سينما الذاكرة

سينما الذاكرة

تشهد بيروت حراكاً سينمائياً ينتج كَماً من الأفلام المتنوعة الأشكال والمواضيع والأساليب الإخراجية، من دون أن يشكل الجيد منها حالة أساسية. لكن الجيد، الذي ظهر جلياً في النتاج الوثائقي في الأعوام القليلة الماضية (مجلة «العربي»، مارس 2013)، لايزال مستمراً في تمييز هذا النوع السينمائي عن غيره، ببراعته في إعادة رسم ملامح مستلة من الذاكرتين الفردية والجماعية، وبقدرته على منح الصورة السينمائية جمالياتها الدرامية والفنية والتقنية.

 

مرة تلو أخرى، يتأكد للمهتم بالنتاج السينمائي اللبناني أن الوثائقي أجمل فنياً وأنجح درامياً في مقاربة الأسئلة المعلقة والحالات المعقدة، سواء تلك المتعلقة بذاكرة فردية أو جماعية، أو تلك المأخوذة من وقائع العيش اليومي على حافة الانهيارات القصوى. لكن الوثائقي، المستمر في رفد المشهد السينمائي اللبناني بأعمال مثيرة لمشاهدة ممتعة ولنقاش نقدي سليم معاً، لم يستطع التأثير إيجابياً على الروائي، وعلى إنقاذه (أو محاولة إنقاذه) من «ورطته» الدرامية، ومآزقه الإبداعية المختلفة. فعلى الرغم من أن مفردات روائية عديدة باتت جزءاً أساسياً من صناعة الصورة الوثائقية، فإن الوثائقي لايزال عاجزاً عن منح الروائي مقومات النجاح الإبداعي المطلوب.
العموميات لا تنفع دائماً. لكن، ما سبق ذكره ناتج من «متانة» المعادلة السينمائية الوثائقية الموجودة في المشهد اللبناني، لغاية الآن على الأقل: براعة واضحة في صناعة الفيلم الوثائقي، في مقابل تردي الوضع الروائي. وهذا لا يشمل الأفلام كلها، إذ إن أعمالاً روائية عديدة امتلكت حاسيتها الفنية وشروطها الجمالية والتقنية، في حين أن أفلاماً وثائقية أخرى لم تبلغ مرتبة إبداعية سوية. والأهم في هذا كله أن الغالبية الساحقة من الأفلام المنتجة في العامين الفائتين ارتكزت على مواضيع وأسئلة أساسية، تمس جوهر الحياة اللبنانية، ماضياً وحاضراً. مواضيع وأسئلة متعلقة بأحداث شهدتها المدينة سابقاً، وبتحولات تعاني المدينة وناسها وبيئتها الاجتماعية تأثيراتها المختلفة في راهن مثقل بأزمات ومآس جمة. ومع أن هذه المواضيع والأسئلة تلتقي عند الاجتماعي والإنساني أولاً وأساساً (من دون تناسي البعد السياسي، الخفي والظاهر معاً)، إلا أن المعالجة السينمائية المعتَمدة في بعض الأفلام شوّهت هذه المواضيع والأسئلة، لاستسهالها إياها، ولمقاربتها بشكل سطحي، ولمعاينة تفاصيلها بلامبالاة أخلاقية وثقافية وسينمائية.

حكايات لبنانية قديمة وحديثة
الأمثلة المختارة في هذه المقالة تعكس جوانب قليلة من الواقع السينمائي اللبناني الراهن، وتقدم صورة عن العلاقات القائمة بين الموضوع والمعالجة والاشتغالات البصرية. في الجانب الوثائقي، هناك فيلمان جديدان هما: «النادي اللبناني للصواريخ» للزوجين خليل جريج وجوانا حاجي توما، و«74، استعادة لنضال» للأخوين رانيا ورائد الرفاعي. وفي الجانب الروائي، أتوقف عند «عصفوري» لفؤاد عليوان، و«قصة ثواني» للارا سابا، و«الصدمة» لزياد الدويري، وأضيف عليها فيلمين ينتميان إلى النوع الرديء في مقاربة الأسئلة المهمة: «بيترويت» لعادل سرحان، و«24 ساعة حب» لليليان بستاني. 
سبعة أفلام تستكمل المسار الحديث لصناعة الأفلام اللبنانية، وتساهم في بلورة المشهد المحلي، وتسعى إلى فهم جوانب من هذا المسار، وارتباطه بالوعي المعرفي، والثقافة العامة، والمخيلة الإبداعية التي يحتاج إليها الوثائقي، تماماً كحاجة الروائي إليها أيضاً. فالملاحظ أن هذه الأفلام كلها اختارت مواضيعها وأسئلتها من البعد الإنساني للمجتمع اللبناني وتحولاته وحكاياته، بدءاً من ستينيات القرن المنصرم (النادي اللبناني للصواريخ) وسبعينياته (74، استعادة لنضال)، وصولاً إلى راهن مرتبك (قصة ثواني)، ومروراً بثمانينيات قلِقَة، وتسعينيات يفترض بها أن تعلن بداية سلم أهلي حقيقي وثابت، لكنها سقطت في استمرارية حرب أهلية من نوع آخر، بل بشكل آخر (عصفوري). وإذا ذهب زياد الدويري بجديده «الصدمة» إلى قلب الصراع الأهم والأبرز في التاريخ الحديث للأمة العربية، المتمثل بفلسطين المحتلة، فإن عادل سرحان وليليان بستاني ارتكزا على أزمات اجتماعية وإنسانية بحتة، لإنجاز فيلمين يعتبران من «أسوأ» ما أنتجته هذه السينما اللبنانية أخيراً، إلى درجة بات معها الموضوع / السؤال الجدي المطروح باهتاً وركيكاً وساذجاً، بسبب بهتان المعالجة السينمائية، وركاكة الإخراج، وسذاجة الطرح. فالأول (بيترويت) تناول مسألة العنف الزوجي مقارناً حالتها ووضعها بين بيروت وديترويت، والثاني (24 ساعة حب) ركز على تعاطي الشباب المخدرات، والآفات الناتجة عن هذا التعاطي، والمآسي التي يجدون أنفسهم فيها بسبب هذا التعاطي. لكن الأول شوه أهمية السؤال الاجتماعي، الذي تشتغل عليه جمعيات ومراكز مدنية عديدة، بسبب استخفافه بالشق السينمائي، وتلطيه وراء «النية الحسنة» فقط لمعالجة موضوع حساس ومهم وخطر. والثاني تحول إلى مشهديات هزلية سخيفة، فرغت المضمون من أهميته الإنسانية والأخلاقية، وأساءت إلى السينما، كما إلى جمعيات ومراكز مدنية عديدة تعمل في معالجة هذه الآفة، والعمل مع المتعاطين مع المخدرات بوعي علمي ومعرفي وإنساني، مفقود (الوعي) كلياً من النص المكتوب أصلاً كمسرحية تحولت إلى فيلم باهت وركيك وساذج.

فلسطين لا تغيب عن البال
بعيداً عن سوء استخدام الأدوات السينمائية في مقاربة مواضيع وأسئلة حساسة ومهمة، وبعيداً عن المآزق اللبنانية المختلفة الممثلة في أفلام أجاد مخرجوها معاينتها سينمائياً وثقافياً وإنسانياً، وبعيداً عن وقائع العيش في جحيم الحياة اليومية في بلد متحول ومرتبك وممزق، خاض زياد الدويري تجربة صعبة وتحدياً مؤلماً، بذهابه إلى الموضوع الفلسطيني من خلال العلاقة القائمة بين فلسطينيي الـ48 وجذورهم وهويتهم وبلدهم وتاريخهم. أي أن زياد الدويري، الذي اقتبس فيلمه الجديد هذا من رواية للكاتب الجزائري ياسمينة خضرا (اسم مستعار لمحمد مولسهول) بالعنوان نفسه، أراد البحث في سؤال الهوية والجذور الأصلية، من خلال قراءة التأثيرات المختلفة التي ينتجها عمل إرهابي بحق مدنيين. فالشخصية الرئيسية طبيب فلسطيني إسرائيلي يدعى أمين جعفري (علي سليمان)، يحتل منصباً رفيع المستوى في المجتمع الإسرائيلي. لكن كل شيء ينقلب رأساً على عقب، عندما يكتشف أن زوجته سهام (ريموند أمسليم) نفذت عملية استشهادية / انتحارية في تل أبيب حيث يقيمان، قتل فيها عدداً من الأطفال الإسرائيليين. رحلة أمين في جحيم الماضي وذاكرته عبارة عن محاولة قاسية لفهم أسئلة الهوية والحب والعلاقات الإنسانية، بالإضافة إلى مفردات الصراع القائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وفي مقابل الجماليات السينمائية المتنوعة التي صنعها زياد الدويري، شكل الموضوع مادة لنقاش نقدي، لأنه طال أحد أبرز عناوين الصراع الفلسطيني الإسرائيلي: الأرض والهوية والانتماء.
لن أطيل الكلام على «الصدمة»، لأنه ليس فيلماً لبنانياً صرفاً، على الرغم من أن مخرجه لبناني يحمل الجنسية الأمريكية، وعلى الرغم من أن جزءاً من الإنتاج لبناني أيضاً. إدراج الفيلم ومخرجه في قراءة نقدية لراهن السينما في لبنان في هذه المقالة، نابع من كون المخرج لبنانياً، ومن كون الفيلم جديراً بالنقاش النقدي. غير أنه ابتعد عن المواضيع اللبنانية التي تناولتها الأفلام الأخرى، بوسائل سينمائية مختلفة، بدءاً من الذاكرة الجماعية، التي غاص في جوانب منها فيلما «النادي اللبناني للصواريخ» و«74، استعادة لنضال». فقصة الأول حقيقية، ومعقودة على اختبار علمي أجراه طلاب جامعة «هايكازيان» مطلع ستينيات القرن المنصرم. قصة الثاني حقيقية أيضاً، ومعقودة على حركة طالبية جامعية مطلع السبعينيات الفائتة، في حرم «الجامعة الأمريكية في بيروت»، احتجاجاً على زيادة الأقساط بنسبة 10 بالمئة. طلاب جامعة «هايكازيان»، بإشراف الأستاذ مانوك مانوكيان (المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من أربعين عاماً)، أرادوا تسخير المعرفة من أجل العلم، فاشتغلوا على صناعة صاروخ فضائي، تحول سريعاً إلى أداة تجاذب خفي بين البحث العلمي والـ «رعاية» العسكرية اللبنانية ومخاوف دول الجوار اللبناني، خصوصاً بعد تجربة صاروخ «الأرز 4» الذي بلغ مداه جزيرة قبرص، ما أثار قلق سورية وإسرائيل وفرنسا وبريطانيا. طلاب «الجامعة الأمريكية في بيروت» انتفضوا على الزيادة المذكورة على الأقساط، انطلاقاً من ارتفاع هذه النسبة، ومن تراكمات عديدة في السياسة والثقافة والعلاقة بين المنهج المعتمد والسياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، ومن أفكار شبابية يسارية تناضل من أجل فلسطين وحقوق الفقراء في التعلم والعلاقات الاجتماعية ومعاني العيش في بلد ذاهب إلى حربه الأهلية (1975)، في ظل غليان متنوع الاتجاهات والجوانب ألمَّ بلبنان حينها.

بين الذاكرة والراهن
في الجانب السينمائي، تداخل الوثائقي بالروائي المتخيل في إطار متكامل بين إبداع الصورة، وحسن الاشتغال التوثيقي والبصري، وآلية تقديم المعلومات بسلاسة وعمق، سواء بشكل مباشر أو عبر حوارات مع أناس «متورطين» فعلياً بعملية صناعة الصاروخ، لايزالون على قيد الحياة (النادي اللبناني للصواريخ)، أو بشكل غير مباشر، من خلال إعادة «تمثيل» المشهد كله بتعاون بديع مع شباب عكسوا حيوية تلك اللحظات، ونقاشاتها الصاخبة، كأنهم هم أنفسهم من يخوض المعركة (74، استعادة لنضال). في الفيلمين، هناك اشتغال سينمائي واضح: في المعالجة الدرامية، وفي التوثيق العلمي والمعرفي العميق، وفي «ترجمة» هذا التوثيق بمعلوماته الجمة إلى شريط متسلسل من الأحداث والتفاصيل، مغطى بصوَر سينمائية بحتة. هناك براعة واضحة في إعمال المخيلة السينمائية بهدف تحويل الموضوع العلمي والمعرفي إلى متتاليات بصرية مريحة في المشاهدة، ومثيرة لمتعة العين والقلب والروح، ودافعة إلى نقاشات خصبة حول السينما والواقع والذاكرة وتفاصيل الحكايات المخفية، أو المغيبة.
براعة المخيلة في «ترجمة» المعطيات المكتوبة ماثلة، أيضاً، في الروائي الطويل الأول للارا سابا «قصة ثواني»، الذي غاص في راهن اجتماعي لبناني قاس ومتمزق، بسرده ثلاث حكايات عن ثلاث شخصيات رئيسية، تتداخل مساراتهم ومصائرهم بعضها مع البعض الآخر بشكل سينمائي متماسك. حكاية المراهق الذي يتعرض لألف أذية وأذية من قبل أحد الجيران، بموافقة الوالدة ولقاء مبالغ هي بحاجة إليها. وحكاية شابة يقتل والداها في حادث سير، فتبقى وحيدة مع جدتها العجوز، ومع آلام العيش في ظل ضغط اجتماعي حاد، هي الساعية إلى إكمال دراستها الجامعية، والعمل ليلاً من أجل لقمة العيش. وحكاية الزوجين الثريين السعيدين، والحالمين بإنجاب طفل يكمل سعادتهما، لكن سعادتهما لا تكتمل لأن حادث سير يحول حلم السعادة إلى موت قاس. المصائر تتداخل بشكل أو بآخر، وخصوصاً أن الخاتمة تكشف سقوط الصبية في الرذيلة من أجل بعض المال، وهروب المراهق من منزل والدته إلى عالم سارقين ومدمنين على المخدرات، بينما يتبين أن مقتل والدي الصبية سببه سرعة الزوج إلى امرأته الراقدة في المستشفى. 
تشابك المعطيات كلها مشغول بحرفية سينمائية لافتة للانتباه، وخصوصاً أن سرد الحكايات الثلاث مكتوب بسلاسة، وإن كان المضمون قاسياً. تشابك كهذا موجود في «عصفوري»، الروائي الطويل الأول أيضاً لفؤاد عليوان. تشابك يفضي إلى عالم ينتقل في الزمن بين راهن الإعمار الذي سحق المدينة وفضاءاتها وأنماط عيشها، وماض أليم صنعته الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، ممزِقة عائلات وبيئات وأزقة وذكريات. في أحد مباني المدينة الآيلة إلى السقوط، والمرشحة للبيع من الوحش العقاري، تدور أحداث الفيلم وتروي حكايات شخصياته. مبنى يعجز ساكنوه عن التوافق في ما بينهم لما فيه مصلحة الجميع، بينما يقيم أحدهم في زمنه العتيق عاجزاً عن الخروج إلى راهن الحرب، في حين تلتهم هذه الأخيرة كل شيء، فإذا بالشاب يهاجر، والموت يبقى سيد اللعبة. يرتكز «عصفوري» على تفاصيل الحياة المنتقلة من حالة إلى أخرى، وعلى قصص أناس ضاعوا في الحرب، وسقطوا أسرى سلم لعين، وعاشوا أزمنتهم في الخوف والقلق والتشتت والانهيارات والآلام والأحلام الموءودة. 
تتبدى الصورة واضحة: على الرغم من بروز أفلام سيئة تعالج مواضيع مهمة بلغة مسطحة وركيكة، تبشِر صناعة السينما في لبنان بالخير، لأن هناك نتاجات عديدة جادة ومهمة أنجزها مخرجون امتلكوا خصوصية الأسلوب في مقاربة المادة الدرامية، وأتقنوا تحويل هذه المادة، بمعطياتها كلها، إلى أفلام جديرة بالمشاهدة والنقاش النقدي ■