سينما العرقيات

سينما العرقيات

كانت السينما في منطقة البلقان عامة وجمهوريات ما كان يسمى سابقاً بالاتحاد اليوغوسلافي قد حققت انتشاراً عالمياً واسعاً بعد أن حصل المخرج البوسني الأصل الصربي الجنسية أمير كوستاريكا (Emir Kusturica) من مواليد عام 1954، على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1985 عن فيلم (حينما ذهب والدي للعمل) When Father Was Away On Business، وعام 1995 عن فيلم (تحت الأرض) Underground.ثم جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين عام 2006 عن فيلم (غربافيتشا) Grbavica

 

يأتي استدعاء هذه الالتفاتة إلى سينما البلقان مع مشاهدتي لفيلم (طريق حليمة)، وهو الفيلم الكرواتي الذي شاهدته ضمن فعاليات مهرجان صيفي ثقافي الذي ينظمه المجلس الوطني للفنون والآداب بدولة الكويت، والفيلم من إخراج (أرسين أنطون إسيتوجيك). وكان فيلم (طريق حليمة) قد عرض أيضاً ضمن أفلام (حقوق الإنسان) في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الخامس والثلاثين 2012، كما حصل الفيلم على الجائزة الكبرى في مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الأبيض المتوسط في دورته التاسعة عشرة في شهر مارس (آذار) الماضي 2013، واختارت لجنة تحكيم الفيلم الطويل منح دور أفضل دور نسائي للممثلة الكرواتية (ألفا فكنوفيتش) عن دورها في الفيلم.
الفيلم يمكن تصنيفه بأنه فيلم إنساني اجتماعي في المقام الأول وهو يتطرق لموضوع شائك وغريب علينا كمجتمعات عربية مسلمة في معظمها، تتعايش بصورة حضارية مع أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى إلى حد كبير، إذ كيف يمكن لفتاة مسلمة أن تتزوج من رجل مخالف لدينها وتعيش معه وتنجب منه البنين والبنات؟! مبدئياً لم أتعاطف مع القضية لأنها في الأساس غير مقبولة، فالأمر خطير ومحرم تماماً ولا يمكن أن يحدث وإلا اعتبرت خارجة عن الدين ومرتدة، وهو كذلك ما تناولته أفلام سابقة، مثل فيلم بومباي (الهند) التي يوجد بها الأمر ذاته؛ تعدد الأديان. 
الفيلم من إنتاج كرواتي ويقدم أحداثه على خلفية حملات التطهير العرقي التي ارتكبها الصرب بحق مسلمي البوسنة والهرسك إبان الحرب التي كانت قائمة هناك في الفترة ما بين عامي 1992-1995، تلك الحرب التي راح ضحيتها مائة ألف مواطن معظمهم من المسلمين. وتدور الأحداث التي استمد مخرجها وقائعها من قصة حقيقية، كما جاء في مقدمة الفيلم، في عام 1977 في قرية تقع غرب البوسنة والهرسك أيام كان الاتحاد اليوغوسلافي قائماً بين ست جمهوريات هي: (البوسنة والهرسك، كرواتيا، صربيا، الجبل الأسود، مقدونيا، سلوفينيا) ذلك الاتحاد بين الجمهوريات الشعبية الذي أسسه جوزيف تيتو بعد أن تخلصت البلاد من الاحتلال الألماني عام 1945 وظل رئيساً لهذا الاتحاد حتى وفاته عام 1980، وكانت وفاته هي بداية النهاية للاتحاد اليوغوسلافي.

طريق حليمة
في عام 1977 تلجأ الفتاة المسلمة (صفية) إلى منزل عمتها (حليمة) وتطلب منها أن تحميها من والدها (عبده)لأنه سيقتلها لو عرف بأمر حملها في الشهر الثاني من دون زواج... ولكن الصدمة والكارثة ليست في مجرد حملها ولكن في أن رفيقها شاب مسيحي صربي يدعى (سلافو)! يعرف والدها بأمر الفضيحة وينهال عليها ضرباً في اللحظة التي يدخل فيها (سلافو) حديقة المنزل ويضرب والد صفية على رأسه حتى يتوقف عن ضربها ولما يهاجمه شقيق صفية يلوذ (سلافو) بالفرار ويقوم شقيق صفية بطردها من المنزل، لتلجأ إلى عمتها حليمة.
تنتقل الأحداث إلى العام 2000، أي بعد مرور 23 عاما على هذه الواقعة.. تنتهي حرب الإبادة التي شهدتها البوسنة والهرسك وعانى منها مسلموها على يد الجيش الصربي والمواطنين الصربيين بلا رحمة ولا هوادة وعلى مرأى ومسمع المجتمع الدولي.
 لكن مخرج الفيلم يستدعي هذه المجازر وتلك التجاوزات اللاإنسانية بصورة بعيدة تماماً عن العنف والدموية والتي طالما تمتلئ بها تلك النوعية من الأفلام التي تدور أحداثها في فترات الحروب والويلات المصاحبة لها.
تتذكر حليمة بصورة دائمة المشهد نفسه المؤثر جداً وهي تتوسل للجنود الصربيين أن يتركوا ولدها (ميرزا) وزوجها (سالكو) ولكنهم يقتادونهما بلا رحمة إلى سيارة الترحيلات التي كانوا ينقلون فيها الرجال والشباب من أجل إعدامهم.
تبحث حليمة عن رفات زوجها بعد أن سلمت بعثة الأمم المتحدة عينة دم من شقيق زوجها وتنجح في العثور على رفاته، لكنها لا تتمكن من العثور على رفات ولدها (ميرزا)، لأنه ابن (صفية) الذي حملت به سفاحاً وتركته لعمتها خشية الفضيحة وأخبرت والدها أن الوليد مات أثناء الولادة.
صراع الهويات المتعددة، الذي تعاني منه حليمة، شأنها كبقية اليوغسلاف، الذين يعيشون وعلى أكتافهم اليوم ما تنوء به ثقلاً من المآسي، والصعوبات، والذكريات المرة. لا يمكن أن نرى الفيلم دون أن نتأمل فكرة الوطن الذي يذيب الهويات العرقية لمصلحة الدولة القومية، في مقابل مفهوم القبيلة، أو مفهوم الأمة، فهذان المفهومان الأخيران لا يعترفان بهوية الوطن، حيث تذوب الحدود الجغرافية في عباءات الأفكار عن ماضي القبيلة أو أوهام الإمبراطوريات. 
كانت صفية قد هربت مع (سلافو) الصربي بعد أن عاد من ألمانيا عام 1979، وتزوجته وأنجبت منه ثلاث بنات في مقاطعة تقع في الجانب الصربي من المدينة، لذلك تقرر حليمة بعد 21 عاماً أن تذهب إلى صفية لتطلب منها أن تسلم عينة دم لإجراء تحليل (دي إن إيه) ليتمكن الفريق الأممي من تحديد هوية رفات (ميرزا) بعد أن تم العثور على مقابر جماعية كثيرة لمسلمين بوسنيين قام الصرب بإعدامهم ودفنهم في مقابر جماعية. يستعرض الفيلم في مشهد مأساوي مجموعات من رفات المسلمين في مختبر كبير وتحمل كل مجموعة من الرفات رقماً، ويتم تسليم الرفات لأهل المتوفى حتى يتمكنوا من دفنه بعد عمل تحليل البصمة الوراثية.
والمثير أنه على الرغم من شهرة هذه المشاهد تسجيلياً، وخاصة أن إحياء ذكراها السنوية يتم وسط تركيز إعلامي كبير، على الأقل في الشرق العربي والمسلم، فإن استدعاءها في الفيلم ضمن نسيج درامي يؤجج المشاعر مجدداً، فالضحايا لم يعودوا مجرد أرقام، بل هم أناس رأيتهم واستمعت إليهم، وعرفت معاناة أهليهم في العثور على رفاتهم. 
تعاني صفية من إدمان زوجها (سلافو) واضطرابه النفسي بعد انتهاء الحرب، ولما تطلب منها حليمة تسليم عينة دم لبعثة الأمم المتحدة لكنها ترفض وتخبرها أن (سلافو) سيقتلها لو عرف أن ابنهما على قيد الحياة.
هنا يصل الفيلم إلى ذروة الأحداث، فحليمة ترى للمرة الأولى صورة (سلافو) زوج صفية، وتستدعي نفس الموقف الذي كان الجنود الصربيون يأخذون زوجها وابنها بالقوة من منزلهم لإعدامهم مع بقية الشباب والرجال المسلمين، إنه كان واحداً منهم.. لقد كان ضمن الجنود الصرب الجزارين... لقد تذكرته تماماً، فقد تحدث معها وقتها وأخبرها أن زوجها وابنها سيعودان... ولكنهما لم يرجعا... لقد قتل ابنه، دون أن يعرف!!! 
تنهار (حليمة ) وتعود إلى منزلها دون أن تتحدث إلى (صفية)... تتصاعد الخلافات بين صفية وزوجها سلافو بسبب إدمانه للخمور وعدم تجاوزه لأزمة الحرب واهتزاز صورته أمام بناته.. تقرر صفية أن تذهب إلى عمتها (حليمة) وهنا تخبرها حليمة أن زوجها قتل ميرزا ابنها وابنه خلال حملات التطهير العرقي وتعطيها صورة لميرزا عندما كان عمره 16 عاماً قبل أن يقتله والده عندما كان في الخدمة العسكرية.
تعثر حليمة, بعد أن علمت أم ميرزا الحقيقة, على رفات ولدها (ميرزا) وهنا تقرر صفية أن تواجه زوجها (سلافو ) بالحقيقة.. إنه هو من قتل ولده.... وبالفعل تخبره بالحقيقة المأساوية التي ينتحر بعدها مباشرة ويتم دفنه في مقابر المسيحيين الأرثوذكس، بينما يدفن (ميرزا) في مقابر المسلمين. وكأن ما جمعته الحياة خطأ، يرضخ لحقيقة الموت، فيتفرق. وهنا يظهر جده والد صفية ويشارك في دفنه، تشارك حليمة في مراسم الدفن وتضع السترة التي كانت قد حاكتها من أجله وهي في رحلة بحثها الطويلة عن رفاته.. وينتهي الفيلم وهو يتأمل حفيداته الثلاث اللاتي انتقلن مع أمهن إلى الجانب المسلم من المدينة.. محاولاً تجاوز الماضي وبحثاً عن مستقبل أفضل لأجيال لا ذنب لها في صراعات طائفية وإثنية لم تخلف وراءها إلا القتل والدماء والكراهية على مر التاريخ ■