كيس فان دونجن «باريسية من مونمارتر»

كيس فان دونجن «باريسية من مونمارتر»

يشكّل الرسام كيس فان دونجن صلة الوصل ما بين عالمنا اليوم وعالم الانطباعية الذي يوغل في القدم. فهذا الفنان الذي ولد في روتردام - هولندا عام 1877م، وعاش معظم حياته في فرنسا قبل أن يتوفى في مونتي كارلو عام 1968م، زامل في شبابه ديغاس ولوتريك، ولاحقاً بيكاسو وماتيس، ورسم في شيخوخته شخصيات معاصرة لايزال بعضها على قيد الحياة مثل الممثلة الفرنسية بريجيت باردو (1959م). 

 

بدأ فان دونجن دراسة الرسم في الأكاديمية الملكية الهولندية في روتردام وهو في سن السادسة عشرة من عمره. وتأكد نبوغه عند انتقاله إلى باريس عام 1899م للإقامة الدائمة فيها، حيث صادق كبار أساتذتها آنذاك، ساعياً مع فنانين آخرين مثل هنري روسو وفويار وديلوناي إلى إخراج الانطباعية من مأزقها عبر تأسيس ما عرف لاحقاً «الانطباعية الجديدة». في العام 1905م، شكّلت مشاركته في معرض الخريف في باريس إعلاناً عن ولادة مدرسة فنية جديدة عرفت باسم «الوحشيين»، بسبب اعتمادها الألوان الفجة جداً والخطوط الغليظة، وضمت إضافة إلى فان دونجن: هنري ماتيس وأندريه دوران وجورج براك وغيرهم. مما لا شك فيه أن فان دونجن هو أطول «الوحشيين» عمراً واستمرارية، وأغزرهم إنتاجاً. ومنذ «العصر الجميل» أي سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى، وحتى ستينيات القرن العشرين، صبّ الفنان معظم جهوده في رسم صور شخصية لنساء من الطبقة البرجوازية في باريس، واللوحة التي نقف أمامها هنا واحدة من أفضل النماذج المعبرة عن شخصيته الفنية وأيضاً عن ماهية «الوحشيين».
أول ما يستوقفنا في «باريسية من مونمارتر» التي تعود إلى العام 1907م، هو هذا التناقض القوي ما بين الألوان الزاهية في المرأة والخلفية الداكنة حتى السواد. وهذا التناقض هو من الملامح الجمالية الأساسية عند معظم الوحشيين. غير أن السمة الأبرز لهذا التيار الفني تكمن في استخدام الألوان وفق منطق غير مألوف (حتى آنذاك)، بشكل لا يكترث لألوان الأصل.
صحيح أن وجه المرأة يبدو مثل ثوبها، شاحباً بالأصفر والأبيض والوردي، ولكن هذا الشحوب هو أقرب إلى أن يكون خدعة بصرية، بسبب تناقضه مع صخب الألوان في القبعة التي تشغل نحو نصف مساحة اللوحة، وحيث يجتمع البرتقالي بالأبيض والأحمر والأزرق.. وغالباً كما تخرج هذه الألوان من أنابيبها دون مزجها بألوان أخرى. ولإيجاد صلة ما بين الصخب الفج في القبعة وما تحتها، لم يتردد الفنان برسم خط الأنف باللون الأخضر!
لعب هذا التركيز الشديد على الأناقة دوراً مهماً في مسيرة الفنان وترسيخ شعبيته في صفوف سيدات البرجوازية الباريسية، اللواتي أحببن هذا النوع من المديح القائم على مدح المظهر والأناقة.
وقد عبّر الفنان بنفسه عن ذلك بقوله الشهير: «المهم إطالة قاماتهن وإظهارهن نحيلات. وبعد ذلك، لا يبقى غير تضخيم مجوهراتهن». ولكن إن صحّت هذه الرؤية في وقت ما، فإن تبدل القيم والمفاهيم أسقطها لاحقاً، ولذا يجمع النقاد على أن أعمال السنوات الأخيرة من عمر الفنان لا ترقى أبداً إلى ما كانت له قبل نصف قرن ■