سينما الأقليات

سينما الأقليات

تحوّل الفن السابع في العالم بعد مرور أكثر من قرن ونيف من اكتشاف الصورة السينمائية، إلى لسان حال العديد من الأمم والمجتمعات، يعبر عن الماضي والمستقبل، بحلوه ومره، خيره وشره، لكنها أمم تتجنب الحاضر بكل ألوانه، خوفاً من عدم نقل الصورة الحقيقية المعبّرة عنه، وانكشاف خداع الصورة وزيفها لدى الجمهور، وبالتالي سقوط الثقة التي سعى الناص «السلطة» على صناعتها لمدة طويلة لدى المتلقي «الجمهور» الشره الباحث عن حركية الصورة وتلاعبها بالمخيال، بعدما تحوّلت إلى أكثر الوسائل التواصلية شيوعاً لدى الناس، لإسقاطها العديد من العوامل التي يصعب شرحها أدبياً، على عكس الطريقة العلمية التي تعتمد على توافر المعطيات والمرجعية والتسميات ذات الصلة بطريقة عمل الدماغ وتقبله الحسي والحركي للمادة العضوية بشكل عام، والصورة السينمائية بشكل خاص، ومدى سيطرتها على العقل الباطن وانعكاسها على تصرف الفرد في خدمة هدف مسطر ومعد له مسبقاً، ولن نقدر على الاقتراب من هذا الشرح العلمي إلا عن طريق التمكن من فهم سيرورة الطريقة العصبية والنفسية، ليصبح الفن أداة دعاية عملاقة لدى الكثير من الجهات، بعد الوقوف والتعرف على خطورته وقوته التي لا تقاوم، وتحوله لسلاح فتاك وجب منعه على العديد من المجتمعات، بعد التمكن من جميع آلياته الفنية والتقنية لضمان السيطرة الكلية وتوسيع رقعتها لتمتد على جميع شعوب العالم، على غرار كبرى شركات الإنتاج العالمية المنضوية تحت قبة «هوليوود» العملاقة، وقد استعملت العديد من الأنظمة الشمولية هذه السياسيات نفسها على شعوبها، وبالطريقة والآليات نفسها التي مورست ضدها، بغية ضمان سيطرة كلية ومنع بقية الأقليات من الاقتراب منها، بل والسعي إلى تكسير جميع المحاولات التي تتخذ في هذا الباب، سواء كان بالمنع أو عدم الدعم المالي والمادي لها، وصولا إلى حد التخوين في حالة الاعتماد على وسائل أخرى، بعد أن تم طرق جميع الأبواب المحلية الموصدة، وهذا على غرار العديد من الدول، منها دول المغرب والصحراء الكبرى بمالي والنيجر وجزر الكناري، وهو المحور الذي يدور فيه فلك هذا الحديث، الذي سنتطرق فيه إلى السينما الأمازيغية بوصفها سينما الأقليات في حيزها الجغرافي والمكاني عبر العديد من المراحل الزمنية.

 

أجرت وحدة الأبحاث بجريدة «الشرق الأوسط» دراسة مهمة نشرت على صفحات عدد 7 ربيـع الأول 1426 هـ 15 أبريل 2005 (العدد 9635) حول نسبة توزيع الأقليات العرقية والدينية واللغوية في العالم العربي، ومنها دول المغرب الكبير، حيث رسمت خارطة توضيحية حول نسبة كل أقلية مقارنة بالتعداد العام للسكان، من بينهم الأمازيغ، حيث حددت نسبتهم بالمملكة المغربية بـ 36 بالمئة، والجزائر 26 في المائة، وموريتانيا 40 في المائة تجمع بينهم وبين العرب والبقية موزعة بين عرقيات أخرى، كما أن هناك نسب أخرى موزعة على كل من تونس ومصر وليبيا لم تشر إليها الدراسة، بالإضافة إلى دول أخرى على غرار كل من النيجر ومالي وبوركينافاسو، فضلاً عن بعض فئات أمازيغية أخرى منتشرة في العديد من الدول الإفريقية تمثلهم فئة الطوارق، وزد عليها أصول سكان جزر الكناري الموجودة على المحيط الأطلسي وهي جزر واقعة تحت سيطرة الدولة الإسبانية، ونحن حين نضع هذه الأرقام التي تخص الدول التي نتحدث عنها، إنما أردنا تقوية موضوعنا وتعزيزه، ولنقترب أكثر من مشكلات وتحديات الأمازيغ في رسمهم للفسيفساء الثقافية التي تمثلهم، وسعيهم الحثيث لتعبيد طرق أشد متانة لتحديد معالم سينما تعكس انتماءهم وهويتهم وتراثهم وتاريخهم العريق.
شكلت التجربة الجزائرية في مجال السينما الأمازيغية السبق والريادة، حيث كانت البداية سنة 1965 على يد أحد كبار المخرجين الأمازيغ، وهو عبدالرحمان بوقرموح الذي يعتبر أبوالسينما الأمازيغية في العالم، بعدما أخرج في السنة المذكورة شريطاً متوسطاً بعنوان «مثل الروح» باللهجة الأمازيغية، مقتبس عن رواية للكاتب مالك حداد، في وقت كان الحديث فيه عن الثقافة الأمازيغية بصفة عامة يعد من بين التابوهات والخطوط الحمر التي لا يجب تجاوزها، وسنرجع إلى تجربة هذا المخرج الكبير الذي اخترناه كأنموذج لتجربة السينما الأمازيغية بالقليل من التفصيل، وقد وقع هذا الاختيار عليه لإسهامه الكبير في دعم الحركية السينمائية في المجال التكويني بشقه التقني والفني والأيديولوجي، رغم تعرضه للكثير من التضييق والحصار بعد أن رفض المساومة والتنازل عن مبادئه الفنية والمرجعية.

سينما أمازيغية
بعد أكثر من 25 سنة من إنتاج وإخراج أول فيلم أمازيغي في الجزائر جاء الدور على المغرب الذي كانت أولى تجاربه في هذا الفن مع الفيلم الذي أنتج نهاية الثمانينيات، على يد المخرج الحسين بيزيكارن، يحمل عنوان «تامغارت وورغ» وترجمته بالعربية «امرأة من ذهب» لتأتي بعدها العديد من التجارب التي قام بها هواة غير متمكنين من آليات السينما، وهذا بإنتاج أفلام الفيديو والـ«في سي دي»، تدخل في خانة التسجيلي والأفلام القصيرة والمتوسطة، لكنها تبقى تجارب ننظر لها من جانبها التاريخي والزماني الضيقين، ويجب اعتبارها بدايات ومحاولات يجب احترامها والتأريخ لها كفيلموغرافيا مغربية خالصة وهي أكثر من نظيرتها الجزائرية من ناحية الكم، وبعد مرور أكثر من عشرية كاملة من إنتاج الأفلام السينمائية البعيدة عن كل أشكال الاحتراف والجدية، ونحن إذ نقول سينما فإنما نقولها بتحفُّظ، لمعرفتنا بقيمة ووزن الفن، وأظن بأن الكثير من الزملاء المغاربة يؤيدون هذا الطرح، خاصة النقاد الذين يهتمون بتاريخ الفيلم الأمازيغي المغربي والمغاربي والملمين بخباياه.
أما السينما في ليبيا بصفة عامة فقد كانت تجربتها تقريباً متأخرة النمو، حيث كانت بدايتها سنة 1970 بصناعة الأفلام التسجيلية، وتعتمد في الكثير منها على الأرشيف الفيلموغارفي الذي تركه المستعمر الإيطالي وقد صوّر معظمه على الأراضي الليبية بداية من سنة 1911، لتأتي بعدها المرحلة الثانية مع بداية سنة 1979 مع بعض الأفلام الروائية، وأغلبها أفلام أنتجت بالشراكة مع الدول الأجنبية، ومذ ذاك الحين وإلى يومنا هذا بقت تلك التجربة تراوح مكانها ولم يتم تسجيل أي تجربة في مجال إنتاج أو دعم السينما الأمازيغية رغم نموهم الديمغرافي الكبير، وبعد قيام الثورة الليبية بدأ الأمازيغ يلملمون جراحهم ويتهيأون للدخول إلى عالم السينما، لتكون أول هذه التجارب مشاركة المخرج الليبي الشاب أزرو سالم بفيلم قصير بعنوان «تموست ن تينيري» بمهرجان «اسني ن ورغ» الذي أقيم في مدينة أغادير بالمغرب، حيث تم تصنيف هذا الشاب المولود أوائل التسعينيات كأصغر مخرج يشارك بالمهرجان حيث جاء إليه بكل حب وعزيمة ويتأبط معه مع الفيلم التجهيزات التي استعملها لصناعته.
رغم أن عجلة السينما في تونس تدور بشكل عادي وبفنية واحترافية كبيرين في الكثير من الأحيان فإنه لم يتم إنتاج أي فيلم ناطق باللغة الأمازيغية، رغم وجود هذه الأقلية العرقية بكثرة غرب البلاد والتي هيكلت نفسها في إطار اتحادات وتجمعات حقوقية تطالب بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي بحقها في دعم سينما أمازيغية تحاكي هويتهم وانتماءهم العرقي بوصفهم السكان الأصليين لشمال إفريقيا، تجربة موريتانيا السينمائية هي الأخرى تدور في حلقة مفرغة، وتبقى بعيدة عن المسار الثقافي والعلمي الكبير الذي يتمتع به الفرد الموريتاني، بسبب المفهوم الخاطئ الذي تكوّن لدى السلطة الدينية في سبعينيات القرن الماضي عن السينما، حيث حرمت الجمهور من حقه في التسلية والتفريج عن نفسه من خلالها، بعد أن أغلقت الكثير من قاعات السينما التي كانت منتشرة، ليتم تحويلها من فضاء ثقافي إلى مستودعات تجارية، وبخطوات بطيئة بدأ بعض الهواة يجمعون أفكارهم ويؤسسون لأنفسهم متناً سينمائياً حديثاً، لتكون البداية بتأسيس أيام نواكشوط السينمائية، حيث يتم عرض بعض التجارب التي يصنعها هواة بتقنية الفيديو، كما أن هناك تجارب سينمائية يجب ذكرها لولعها الكبير بالصورة السينمائية وغيرتها المفرطة على الفن في بلدها وهي المخرجة والممثلة السمراء لاله بنت كابر، حيث تبحث هذه الشابة دوماً عن طرق ومسارب جديدة تفرغ من خلالها شحنتها الفنية وتعبّر من خلالها عن حبها المطلق للسينما، كما لا يمكن التحدث عن السينما الموريتانية دون المرور على تجربة المخرج محمد هندو المقيم في فرنسا، حيث استطاع هذا الرجل الذي تمتد تجربته منذ سنة 1967 إلى يومنا هذا، أن يوصل صوت موريتانيا سينمائياً، أما أكثر تجارب هذا البلد الصحراوي نضجاً واحترافية هي تلك التي تنعكس في أعمال المخرج الموريتاني المقيم في فرنسا عبدالرحمان سيساقو، الذي أنجز العديد من الأفلام التي شارك بها في كبريات مهرجانات العالم، منها مهرجان كان، ونال عليها عديد الجوائز، حيث سمح له تكوينه السينمائي الجيد الذي تلقى مبادئه العلمية والتقنية والفنية في روسيا بالتعرف على جزئيات الفن العريق، لكن التجربة الأمازيغية في كل هذا لن تصنع غداً بسبب لامبالاة السلطة وغياب كل أشكال الدعم، حتى مهرجان نواكشط يتم تمويله بمجهود فردي من طرف محبين للفن السينمائي، وهذا ما يحدث في الساحة السينمائية لدى أمازيغ مالي والنيجر وبوركينافاسو الذين يعانون التهميش والطمس، على عكس أمازيغ جزر الكناري الذين يبحثون عن ذواتهم وهوياتهم من خلال السينما، وقد شجعهم على هذا النداءات التي كان يطلقها زعيمهم الروحي والمدافع عن استقلال جزر الكناري أنطونيو كوبيل الذي توفي السنة الماضية عن عمر ناهز الـ 82، قضى معظمها مدافعاً عن القيم والهوية الأمازيغية، إذ كانت انطلاقته من الجزائر حين أسس حركة استقلال جزر الكناري، وبعد سنوات من النضال تعرض فيها لمحاولة اغتيال من طرف الأمن الإسباني، بعدها عرض عليه تسوية فوافق، لكنه كان ولايزال الأب الروحي والمدافع الشرس عن أمازيغ جزر الكناري، وقد ساهم مساهمة فعالة في تطوير وتشجيع السينما الأمازيغية في هذه الجزر التي تقع شمال المغرب. 

علامات فارقة
بعد فترة من المعاناة جاءت بعض التجارب السينمائية التي حفظت ماء الوجه للسينما الأمازيغية، على غرار التجارب الحديثة الذي صنعها المخرج عزالدين مدور (1947-1997) الذي أنجز فيلماً روائياً طويلاً وبتقنيات سينمائية حديثة، بعنوان «جبل باية». تدور وقائع هذه القصة الاجتماعية السياسية الرائعة في إحدى القرى الجبلية، إبان السنوات الأولى للاستعمار الفرنسي، يبين الفيلم وقائع تعرُّض زوج باية، بطلة الفيلم، للقتل من طرف ابن أحد الحكام، من أجل أن يتزوجها بعدما شاع بين الناس وصف جمال وسحر هذه المرأة الرمز، ترفض الزواج وتأخذ دية عن زوجها المتوفى، بعدها يطمع سكان القرية في هذه الدية بحجة أن القرية تحتاج إلى تصليح بعد تعرضها للتخريب من طرف الاستعمار الفرنسي، لم تقبل باية هذا العرض وتنتظر الفرصة المواتية من أجل تحريض ابنها على الثأر لمقتل والده، ليكون لها هذا في الليلة التي تزوج فيها القاتل، تسلم الدية بعدها لأهل القتيل الذي كان بالأمس القريب قاتلاً، في عملية زمنية وتصادمية غريبة، دراما تاريخية مشوقة صنعها المخرج مدور، لكنه لم يعش ليرى النجاح الكبير الذي حققه فيلمه، بعدما لقي حتفه أثناء تأدية أحد مشاهد التفجير في الفيلم، لكنه استطاع أن ينقل الأجواء التي يصنعها السكان الأصليون للجزائر ممثلين في الأمازيغ، وهذا بنقل تناقضاتهم اليومية التي يعيشونها، في تلك الثنائيات والمفارقات، بين الحب والكره، والحرب والسلم، الوفاء والغدر، كما نجح المخرج في نقل البنية العمرانية والثقافة الأمازيغية المنعكسة في اللباس والحلي والبساطة.
وغير بعيدين عن هذا الفيلم أنجز المخرج الفرانكوجزائري عمور حكار سنة 2006 فيلماً روائياً طويلاً بعنوان «البيت الأصفر»، الذي أدى فيه دور الأب رفقة الممثلة تونس آيت وعلي التي أدت دور الأم، فيما أدت الممثلة الصغيرة آية حامدي دور الطفلة، تدور وقائع هذا الفيلم المدعم من طرف وزارة الثقافة الجزائرية بمناسبة «الجزائر عاصمة الثقافة العربية» في الجهة الشرقية للجزائر بولاية خنشلة التي ينتمي سكانها إلى الأمازيغ الشاوية، وهي اللهجة التي اعتمدها الفيلم.
أعود وأقول بأن وقائع الفيلم تدور حول عائلة بسيطة مفجوعة في وفاة ابنها المنخرط في صفوف الدرك الوطني، (وهو جهاز أمني بالجزائر) في حادث مرور، تبدأ رحلة الوالد في البحث عن جثة ابنه من ثكنة إلى أخرى ومن مستشفى إلى آخر، في مواجهة العراقيل الإدارية والتصريحات، بعدها يتم سرقة الجثة من مصلحة حفظ الجثث بالمستشفى، وينطلق بها على متن جراره الفلاحي الصغير إلى قريته النائية، بعدها تبدأ رحلته الثانية من أجل توصيل بيته بالكهرباء، لأجل تشغيل شريط فيديو يظهر فيه ابنه، وقد نقل الفيلم حياة المواطن الجزائري البسيط بسلبياته وإيجابيته وعلاقته مع المؤسسات الحكومية، كما أفرط الفيلم في إظهار سذاجة هذا الفلاح، المهم أن المخرج استطاع أن يشعل شمعة في سماء السينما الأمازيغية، حيث شارك بهذا الفيلم في أغلب مهرجانات السينما المنتشرة في العالم، ونال عليه أكثر من 30 جائزة، منها:
ثلاث جوائز في مهرجان لوكارنو (سويسرا سنة 2007).
وجائزتان في مهرجان موسترا دو فالانسيا (إسبانيا 2007).
وجائزة أحسن فيلم في مهرجان نابولي (إيطاليا 2008).
جائزتان في مهرجان غروزني (الشيشان 2008).
الجائزة الخاصة بلجنة التحكيم في مهرجان قرطاج (تونس 2008).
جائزة الجمهور في مهرجان السينما الأفريقية في فيرونا (إيطاليا 2008).

مشكلات وتحديات
حدد النقاد والمهتمون بالسينما الأمازيغية في دول المغرب الكبير، الكثير من النقاط والمشكلات التي جعلت من السينما الأمازيغية تمشي خطوة إلى الأمام وتعود خطوتين إلى الوراء، ومن أهمها النقص الكبير الذي بالكاد يكون غياباً كلياً لبرامج التمويل المالي، خاصة في المملكة المغربية عن طريق مركزها السينمائي الذي لم يلق بالاً للسينما الأمازيغية، إذ لم يتجاوز عدد الأفلام الأمازيغية التي قام بتمويلها أكثر من 6 أفلام منذ تأسيس هذه الهيئة السينمائية، ومن هنا بدأت رحلة البحث المتواصل عن سبل إنتاج أفلام التكلفة المنخفضة، بالاعتماد على الوسائل البسيطة المتوافرة والتقليل من قائمة التقنيات التي يجب توافرها لصناعة فيلم سينمائي، بالإضافة إلى النقص الكبير في الخبرات التقنية والفنية، ما فتح الباب واسعاً للأعمال الرديئة، والمصورة بتقنية فيديو الهواة، التي لا يعتمد أغلبها على سيناريو جاهز ومحبوك، بل بالعكس ذهبوا إلى عملية التأليف الجماعي، ما جعل المتن يبتعد كل البعد عن الطريق الصحيح، بعد تداخل الأفكار وعدم ترتيبها، بالإضافة إلى الثيمات التي يتم اختيارها في هذه الأفلام، التي يدور أغلبها حول المواضيع الاجتماعية الفجة، كالزواج والطلاق والمخدرات والسحر والشعوذة، لتتم معالجتها بطريقة غير فنية، ومع الوقت اعتاد هؤلاء على هذه السينما، التي فتحت لبعضهم فرصة للربح، بعدما تم فرضها على الجمهور المتعطش لثقافته ولهجته، حتى أنه تعوّد على أسلوبها وقضاياها ببساطتها، بالتالي سقطت لوقت طويل فكرة السينما الجادة التي بدأت تظهر بداية من سنة 2006 في المملكة المغربية على عكس نظيرتها الجزائرية، وكل هذه المعطيات السلبية كانت وليدة نقص الدعم المالي وغياب التكوين في العديد من المجالات الفنية، من تمثيل ومونتاج وتصوير وإخراج وحتى كتابة السيناريو التي تكون في الغالب تعتمد على الموهبة المصقولة بتقنية الشكل، وزد على ذلك عدم تدويل القضايا الثقافية في شقها السينمائي إعلامياً، خاصة الثقيل منه كالتلفزيون الرسمي، وهذا على مدى عقود من الزمن في كل البلدان المغاربية رغم التعداد السكاني الكبير الذي يعكس هذه الفئة، وتكتفي تلك القنوات بدبلجة بعض الحصص والسكاتشات والمسلسلات، لذر الرماد في العيون، وبعد ضغوط طويلة تم في الجزائر افتتاح أول قناة تلفزيونية ناطقة باللهجة الأمازيغية سنة 2000 بالإضافة إلى تعديل الدستور والاعتراف بهذه اللهجة كلغة وطنية سنة 1997، وبعدها بـ 13 سنة تم فتح قناة «تامازيغت» بالمملكة المغربية سنة 2010، بالإضافة إلى قناة ليبية بدأت تخلق المجال للإنتاج الدرامي والسينمائي الأمازيغي، لتنفتح بعض الأبواب التي كانت موصدة لعقود من الزمن، وتبدأ في الظهور بعض القبائل الأخرى التي كانت مقبورة ومحرومة من أبسط الحقوق.

التأسيس بأثر رجعي
بعد سنوات من التناسي المتعمد بدأت أخيراً السينما الأمازيغية تؤسس لنفسها، بالأدوات الصحيحة والمشروعة، بخلق مهرجانات سنوية ودورية تجمع المنتوج السينمائي الناطق بالأمازيغية أو المدبلج لها بالإضافة إلى سينما الأقليات عبر العالم، التي تساعد على ظهورها والأخذ بيدها، على غرار مهرجان السينما الأمازيغية الذي يقام سنويا بولاية تيزي  أوزو الواقعة وسط الجزائر، حيث عرفت الدورة الـ13 التي جرت فعالياتها في شهر مارس الماضي، مشاركة أكثر من 33 عملاً، تنافست على عديد الجوائز المهمة، منها جائزة الزيتونة الذهبية للفيلم الروائي، وجائزة المواهب الشابة حيث انعكست مشاركتهم في هذه الفعاليات بـ17 عملا، أتيحت لهم الفرصة للاحتكاك بكبار صناع السينما، من أجل الاستفادة من التجربة وتلاقح الأفكار والتشبع بقيم الثقافة الفنية، بالإضافة إلى الجائزة التي تمنح لأحسن عمل مدبلج، وهي جائزة مستحدثة تهدف إلى حث صناع السينما على دبلجة الأعمال إلى اللهجة الأمازيغية، كما نظمت على هامش المهرجان ندوات علمية وأدبية، شارك فيها العديد من الباحثين والسينمائيين والمهتمين بالهوية الأمازيغية، إذ عقدت ندوة بعنوان «الثورة الجزائرية في مرآة إيمي سيزار وفرانس فانون» وندوة أخرى بعنوان «اقتباس الأعمال الأدبية، مشاكل ومشاريع»، بالإضافة إلى مهرجان أسني ن ورغ الذي يقام بأغادير بالمغرب، حيث تم اكتشاف من خلال هذا المهرجان العديد من الأمازيغ الذين يتحدثون اللهجة الأمازيغية بطلاقة ويحافظون عليها أباً عن جد، وهم أمازيغ سيوة التي تتبع الدولة المصرية وتبعد عن عاصمتها حوالي 900 كيلومتر، كما شهد مهرجان أغادير تنظيم العديد من الورشات الفنية المدعمة من طرف العديد من الهيئات الخاصة والعامة، ومنها السفارة الأمريكية، أما خارج دول المغرب الكبير فقد تم تأسيس مهرجان سنوي آخر يهتم بالسينما الأمازيغية يقام في فرنسا، تدعمه وزارة الثقافة الفرنسية ووسائل إعلامية كبيرة على غرار إذاعة «مونت كارلو» الدولية وقناة «فرانس24» الإخبارية، ليكون هذا المهرجان أهم رافد للثقافة الأمازيغية في الخارج، حيث يكون جامعاً للجاليات هناك، كما كانت الفرصة مواتية لاكتشاف العديد من الأقليات الأمازيغية المنتشرة عبر دول العالم، ومنها أمازيغ جزر الكناري، وقد تعدى المهرجان حدود السينما الأمازيغية إلى واقع سينما الأقليات المنتشرة في جميع دول العالم، ليكون المهرجان فرصة مواتية لعقد العديد من الصفقات السينمائية، ومنها إبرام عقود الأفلام المشتركة والمدعمة من طرف الجمعيات والمؤسسات والمنظمات الدولية، بالإضافة إلى الأيام السينمائية والجلسات النقدية التي تقام طوال أيام السنة، وقد ساهمت هذه الفضاءات الجامعة في لمّ شمل صناع السينما في المغرب الكبير وجزر الكناري والصحراء الكبرى، ما أسهم في فتح نقاشات جادة حول سبل تطوير هذا الفن وترقيته، والتعرف على آخر الأعمال الفنية في هذا الباب، ما سمح باكتشاف بعض الأعمال، كالفيلم الوثائقي المعنون بـ «أمازيغ مصر» لمخرجه داود حسن.

 تجربة عبدالرحمان بوقرموح «نموذجاً»
تشاء المصادفة أن يكون رحيله سينمائياً، كيف لا والجزائر لاتزال تحتفل بخمسينية السينما، ويكون الشهر الذي يولد فيه يرحل فيه، شيّع جسده الذي أنهكته السنوات والمرض على وقع تساقط مطر خفيف، يتداخل فيه ضباب شتوي، تحرسه الأشجار المحيطة بالمنطقة، خلف تلك «الربوة المنسية»، أنفاس المشيعين تتصاعد إلى الأعلى كأعمدة دخان تصدر من مداخن قديمة متعبة، والوجوه تتفرس النعش المحمول على الأكتاف، وروحه الدافئة تنظر للعديد من الشخصيات السياسية والفنية التي حضرت، من وزراء وبرلمانيين وصناع سينما، تبتسم- أي روحه - وتقول في سرها وصمتها البرزخي: «ما أكثركم اليوم، أتعبتموني برفضكم لي وقهركم لرؤاي، ووأدكم لمشروعي الإنساني، وما أقلكم اليوم، أرحتموني بقبولكم لي، وتشجيعكم لرؤاي، ودعمكم لمشروعي الإنساني»، ينقطع الصوت، تسمع تشويشاً، ظهوراً تدريجياً، يُسمع صوت خفيف بين المشيعين يسأل قائلا: «يا صاح أرني كيف مات، يسمع الجواب: صه، بل قل أرني كيف عاش».
بهذا المشهد السينمائي الأخير الذي تكفل بإخراجه الموت بتقنيات طبيعية، يكون قد رحل السينمائي الكبير عبدالرحمان بوقرموح، بعد صراع طويل مع المرض، عن عمر يناهز الـ77 سنة، يوم 3 فبراير من العام الحالي 2013، بأحد مستشفيات العاصمة، بعد فترة قضاها المرحوم طريح الفراش في هذا المستشفى، فترة دامت حوالي أسبوعين كاملين، بسبب مرض عضال كان قد ألمَّ به، هذا الرجل الذي عاش حياة شبيهة بقصص الأفلام السينمائية، مليئة بالحياة والحركة والتحدي والدراما، وبرحيله تفقد السينما الأمازيغية أحد صناع متنها، والمدافعين عنها وعن ثقافتها دفاع المستميت.
 ولد بوقرموح يوم 28 فبراير سنة 1936 بقرية «إيغزر أمقران» ببلدية «أوزلاقن» بولاية بجاية، من أب مثقف متعلم وملمّ باللغة الفرنسية إلماما كبيرا، إذ ذاك كان مدرسا لها بإحدى المدارس الفرنسية، ومن أم أمية لا تجيد القراءة ولا الكتابة، لكن يقال إنها كانت خزانة للأدب الشعبي الأمازيغي، وهذا لحفظها الكثير من قصائد الأدب الشعبي، الذي يخلّد بطولات أبناء المنطقة عبر التاريخ، ويروي أمجادهم بطريقة فنية، لينعكس هذا الجو على تكوين الابن، الذي يغدو هو الآخر متشبعا بالقيم الفنية والتعليمية، حيث يتدرج في تعليمه، ليصل إلى المرحلة الثانوية التي يكمل فصولها بولاية سطيف التاريخية، وبذلك يكون شاهدا على مرحلة مهمة من تاريخ الجزائر، ويقرأ بنفسه صفحة من مجلدات تاريخ المستعمر الفرنسي الأسود، حينما يبيد أكثر من 45 ألف جزائري يوم 8 مايو 1945 بطريقة أقل ما يقال عنها بأنها وحشية بشعة، بهذه الولاية وأماكن أخرى، على خلفية خروج الشعب الجزائري مذكراً فرنسا بوعد الاستقلال الذي طرحته على الشعب الجزائري في حالة تغلُّبها على ألمانيا، فكان ردها كما ذكر، أقول بأن بوقرموح كان شاهدا على هذه المجزرة الرهيبة، التي أثرت فيه بشكل أو بآخر، ليواصل الرجل تحصيله العلمي، وينتقل إلى باريس (عاصمة الجن والملائكة)، تعرف من خلالها على عالم آخر كان يجهله تماما، وواصل دراسته هناك، في المعهد العالي للدراسات السينمائية تخصص إخراج، إلى أن تحصَّل على شهادته سنة 1960، ليلتحق بعدها باستديوهات الإذاعة الفرنسية كموظف بها، وبعد استقلال الجزائر بسنة، أي سنة 1963، عاد إلى أرض الوطن، من أجل أن يساهم في بناء مؤسساته، وخاصة أنه يملك الخبرة في المجال السينماتغرافي، ليبدأ مع مجموعة من السينمائيين الشباب، على رأسهم المخرج الكبير محمد لخضر حمينة (1930)، في تأسيس المركز الوطني للسينما، وبالموازاة مع ذلك عمل بالإذاعة والتلفزيون الجزائري، وقد كان وقتها من أشد المدافعين عن الثقافة والإرث الأمازيغيين، ما جعل السلطات تضع اسمه في الخانة السوداء، وتطرده بعدها من هذا المركز، ليلتحق بالمعارضة السياسية.

السقوط في فخ المنع
كانت أولى تجارب عبدالرحمان الإخراجية مع الفيلم الذي اقتبسه عن الكاتب الكبير مالك حداد، بعنوان «مثل الروح» سنة 1965، لكن السلطة الجزائرية وقتها ممثلة في وزارة الثقافة رفضت عرضه، بعدما امتنع المخرج عن دبلجته إلى اللغة العربية، وبالتالي ظهرت خلفياته الثقافية، كمدافع عن الحقوق الفكرية للأمازيغ الجزائريين، ليصر على عرض الفيلم المذكور بلغته الأمازيغية، من دون تغيير أو تحريف، إيماناً منه بأن السينما تحوي كل اللغات والثقافات، وهي أهم رافد للتعريف بها، وخصوصاً أن شعوب الأمازيغ هم السكان الأصليون لشمال إفريقيا، وهو الطرح الذي سبب له اضطهاداً فنياً وسياسياً خلال مشواره الفني، ليفرض عليه حصاراً شاملاً.
 بعدما جفت عليه كل منابع الدعم، ودخل مجبرا في بطالة فنية، اتصل به صديقه المخرج حمينة، ليشتغل معه مساعد مخرج في محاولة من هذا الأخير لكسر الحصار المفروض عليه، لتكون العودة مع فيلم «وقائع سنين الجمر»، الذي كتب نصه توفيق فارس مع محمد الأخضر حمينة، وأنتجه المركز الوطني للتجارة والصناعة السينيماتوغرافية سنة 1974، وبعد سنة نظَّم مهرجان «كان» السينمائي، ودخل الفيلم في المنافسة الرسمية على جائزة السعفة الذهبية وتحصَّل عليها بكل اقتدار وسط ذهول المشاركين، الذين تعجبوا من عبقرية فريق العمل لهذا الفيلم، ومنهم مساعد المخرج عبدالرحمان بوقرموح، ليواصل ابن القبائل الصغرى رحلته الإخراجية بكل حب واقتدار، منها الفيلم الذي أخرجه في فرنسا سنة 1978 بعنوان «عصافير الصيف»، وأعمال أخرى منها ما هو تسجيلي ومنها ما هو تلفزيوني، لتأتي سنة 1980 حيث أخرج فيلما بعنوان «كحله وبيضه»، وقد حقق هذا الفيلم نجاحاً جماهيرياً كبيراً، وخاصة أن مخرجه غاص في تفاصيل وحيثيات التشجيع في لعبة كرة القدم، واختار هذه اللعبة العالمية كثيمة للفيلم، و«كحله وبيضه» يقصد بها اللونين اللذين يرمزان لفريق وفاق سطيف. وسنة 1986 أخرج فيلماً آخر بعنوان «صراخ الحجر».

«الربوة المنسية» وإظهار سر العبقرية
عاد بوقرموح صاحب المواقف والمبادئ بعد 10 سنوات من إنجازه لآخر عمل، بعدما دفع ضريبة النجاح باختفاء قسري ومبرمج بفيلم روائي طويل، يعد كعلامة فارقة في تاريخ السينما الأمازيغية، بعنوان «الربوة المنسية» عن قصة بنفس العنوان للكاتب الكبير مولود معمري (1917-1989)، ليكون اللقاء أمازيغيا بصفة كبيرة، إذ إن المخرج وكاتب النص وواضع الموسيقى شريف خدام ممن يحسبون على منطقة القبائل ومناصري الثقافة الأمازيغية، وقد تم إنتاج هذا الفيلم سنة 1996، في وقت كانت فيه البلاد تعاني من الأزمة الأمنية، مما أثر في عملية الإنتاج السينمائي بصفة عامة، ليكون هذا العمل بمنزلة تكسير للحصار الذي فرض على السينما في الجزائر كحلقة من حلقات القطاعات الأخرى، ليعيد التاريخ نفسه، بعدما عانى هو أيضا من هذا الحصار الذي فرضته عليه السلطة يأتي ويحاول أن يفكه عنها.
أقول إن هذا الفيلم أظهر من خلاله المخرج جمالية كبيرة، وخلفيات ثقافية للأمازيغ، حيث يعالج تفاصيل حكاية شاب قبل الحرب العالمية الأولى، بطريقة فنية ومبتكرة أظهر من خلالها لمسته الفنية الكبيرة وطريقته المبتكرة في الإخراج السينمائي، بعيداً عن التصنع الذي يقتل العمل الفني، وخاصة أن الروائي صاحب العمل معروف عليه حرفيته العالية، ونقله لهموم الشباب ويومياتهم عبر صفحات الرواية، التي نجح في نقلها عبدالرحمان للسينما نجاحاً كبيراً، وحافظ من خلالها على روح الرواية وصدقها وحتى جزئياتها، في عملية تحويل أمين إن صح هذا التعبير، من الحرف الجامد إلى الحركية السينمائية، وبالتالي يكون صاحب «صراخ الحجر» قد أحيا اللقاء القديم الذي جمعه بالكاتب مولود معمري، في باريس من سنة 1957، وأحس بأحقية إخراج كتابات صديقه، وخاصة أن المخرج أحمد راشدي سبق أن أخرج عملا بعنوان «الأفيون والعصا» سنة 1969، لنفس الكاتب، وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً، وفتح الباب واسعاً لهذا المخرج.
ليتفرغ بعدها المخرج الذي غاب عنه التمويل، إلى تأطير وتكوين العديد من الشباب والهواة ومحبي الفن السينمائي، في عملية بحث دائم عن سبل يعرف ويخدم من خلالها الثقافة الأمازيغية التي أعطاها كل وقته، وتحمّل لأجلها أهوال الحصار والقتل الفني، لكنه حافظ على مبادئه التي كانت صلبة كالحجر، لم تحركها الرياح العاتية التي تهب من ناحية السلطة، ولم تقدر حتى على تحريكها من مكانها، لتشعب الجذور وغوصها في عمق الأرض، ولأنه كان يعلم بأن أهم مكسب للإنسان هي المبادئ، ليكون بذلك مثقفاً بأتم معنى الكلمة، وسينمائيا من طينة نادرة، إذ حافظ على أهم الأسس التي ينبغي توافرها في المخرج، من ثبات في الرؤى، ومحافظة على الاتجاه الأيديولوجي مهما كان التوجه - بغضّ النظر عن الموافقة أو عدم الموافقة عليه-، والتكوين التقني وتحكُّمه في الصنعة جيداً.
وقد ساهم بشكل كبير في تأسيس المهرجان السنوي للسينما الأمازيغية سنة 2000، وحافظ على استمراريته إلى يومنا هذا، إذ أعطاه كل الوقت والجهد الضروريين، لضمان النجاح، من أجل اعتناق كل التجارب السينمائية التي تصدر باللهجات المضطهدة، وقد كرمه هذا المهرجان، حينما منحه جائزة «الزيتونة الذهبية» عن فيلمه الخالد «الربوة المنسية»، وهذا عندما نقل تنظيم المهرجان بولاية تلمسان التي تقع في الجهة الغربية للوطن، بمناسبة اختيار هذه المدينة كعاصمة للثقافة الإسلامية، وقد لعب بوقرموح دورا كبيرا في تنظيمه؛ إذ كان محافظا له.
بموت بوقرموح تكون الساحة السينمائية والثقافية الجزائرية والمغاربية قد فقدت أحد ركائزها، لتنطفئ شمعة من شموع الأمازيغ، لكنها ما إن تفل حتى تشتعل أخرى أشد ضياء ونورا، وخصوصاً أن بوقرموح أعد تربة خصبة، ووضع فيها الزرع المناسب، بعدما وفر كل ظروف نموها، في انتظار أن تظهر الغلة ويبدأ الجني والقطف ■