعليّ أنا.. أنا أيضاً.. قلت: هذا عجب.. كيف يحصل هذا؟ يتبدل صوت ويصبح صوتاً آخر.. ومعه تعابير الوجه.. وعبوسه يتحول إلى ابتسامة دائمة.. انظروا.. سبحان الذي يبدّل ولا يتبدّل.. ثم سكت.
عندما عدت إلى طاولتي هرب أصدقاؤه واختفوا ورأيتهم يركضون في «شارع الحمراء»، قمت لأسأله عمّا حصل فاستغربت لما رأيت.. رأيته قد عاد كما كان.. بل ازدادت تعابير وجهه وصارت مخيفة.. وعاد صوته مضجاً يتكلم وحده.. لم ينظر إليّ، لم أستطع أن أسأله.. أن أستفهم منه عن هروب أصدقائه.. وأسأله أيضاً عن حاله.. عدت إلى طاولتي والزبائن عيونها شاخصة إليه.. لم أبق طويلاً في المقهى.. هرولت إلى الباب، قائلاً: سبحان الذي يبدّل ما بقوم وهو لا يتبدّل، ورحت أركض كالمجنون فرحاً، سعيداً، وخائفاً أيضاً من أن أخسر صوتي مرة ثانية، عندها زادت سرعة ركضي إلى أن وصلت إلى بيتي، دخلت غرفتي ورحت أغني لأسمع صوتي، وأتأكد أن صوتي هو صوتي ■