متاهة السرد والهوية في «البحث عن وليد مسعود» جبرا إبراهيم جبرا روائياً
بعد أن توارى «وليد مسعود» عن الأنظار في رواية «البحث عن وليد مسعود» لجبرا إبراهيم جبرا، وأصبح مصيره مجهولاً لا يعرف به أحد من المقربين له في بغداد، ظهر «جواد حسني»، وهو من شخصيات الرواية، بمظهر المؤلف الذي يعد كتاباً عنه يجمع فيه آثاره الأدبية، ويتطلع إلى تدوين سيرته الشخصية والمهنية والثقافية بين فلسطين والعراق منذ وصوله إلى بغداد إلى يوم اختفائه الغامض، معتمداً في ذلك على ما كتبه وليد عن نفسه وعن أسرته، وما رواه أصدقاؤه عن علاقتهم به، بما في ذلك تجارب حياته مع نخبة من نساء المجتمع البغدادي ورجاله، فتلك مادة وافية يمكن الاعتماد عليها في الكتابة عن شخص استأثر بدور ثقافي واجتماعي في بغداد حوالي منتصف القرن العشرين وما بعده.
ظهر جواد حسني إثر اختفاء وليد مسعود، باحثاً في كل ما يتصل بشخصية عرفها، وأعجب بها، وانتهت الرواية، دون أن يكتب الكتاب؛ إذ شغل بطريقة تنسيق تلك المادة من دون أن يقوم بتحريرها، فالتركيب الذي رآه مناسباً لكتابه يعتمد على قاعدة سردية مرآوية حيث تعرض وجوه وليد مسعود في أعين الشخصيات المحيطة به، مثلما تعرض الشخصيات في السياق الذي مثّلته حياة وليد مسعود، فيكون وليد وأصدقاؤه مرايا متقابلة، تكشف كل منها ما يظهر في الأخرى، فلا يمكن الفصل بين السرد وموضوعه، ولا بين الراوي والشخصيات، ولا بين المؤلف ومادته السردية، فمرونة البنية السردية التي اعتمدت عليها رواية «البحث عن وليد مسعود» جعلت الحكاية السيرية للبطل تنبثق من سرود كثيفة قدمها الرواة عن تجارب لهم مشتركة مع وليد مسعود، باعتبارهم شخصيات لها صلة به، فكانت تودع لدى جواد حسني الذي حاول أن يرتبها بما يجعلها تفصح عما يرومه من تأليف كتاب سيري عن صديقه وأستاذه، فالمتن السردي هو حاصل كل ذلك.
لكن القضية الأساسية التي سعى جواد حسني إلى تحقيقها، هي إدراج وليد مسعود في سياق تاريخي واجتماعي وثقافي، ليظهر مدى فاعليته في ذلك السياق، ثم بيان النتائج التي ترتبت على انسحابه المفاجئ من ذلك السياق. من الصحيح أن السياق الحاضن للأحداث هو عراق الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، لكن المادة السردية الخاصة بوليد بدأت منذ أول عشرينيات ذلك القرن، بداية بطفولته وصباه مترهباً، وانتهاء به رجل أعمال في بغداد، وهو على اتصال دائم بقضية شعبه الفلسطيني، ومن المرجح أنه اختفى، في نهاية المطاف، ليكون جزءاً من تلك القضية التي لازمته طوال حياته، فلقد كان عصامياً كيَّف حياته لتكون مزيجاً من المتع والمسئوليات، فلم يسرف في الأولى بحيث يكون فرداً منهمكاً بذاته دون سواها، ومنقطعاً عن غيرها، ولم يتخل عن الثانية بما يجعله رجلا عدميا بلا امتداد فكري أو سياسي، وربما يكون ذلك المزج بين الحياة الشخصية والحياة العامة مثار شبهة من طرف أولئك القائلين بأن الحياة بكاملها ينبغي أن تنصرف لأمر واحد، ولكن خطة وليد مسعود لحياته كانت مختلفة، فقد نهل من الجانبين بحثاً عن توازن مفقود أحدثه المنفى، فلم يفلح في الحفاظ عليه إلى النهاية، إذ تجاذبته الأهواء الشخصية، كما تجاذبته المسئوليات الوطنية، فأفنى ذاته فيهما.
مشاهدات وليد مسعود
انصب اهتمام جواد حسني على البحث (في) وليد مسعود أكثر من البحث (عنه). ومع أن السؤال عن مصيره ظل أحد الشواغل المهمة لجميع الشخصيات، بمن فيها المؤلف، لكن كل ما تجمَّع لديه من وثائق وشهادات إنما دار حول فكرة مركزية واحدة، وهي: منْ هذا الرجل الذي انبثق في سياق عراقي مثخن بالسجالات الأيديولوجية والثقافية، ثم توارى عن الأنظار من دون أن يترك دليلاً على مصيره النهائي؟ على أن مناسبة الحديث عنه كانت فرصة استثمرتها الشخصيات للحديث عن أفكارها وأذواقها وتجاربها، فأصبح هو النافذة التي من خلالها انبثقت تلك الشخصيات في فضاء السرد، مثلما كانت هي نافذته إلى العالم.
اعتمد جواد حسني مادة سرابية تكاد تضلل أي باحث ينتدب نفسه لتنسيقها، وبذل جهداً كبيراً في تركيب حكاية وليد مسعود منها، فكان أن سقط في متاهة تلتف طرقاتها، وتتقاطع ممراتها، فلم يستطع أن يكمل الكتاب الذي جمع مادته، ورواها بنفسه، أو ترك لشخصيات أخرى أن تروي نيابة عنه، فقد التزم الحياد، وحاول أن يظهر بمظهر المؤلف القادر على «منع التناقضات من الاصطدام».
بدت العلاقة بين المؤلف والمادة السردية علاقة خاصة، فشعر بأنه يغطس في خضم بحر هائج، يخيفه ولكنه يغريه، وبمقدار استغراقه فيه، فإن تشعباته تكاد تضلله، فكأنه يدور في تلك المتاهة التي شقها وليد مسعود، وأدخل جواد حسني عنوة فيها، فهل كان وليد مسعود يخطط لذلك، وهو يتعهد جواد حسني برعايته منذ البداية، ليجعله مريداً له قبل أن يكون أستاذاً جامعياً متخصصاً بعلم الاجتماع؟ ثم ما إن يكمل دراسته حتى تزداد علاقته به ترابطاً «بعد حصولي على الدكتوراه، توثقت العلاقة في ما بيننا أكثر مما مضى، فتكشفت لي تفاصيل في حياته لا يتحدث عنها إلا في ساعات من الاسترسال مع أقرب الناس إليه، ووجدتني بعد قليل أنخرط في مجتمعه، أدخلني فيه وليد وكأنه يريد أن أكون مؤرخاً له، وهو يعلم أنه هو نفسه في الأصل غريب عنه».
إدراج جواد حسني في «مجتمع» وليد مسعود مكنه من استكشاف العلاقات التي ربطت أفراد ذلك المجتمع، فوليد مسعود عاش وسط نخبة من المثقفين والأكاديميين والأثرياء والفنانين والأدباء والنساء الجميلات، وحينما غاب اختل توازن ذلك المجتمع، وكأنه كان الصخرة التي يجلسون عليها، ويحتمون بها، فما إن تسقط حتى هم غرقى في بحر لا قرار له، فتفجرت كل الخفايا والأسرار إثر اختفائه، فقد ظهر ليمنح الحياة لمجموعة بدت خاملة ومجردة عن الفعل، وبغيابه تركها تتخبط بلا صخرة تلوذ بها.
أراد جواد حسني تركيب صورة وليد مسعود في مرايا الآخرين، لكن الصورة الكاملة له لم ولن تظهر أبداً؛ لأن الرواية اهتمت بأجزاء من تلك الصورة التي ارتسمت أطياف منها فحسب؛ فالشخصيات كانت مشغولة بوضعيتها الخاصة، فضلاً عن وضعية وليد نفسه. ثمة تدافُع صريح في الاستئثار بالاهتمام بين من يروي وما يروى عنه وحوله.
كشفت الشهادات والذكريات الخاصة بالشخصيات عن ميول أصحابها بالدرجة نفسها التي كشفت فيها عن شخصية وليد مسعود؛ فميول طارق رءوف النفسية جعلته ينظر إلى سلوك وليد مسعود من زاوية التحليل النفسي، وميول كل من جواد حسني وكاظم إسماعيل الاجتماعية جعلتهما يركزان الاهتمام على الجانب الاجتماعي في شخصيته، وبخاصة في سياق تحليل مؤلفاته. لكنها بمجملها رسمت جانباً من أفول الأرستقراطية العراقية، وبداية ظهور الطبقة الوسطى، بعد منتصف القرن العشرين، ولجوء أصحابها إلى الفنون والآداب والأيديولوجيات، بديلاً عن حنين مبهم للماضي، في رفض سياسي له بحجة الميول الأيديولوجية الجديدة، فكانت منظوراتهم متصلة بالحراك الطبقي والأيديولوجي، وكل شخصية كانت تنتج شخصية وليد مسعود طبقاً لفرضياتها، وطبيعة رؤيتها لنفسها وللعالم.
أظهر تعدد المنظورات وليد مسعود متعدد الوجوه تحت مجهر التحليل من جميع جوانبه، فتشكلت صورته من نسيج معقَّد التركيب مثلته رؤى الشخصيات ومواقفها الفكرية. فلا تظهر سيرته إلا وهي مندمجة في سياقات مرتبطة بالظروف التاريخية التي عاش فيها. وقد تبادل وليد مسعود والشخصيات المحيطة به الأدوار السردية، فمرة يكون هو المرآة التي يجد المتلقي فيها شخصيات متزاحمة تريد الظهور بنزواتها ونزقها وأطماعها وتطلعاتها وحساسيتها وشهواتها وأسرارها، ومرة أخرى تُنضد الشخصيات كمرايا متعددة الأبعاد، تكشف للمتلقي خفايا وليد مسعود وسيرته وأفكاره. وهكذا يكون وليد راوية بنفسه لما يحدث له ولغيره، فتنبثق حكايته الذاتية عبر منظوره الشخصي، وبوساطة الأسلوب المباشر، لكنه سرعان ما يتوارى، ويتيح للآخرين أن يرووا بأنفسهم، ومن زوايا نظر مختلفة ما وقع لهم وله صلة به. وقد جعل التناوب في ممارسة الأدوار السردية الطرفين يتشكلان من خلال رؤى الآخر.
وتثير رواية «البحث عن وليد مسعود» مسألة جوهرية تخص مفهوم «الهُوية» باستخدام ثنائية الوجه والمرآة، فهل الفلسطيني المنفي وليد مسعود، هو الوجه الذي يحتاج إلى تعريف ذاته في مرآة الآخرين المحيطين به، أم أنه المرآة التي يحتاج الآخرون إليها للتعرف إلى ذواتهم؟ فأيهما الوجه الحقيقي؟ وأيهما المرآة العاكسة؟ وعبر التأويل المضاعف تقترح الرواية سؤالاً أكثر أهمية: هل الشخصيات المحيطة بوليد مسعود هي المرآة العاكسة لقضيته الفلسطينية، فتعطيها معنى في الواقع والتاريخ، أم أنه هو وقضيته المرآة التي ظهر على سطحها الآخرون؟
هوية المنفى
جرى صوغ هُوية «وليد مسعود» بوصفه منفيًا فلسطينياً من خلاصة الروايات التي عرضتها الشخصيات عنه، مثلما صيغت هُوياتها من خلال منظوره، وعلى مستوى التأويل، فلابد من الأخذ في الحسبان سياقين ثقافيين احتضنا الأحداث، أولهما سياق عام مثّلته شخصيات من نخبة المجتمع العراقي، كانت على تماس معه منذ وصوله إلى بغداد في نهاية الأربعينيات إلى أن اختفى في حوالي منتصف السبعينيات، وكانت تلك الشخصيات النسائية والرجالية متباينة في جذورها الاجتماعية، وميولها السياسية، ومواقفها الثقافية، وقد وجد ضالته في مصاحبتها بوصفه غريبًا رمته الأحداث بعيداً عن وطنه، فتفاعلت معه في ضوء فهمها لشخصيته وللخلفيات التاريخية الفلسطينية التي جاء منها، فلم تختزله إلى مجرد منفي منبت الصلة عن أرضه، إنما أدرجته في سياق حياتها وعملها وعلاقاتها ومصالحها وأفكارها، وانتهى الأمر بأن انتدب جواد حسني نفسه، وهو أحد تلك الشخصيات، ليستعيد تجربته في كتاب خاص عنه، لم يحد عنه، قائلاً
«لا الذئاب ولا غير الذئاب ستثنيني عن الكتاب الذي أكتبه». وثانيهما سياق متقطع مرتبط بحياة وليد مسعود وتجربته الفلسطينية، ومحوره حياته الأسرية، وشذرات من تجاربه في فلسطين قبل النزوح إلى العراق، وفيه ظهر شخصًا مقتلعًا على خلفية فقدان وطنه، وتشرد شعبه، فلم يندمج بصورة نهائية بالسياق الأول، وإن كان فاعلاً فيه، فقد ظل مساره الفردي مرتبطاً بوطن مفقود، وشعب مشتت. وإذا كان السياق الأول قد بدا متماسكاً ومتسقاً وقوياً، فإن الثاني بدا متقطعاً، ظهر بصورة محطات تاريخية متناثرة من النواحي التاريخية والجغرافية.
أنتج السياق الأول شخصية وليد مسعود المثابرة والمفكرة والحيوية، فيما أنتج الثاني شخصيته المنقطعة الجذر، وغير القادرة على الاندماج النهائي في المحيط الذي عاشت فيه، فقد عاش في قلب التوترات بين سياقين عام وخاص. من الصحيح أنه كان يتفاعل معهما إيجابياً كلما اقتضى الأمر، لكنه كان ينكفئ على ذاته في مراجعات سرية لا يصرح بها لأحد، ومنها قراره الأخير بالاختفاء. ومن أجل التعويض عن غياب الاتساق المنتظم في حياته ومصيره، كان يلوذ بمغامرات فكرية أو جنسية أو يشترك في مهمات قتالية في فلسطين، أو أعمال ذات نفع عام لشعبه، فلم يضع حداً فاصلاً بين ذاته الفردية وذاته الجماعية، فيكون بذلك قد تخطى الدوغمائية العقائدية القائلة بالانحباس ضمن نسق مغلق في حياته وأفكاره، إنما كان دائم العبور، باحثًا عن التجارب الجديدة في حياته وأفكاره.
وجدت الشخصيات العراقية في وليد مسعود جانباً مما تفتقر إليه، وهو الانسلاخ من التقاليد الاجتماعية الرتيبة التي عرقلت ظهور الحريات الفردية، فلاذت به للتعبير عما ينقصها بسبب ذلك، فيما انخرط هو في سياقها ليجد معنى لحياته، وتعويضاً عن فقدان وطنه، فكان أن تشكلت هُويته من سلسلة متضافرة من العلاقات مع الآخرين، فهي التي صاغت لب تجربته، ولكنها من خلاله كانت تتطلع أيضاً إلى تعريف نفسها، كما كان يتطلع هو من خلالها إلى تعريف نفسه. ومن المستحيل فصم الصلات بينه وبين تلك الشخصيات، لأن هُويته انبثقت من مجموع رواياتها عنه، وقضيته تبلورت في سياق السرد من خلال ارتباطه بها، على أنه كان في الوقت نفسه المرآة التي انبثقت من عمقها تلك الشخصيات، فلم تتحدد ملامحها، وتعرض تجاربها، وتتبلور مواقفها الأيديولوجية إلا من علاقتها به. فظهر تكافل بين الشخصيات بما يتيح لكل منها أن تلقي الضوء على الأخرى، وتحدد ملامحها، وتصوغ هُويتها.
مثَّل جواد حسني دور الوسيط المكيف بين شخصية نموذجية في أفعالها وأفكارها ورغباتها، وبين جماعة من الشخصيات التي دارت في فلكها، فتزاحمت في السرد ثلاثة أدوار كبرى، دور خاص بوليد مسعود، ودور خاص بجواد حسني، ودور خاص بالشخصيات الأخرى، فانصرف السرد إلى الاهتمام بكل ذلك، فحكاية وليد مسعود لم تنبثق بشفافية، إنما جرى حجبها وراء الشخصيات المحيطة به، فجرى تعديلها من خلال منظوراتها، وحينما انتهى أمرها إلى جواد حسني، راح يعيد ترتيبها وفق الطريقة المناسبة في كتابة سيرة سردية وليد مسعود، فقد انتحل دورين، دور المؤلف الضمني الملازم للشخصية الرئيسة والعارف أكثر من سواه عنها، والجامع لكل ما يتصل بها من وثائق ومستندات كتابية وشفوية، ثم دور الراوي الذي يضفي رؤيته على كل شيء في العالم المتخيل، فكانت حركته حرة بين الشخصيات وبين الوثائق التي اجتمعت له.
فعلى مستوى السرد كان جواد حسني هو المنخل الذي نخل كل شيء عن وليد مسعود، ووضع خطة لإعادة تركيبه، وعلى مستوى الحكاية كان وليد مسعود هو البؤرة المركزية التي استقطبت كل الأحداث فيها، ومن أجل الوصول إلى الحكاية، فلابد من المرور أولاً في السياق السردي الذي ابتكره جواد حسني ■