إقبال العثيمين.. في «رماد الروضة» جرائم الغزو.. واختراق جدار الصمت
الكتابة بطبيعتها تقاوم انكسار الروح، والإيمان الذي يعمر قلب المبدع وشعبه لا يقتصر على الإيمان بالحق فحسب، وإنما يمتد إلى أفق إنساني يتسع فيه لمستوى رحب من الإيمان بالمستقبل، وانتصار الحق ودحر الباطل. هذه المعاني تؤكدها الكاتبة والأكاديمية الكويتية الدكتورة إقبال العثيمين في روايتها الأولى (رماد الروضة) الصادرة عن دار العين بالقاهرة حديثا. فرغم مرور ثلاثة وعشرين عاما على جريمة الغزو العراقي للكويت، فإن الكاتبة مازالت تعاني ضغط حالات الحصار والدمار والنهب والسرقة وتدمير البنية التحتية لشعب مسالم لاقي الأمرّين من جاره الشقيق العراق الذي كان خاضعا لسلطة تراودها أحلام زائفة بالزعامة حتى ولو جاءت على جثث الأشقاء.
تخرج إقبال العثيمين إلينا، من قلب المحنة والعذاب، في هذه الرواية لتحيل الوجود العربي المختنق بأخبار المأساة والدم إلى قطرات صافية من السرد والفن. إنها تفعل ذلك من داخل التجربة والبيوت الكويتية ذاتها؛ تبتلع صلابتها وعنادها، وأحزانها وأشواقها لتشكل منها رؤية نقدية وخارقة، تحيل بها الكينونة المهددة إلى تحقق إبداعي وجمالي خلاق. يجعل من ولادة الكتابة إعمارا للكون بالحق والخير ونفيا للألم والظلم.
وترتقي بالنضال الكويتي الذي شاركت فيه بجسدها إلى معراج للروح الإنسانية كلها، حيث قررت العثيمين البقاء بالكويت ورفضت الهجرة، رغم خطورة ذلك على حياتها بعد قرار أسرتها السفر برا إلى السعودية ومناشدتهم لها بضرورة الهجرة. إنها قصة الحب في ما تبقى من الذات في منطقة «الروضة»؛ إحدى ضواحي مدينة الكويت.
الصدمة
تبدأ الرواية بمشهد الصدمة حينما جاءت أختها نوال برفقة زوجها وأولادها وهي تبكي لتخبرها أنهم في أثناء مرورهم بسيارتهم من أمام معسكر «جيوان» شاهدوا ما اعتبروه أول مظاهر الاحتلال العراقي للكويت، فقد رأوا الجنود العراقيين يطلقون النار على المعسكر بهدف السيطرة عليه، وربما كان الأمر الأكثر فظاعة هو مشاهدة الجنود الكويتيين وهم يهربون وقد تخلوا عن زيهم العسكري رامين ملابسهم في الشوارع خوفا من الاعتقال.
وتجسد العثيمين منظور المرأة، لا عبر لغتها كما هو الشائع، بل عبر حركتها ونشاطها فهي تصور تجربة التكاتف بين نساء الحي وكيفية تشكُّل المواقف والاتجاهات، مما يجعل منظور المرأة قادرًا على التقاط الحس الوطني والتفاعلات السياسية ورصد نموها، حيث أصبح منزل العائلة الواحدة في الكويت مقرا يجمع العديد من العوائل الأخرى وكانت هذه الوسيلة الوحيدة لاستقواء هذه العائلات بعضها ببعض لحماية أنفسهم (وأخذت الحياة اليومية تغير من إيقاعها، إذ إن أغلبية من بقي من الرجال كانوا يفضلون المكوث في المنازل خوفًا من الاعتقالات، أما النساء فقد تحملن في المقابل أعباء إضافية والقيام بواجبات مزدوجة ومضاعفة، فكنّ هنّ من يذهبن إلى السوق لشراء احتياجات البيوت، كما كن يقمن أحيانًا بأعمال ومهام الرجال).
الرواية شهادة مثقلة بالأحداث والخبرات والتجارب، تقدمها كـــــــاتبة مرهفة الإحساس موفورة الذخيرة الإنسانية والحياتية والمهنية، مشدودة إلى هوى قومي طاغ أصبح جرحا نافذا
بلا نهــــاية. وترصد العثيمين موقف منظمة التحرير الفلسطينية من الغزو العراقي للكويت المـــؤيد للـــغزو بكثير من الأسى ومـــا تـرتب عليه من المــزيد من ردود الأفــعال الغاضبة من المواطنين الكويتيين تجاه القضية الفلسطينية، حيث ذهبت مع صديقتها فريال إلى مكتب منظمة التحـــرير الفلسطينية في الكــــــــويت حتى
لا يلتبس الأمر على الكويتــــــيين من جراء تصـــــــرفات بــــــــــعض الفلسطينيين اللامسئولة التي قد تؤدي إلى تمزيق القضية وفقدان اليقين بــــها، ولكــنـهـــما خرجتا من مكتب المسئول الفلسطيني تجران أذيال الخيبة بعد أن قال لهما عــــبارة واحدة فقط: «يصير خير».
واللــــغــــة في الـنص الــــــــــروائــــي واكـــــــبت الشخصية والموقف والحالة، فأسهمت في تطوير الحدث، والإبانة عن تجليات الذات في ثنائياتها، وتعددت مستويات اللغة، فهي قادرة على توصيل المعنوي في تشييئه، أو اقتناص صورة تخيلية تضفي جمالا تعبيريا وشعريا، وإحاطة التعبير اللغوي بمدركات الحس الفني، فتصف الكاتبة مشهد الوداع الحزين لعائلتها فتقول: كان توديع بدرية وأمي قاسيا، وتلبّسنا شعور غامض نحو المستقبل، وما ستؤول إليه أمورنا ومصيرنا دون أن يتمكن أي منا من اليقين في أي شيء ودون الإجابة عن السؤال الخاص بمستقبلنا: هل سيلتئم شمل العائلة من جديد على أرض الكويت؟. ونظرًا لإيماني الشديد بالقضية الفلسطينية، وتشبعي بها، شعرت في لحظات الوداع تلك بلسعة من الألم وصرت أقول لنفسي: «هم قد صاروا من كويتيي الخارج، ونحن من بقي سنصير من كويتيي الداخل!.. يا لهذه المفارقة، ويا لهذا الإحساس الغريب!».
وتستكمل العثيمين في القصص التالية فصولاً تشبه سيرتها الذاتية أيضًا، مما يعطيها نكهة الرواية، وإن تخللتها حكايات مختلفة، فضمير المتكلم يضمن قدرًا من وحدة المنظور والتركيز على شهور المحنة السبعة تكفل الإطار الزمني/المكاني وذكريات الماضي تستوي في يد الفنان كأنها قطع من التاريخ الحي، تقول مثلاً: «علمت بالقرار الذي اتخذته أمي؛ هي التي نشأت وكبرت في منطقة الزبير، وكذلك زوج أختي، فقد كانا يدركان طبيعة النظام العسكري الشمولي، وكانا أيضًا على معرفة جيدة بما تجلبه الانقلابات العسكرية في العراق من ويلات ومصائب، وربما قد ذاقا شيئا من مرارة رؤية الجنود بسلوكهم الذي يتسم عادة بالقسوة واللامبالاة، وربما الفوضوية أحيانًا، في أثناء وبعد الانقلابات العسكرية التي شهدها العراق في تاريخه الحديث». وهي تروي الأحداث بعين المرأة، وتجعل من المرأة نموذجًا للحب والوطن الضائعين، وتركز حدقتها على مشهد المكان: «فقد وجدت أفراد العائلة جميعًا وقد تكدسوا تقريبًا في مكان واحد، وبدا أن كل فرد منا قد حاول أن يحشر نفسه، بطريقة ما، في صالة البيت بطريقة تنم عن البؤس. فثمة من افترش الأرض، وآخر نام جالسًا على الكرسي، وثمة آخر اضطجع على الأريكة، ثم غلبه النوم، وهناك من تقرفص بجسمه قرب جهاز الراديو بينما لم تفارقه نظرات الخوف والاندهاش».
وإذا كانت الكلمات الأخيرة تكثف المعنى المباشر لمطلع الرواية، باعتبار الفن انعكاسًا للواقع الفاجع، فإن ذاكرة الراوي وهي تحتفظ بوضوح بطزاجة الألوان والحركات وحيوية المشاهد وتفاصيلها الدقيقة من بعد مكاني كبير تبدو مدهشة؛ لأن لحظة الكتابة فيما تسفر عنه الرواية تقع بعد ثلاثة وعشرين عاما من هذا المشهد، مما يطرح سؤالا تقنيًا في فنون السرد عن تباعد الفن والواقع، حيث طورت العثيمين من مفهوم الواقع الفني لتجعله أشد حيوية وخصوبة من الواقع الحرفي للحياة المعتادة، إذ لم تكن دعوة النساء للتدريب على الإسعافات الأولية وحدها السبب الرئيسي وراء الاتصال ببيوت المنطقة، لكن كانت هناك أسباب أخرى؛ فمع توارد الأخبار عن احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة على الأبواب، من أجل تحرير الكويت، تزايدت الشائعات والأخبار عن كميات وحجم وتقنيات الأسلحة الحديثة التي ستستخدم من أجل طرد الطاغية صدام من الكويت: «وقد أدى تناقل هذه الأخبار إلى إصابة العديد من المواطنين باضطرابات نفسية جسيمة بسبب مشاعر الخوف، فبمجرد فكرة وجود هذا الحشد العسكري الضخم كان بإمكانه أن يصيب أي منا بالهلع» وتمتلك الكاتبة شجاعة استخدام الكلمات الكويتية، فحينما علم شقيقها سليمان المقيم مع أسرته في فنلندا وهو في طريقه إلى المطار بدخول القوات العراقية الكويت حاول الاتصال بشقيقته التي بدورها كانت نائمة ونهرت الخادمة «بروكسي» أكثر من مرة لأنها تصر على إبلاغها بوجود سليمان على الهاتف وإلحاحه على ضرورة التحدث إليها، فالتقطت العثيمين سماعة التليفون من الخادمة قائلة لسليمان: «سليمان، إشهالغشمره»؟ التي تعني المزاح، كما تمتلئ ذاكرة الكاتبة بالوجدان الكويتي في أسلوب تركيب الجملة مثل مقولة شقيقتها بدرية: «هذا الحين مو وقته إن شاء الله يحطون جوادر»، حيث سجلت الكاتبة اعتراضها على ارتداء الطفلتين الصغيريتين الحجاب الكامل الذي يغطي كامل الرأس وظهورهما كقطتين أصابهما الهلع وصرخت في وجه بدرية قائلة: «يا جماعة التفتوا على عيالكم! شوفوا الخوف إشسوّا فيهم». كما تمتلئ الرواية بروح السخرية العذبة .. فبعد توقف البث التلفزيوني لمدة شهر تقريبًا بعدما استولى الجنود العراقيون على مبنى محطة البحث، وحين قرروا إعادته فعلوا ذلك بإمكانات متواضعة للغاية، وكانت البرامج ونشرات الأخبار لا تخلو من الفكاهة والانحطاط، إن لم نصفها بالسذاجة المفرطة، وأحيانا كان البث يبدأ بمقابلات مفتعلة مع بعض الجنود العراقيين، والتي تتعلق بمدى استمتاعهم بالصيد، وراحت الكاميرا تلتقط الصور في زيارة يتيمة للسواحل الكويتية، حيث تجرى عمليات الصيد. وفي واحدة من تلك المقابلات الساذجة توجه المذيع إلى أربعة جنود، وعندما سألهم عن نوع السمك الذي اصطادوه، كانت إجابتهم بأنه سمك الزبيدي، وهو أشهر أنواع السمك في الكويت. وإجابة كهذه كانت كفيلة بضحك أي شخص كويتي.. فسمكة الزبيدي تبدو دائما مضغوطة من الجانبين، ويوجد على رأسها نقطة سوداء، وعادة ما تكون أطراف زعانفها غامقة اللون. ومن المعروف أيضا أن سمك الزبيدي يعوم على شكل سرب أو جماعات كبيرة عند القيعان الطينية لشواطئ البحر، ويتم اصطياده بواسطة الشباك فقط، ولا يُصطاد بالسنارة كما ظهر في البث الحي.
والوعي بمفردات الشخصية الكويتية هو ما طبع الرواية بروح التعددية النابذة للأحادية الرافضة للتعصب، وبالتالي ظهر تعدد الأصوات جليا في الرواية مثلا: تذكر الكاتبة أنه في صباح اليوم التالي لتحرير الكويت (26 فبراير 1991) دار حديث بين الكاتبة والروائي الكويتي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل حول المقاومة المسلحة، حيث كان أحد قياديي مجموعة «أبو الفهود» في المقاومة الكويتية: «سألته قائلة: إسماعيل أعلم بأن حركة المقاومة بدأت بعفوية وتلقائية في جميع المناطق، فمنطقة كيفان ظلت تقاوم، وبقيت مطوقة لفترة، ودارت معارك حولها، ومنطقة الرميثية كذلك لكنها توقفت بعد فترة، إلا أن مجموعتكم أكملت في منطقة الروضة (حيث منزل والده هناك) ونحن سكان الروضة عانينا كثيرًا من جراء أعمال المقاومة المسلحة وقتلكم للجنود في المخفر كان نتيجته الرد الانتقامي للجنود العراقيين على سكان الروضة بالتشديد علينا وتضييق الخناق ومضايقتنا.
وأكملت: «القوات الكويتية التي قامت بالتصدي للغزو العراقي، ما استطاعت أن تصمد أمامهم لأنها معركة غير متكافئة وانتهت باحتلال الكويت، فما بالك ونحن شعب أعزل؟!».
وترصد الكاتبة ردود أفعال كلامها من جانبه: «امتعض إسماعيل مما قلته، وأجابني بأن ما ذهبت إليه ليس بصحيح وتساءل: كيف إذن نبين رفضنا للاحتلال؟! وأضاف بحدة: لابد أن تكون هناك تضحيات.. رأيت الحزن والغضب يعتريان وجهه وقد حاول جاهدا أن يخفيهما، وعرفت بعدها أن هذا ليس سوى ألم إيمانه بما قام به هو ومجموعته التي كان أحد أفرادها شقيقه الشاب بدر القاضي الذي وقع في الأسر وتم إعدامه من قبل الجنود العراقيين».
كما ترفض الكاتبة سياسة العنف المسلح ورائدها في هذا الزعيم الهندي غاندي، وثمنت العصيان المدني الذي نفذه الكويتيون طوال فترة الغزو وأدى إلى هزيمة الآخر لما له من تأثيرات إيجابية وهذا الموقف نابع من كون الكاتبة عاشت فترة طويلة من حياتها بالهند، فالمجتمع الهندي الذي يشكل سكانه سدس الكرة الأرضية تقريبا وبتنوعاته العرقية والدينية والطائفية أجبر الإمبراطورية البريطانية على مغادرة الهند من خلال تطبيق سياسة التسامح واللاعنف التي تحلى بها هذا الشعب ■