جماعة أبولّو.. ثورة شعراء الشباب في ثلاثينيات القرن العشرين

جماعة أبولّو.. ثورة شعراء الشباب  في ثلاثينيات القرن العشرين

توطئة:
كان قيام جماعة أبولو الشعرية في مصر عام 1932 برئاسة أحمد زكي أبو شادي، والرئاسة الشرفية لأمير الشعراء أحمد شوقي حدثًا شعريًّا ثوريًّا، يمثل منعطفًا كبيرًا في مسار الشعر العربي والقصيدة العربية، وإضافة نوعية إلى الإبداعات الشعرية التي أنجزها الإحيائيون من قبل، وشعراء المهجر العربي في الأمريكتين: الشمالية والجنوبية، وشعراء جماعة الديوان في مصر.

 

وفي القصيدة التي حيا بها شوقي ميلاد هذه الجماعة - قبل رحيله بأسبوعين - التفاتة إلى الدور الذي ستقوم به والمستقبل الشعري الواعد الذي يمثله هؤلاء الشعراء الشباب المجددون والإضافة التي سيقدمونها لديوان الشعر العربي الحديث وهو يقول: 
أبولو، مرحبا بك يا أبولو
فإنك من عكاظ الشعر ظلُّ
وصولاً إلى قوله:
عسى تأتيننا بمعلّقاتٍ
نروح على القديم بها نُدلُّ
لعلَّ مواهبًا خفيت وضاعتْ
تذاعُ على يديك وتُستغلُّ
صحائفك المدبَّجةُ الحواشي
ربى الورد الـمُفتَّح أو أَجلُّ
رياحينُ الرياض يُملُّ منها
وريحان القرائح لا يُملُّ
يُمهد عبقريُّ الشعر فيها
لكلِّ ذخيرةٍ فيها محلُّ
وفي التقديم الذي كتبته للمختارات الشعرية لجماعة أبولو التي صدرت في مناسبة ملتقى الشعر العربي الدولي الثالث (دورة أبولو) أشرت إلى كوكبة شعراء الشباب - في مصر وفي أقطار عربية شتى - تعزف أنغامها الجديدة، وتقدم قصيدتها المغايرة للقصيدة السائدة في زمانها: لغة وحساسية ووجدانًا وموسيقى، وإلى تأثرهم بقراءاتهم في الشعر الأجنبي، وبخاصة ما ترجم من قصائده - عن الإنجليزية والفرنسية - إلى اللغة العربية، وإلى الروح الجديدة التي دبّت في الشعر المصري والعربي، تفيض بها القصائد التي نشرتها مجلة أبولو التي رأس تحريرها أحمد زكي أبو شادي، وهيأت لها الكتابات التي نشرتها المجلة مبشرة باتجاهها الجديد الذي مثلته أشعار علي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وإبراهيم ناجي ومحمد عبدالمعطي الهمشري وخليل شيبوب وغيرهم في مصر، وأبو القاسم الشابي في تونس، ونظائرهم من المجايلين لهم في لبنان وسورية والعراق. ولم تكد ثلاثينيات القرن العشرين تكتمل، حتى كان شعر هؤلاء الشعراء هو المعبِّر عن ثورة شعرية جديدة، لها سماتها المميزة في الفكر والخيال واللغة والتوجّه، والأفق الشعري الرحب الذي ينتظم دوائرها العاطفية والوطنية والقومية والإنسانية. وأصبح هذا الشعر صوت عصرهم الشعري، يتجاوب مع نظائره في الآداب الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، ويوطّد لمكانته الثورية الجديدة، المتجاوزة لقيم شعر الإحياء التي سادت منذ مطالع العصر الحديث، بفضل الدور الذي قام به محمود سامي البارودي وتابعه فيه أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري وغيرهم، على الرغم من وجود عناصر ولفتات وجدانية في شعر هؤلاء وأضرابهم، لم يخْل منها الشعر العربي على مدار تاريخه، منذ كان شعر العذريين في العصرين الإسلامي والأموي يحمل بعض عناصر هذا الاتجاه، الذي سماه بعض النقاد «الاتجاه الوجداني» بديلاً «للاتجاه الرومانسي» الذي عُرفت به جماعة أبولو، وكانت لها الريادة فيه والإضافة الحقيقية إليه.
فلنقلّب إذن بعض الصفحات المتوهِّجة بشعر هذه الجماعة الثورية التي أضافت وغيّرتْ وأحدثت مسارات جديدة للقصيدة العربية منذ انفجار بركانها في ثلاثينيات القرن الماضي. يقول محمود أبو الوفا في القصيدة التي تغنَّى بها الموسيقار محمد عبدالوهاب وذاعت شهرتها بفضل ما حوته من رقة وحساسية جديدة وعناق كوني:
عندما يأتي المساء
ونجوم الليل تُنثرْ
اسألوا لي الليل عن نجمي
متى نجمي يظهر
***
عندما تبدو النجوم
في السما مثل اللآلي
اسألوا هل من حبيبٍ
عنده علمٌ بحالي؟
***
كلّ نجم راح في الليل بنجمٍ يَتنوّرْ
غير قلبي، فهو مازال على الأفق مُحيّرْ
***
ياحبيبى لك روحي
لك ما شئت وأكثر
إنّ روحي خير أفْقٍ
فيه أنوارك تظهر
***
كلّما وجّهتُ عيني
نحو لـمّاح الُمحيّا 
لم أجد في الأفْقِ نجمًا 
واحدًا يرنو إليّا
***
هل ترى يا ليل أحظى
منك بالعطف عليّا
فأغنى، وحبيبي
والمنى، بين يديّا
 وعلى مسافة من شعر محمود أبو الوفا الذي عاش بين عامي 1900، 1979 كان هناك الشاعر محمد عبدالمعطي الهمشري الذي رحل عن ثلاثين عامًا، وهو في ميعة الشباب، كالشهاب الذي التَمع في سماء الشعر ولم يطل توهّجه، لكنه استطاع أن يخترق الذاكرة الشعرية التي احتفظت بروائعه، بالرغم من حياته القصيرة (1908 - 1938)، وفي مقدمتها قصيدته الرومانسية - التي تحمل الطابع المميز لشعر جماعة أبولو والتفاتهم القوي إلى الطبيعة المصرية وصفًا وعناقًا وذوبانًا فيها -  
«أحلام النارنجة الذابلة»:
كانت لنا عند السياج شجيرةٌ
ألِفَ الغناءَ بظلّها الزرزورُ
طفِقَ الربيعُ يزورها متخفّيًا
فيفيض منها في الحديقة نورُ
حتى إذا حلّ الصباح تنفّست
فيها الزهور وزقزق العصفورُ
وسرى إلى أرض الحديقة كُلِّها
نبأُ الربيع وركبهُ المسحورُ
كانت لنا يا ليْتَها دامت لنا 
أو دام يهتفُ فوقها الزرزورُ!
***
قد كنتُ أجلسُ صوْبها في شرفتي 
أو كنت أجلسُ تحتها في ظُلَّتي
أو كنت أرقبُ في الضحى زرزورها
مُتهلِّلاً يَغْشَى نوافذَ غُرفتي
طورًا يُنقّرُ في الزجاجِ، وتارةً
يسمو يُزرْزرُ في وِكار سقيفتي
فإذا رآني طار في أُغرودةٍ
بيضاءَ واستوفى غصُون شُجيْرتي
كانت لنا، ياليتها دامتْ لنا
أو دام يهتفُ فوقها الزرزورُ
***
فمتى يئوبُ هتافُه؟ ومتى أرى
نوّاركِ الثلجيَّ يا نارنجتي؟
ومتى أطيرُ إليكِ ترقصُ مُهجتي
فرِحًا وآخذُ مجلسي من شُرفتي؟
***
هيهات لن أنسى بظلّكِ مجلسي
وأنا أُراعي الأفْقَ نصْفَ مُغمّضِ
خنَقتْ جُفوني ذكرياتٌ حُلوةٌ
من عطركِ القمريِّ والنغم الوضي
فانساب منكِ على كليل مشاعري
ينبوع لحنٍ في الخيال مُفضّض
وهفت عليكِ الروحُ من وادي الأسى
لتعبَّ من خمر الأريجِ الأبيضِ
كانت لنا يا ليتها دامتْ لنا
أو دام يهتفُ فوقها الزرزورُ
  ***  
نارنجتي والله مُذْ فارقْتِني
وأنا حليفُ كآبةٍ خرساءِ
أصبحتُ بعدكِ في انقباضٍ مُوحشٍ
وكأنني منه مساءُ شتاءِ
تتناثر الأعطار في آفاقها
روحي إليكِ وراء كلِّ فضاءِ 
وترفُّ في دهليز كلِّ أشعةٍ
قمراءَ أو ترنيمةٍ بيضاءِ
***
قد كنتُ أرجو أن تكون نهايتي
في ظلِّ هذا السور حيث أراكِ
ويكون آخرَ ما يُخدِّرُ مسمعي
زُرزوركِ الهتّافُ فوق ذُراكِ
ويطوف في غيبوبتي فيفُيقني
فجرٌ قصيرُ البعث من ريّاكِ
والآن إذ عجَل القضاءُ فإنما
سيقومُ في الذكرى خيالُ شذاكِ
وتحملنا أوراق جماعة أبولو وما تضُمه من شعرٍ مغاير ونَفَسٍ شعري مختلف ومذاق شعري يتلبّس إيقاعًا جديدًا إلى نبضٍ جديد يمثله هذا الشعر في موجاته الأولى وموجاته المتعاقبة، تأكيدًا لدور الجماعة الثوري في الحركة الشعرية العربية الحديثة، وإطلاقًا جديدًا لهذه الروح الثورية التي لا يكون الشعر بدونها شعرًا مجددًا ومتجددًا بالمعنى الحقيقي. وهو أمر لم يغب عن بصر رواد حركة الشعر الجديد الذين انطلقت قصائدهم التجديدية منذ ختام الأربعينيات وأوائل خمسينيات القرن الماضي، وسرعان ما أُخذت تمثل التيار الشعري الذي سُمِّي بالشعر الحر والشعر الجديد وشعر التفعيلة. ولم يُخْفِ شعراء الموجة الأولى للشعر الجديد - في العراق ومصر - حقيقة إعجابهم الشديد وتأثرهم بأعلام الحركة الرومانسية من شعراء جماعة أبولو. فقد بدأوا قصائدهم الأولى معتزين بالدور الطليعي والثوري لشعراء أبولو الكبار، وبخاصة علي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وإبراهيم ناجي ومحمد عبدالمعطي الهمشري. وقد أفصح عن هذا الإعجاب والتأثر في مناسبات عدَّة بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري في العراق، وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي في مصر.
يقول الشاعر السوريّ المولد (اللاذقية عام 1892) المصري السكندريّ الإقامة حتى رحيله (1951) خليل شيبوب في قصيدة عنوانها «الحديقة الميتة والقصر البالي» وهي من النماذج الأولى المبكرة في شعر جماعة أبولّو:
أمرُّ عليها كلَّ يومٍ فأبصرُ
أشجارها مهشومة الأغصانِ
ويأخذني حزن عليها فأشعرُ
باليأس يعقل خاطري ولساني
***
تهدَّمَ السور حولها فبدا 
للعين عُريُ الحديقة
كأنها مليحة
قد خلعت جمالها
فأصبحت قبيحة
كاسيةً أسمالها
من القلوب الشفيفة
رقص البِلى في ساحها عُريانا
وشدا الغناءُ لرقصه ألحانا
بهما  اهتدي
عادى الرّدى
فعدا
ومحا معالمها كأن لم تعلم
وكأنّ فيها الطير لم يترنم
وكأنّ فيها الزهر لم يتبسَّمِ
وقفت الأشجار ولهى 
مرهاء غيَّرت الليالي حالها(1)
تطلب عند الناس عطفًا وجَدَا(2)
فهو موطوء هشيم
ذبل النبت الدميث
ونما فيه أثيث
هائجُ السوقِ خبثِ
شائه غطّى مظنّات المسالك
فهو فيها بعد ذاك اللين شائك
***
أين وضّاح الزّهَرْ؟
أين معقود الخَمرْ؟(3)
أين مسرى الحور
أين مجرى الماء كالثور
كلها صارت عبر
***
القصرُ في جانبها واقفُ
والعشبُ فيها جفَّ كرها
فهو مصفرٌّ سقيمُ
ذاهلُ
رسم مُحيلٌ بالأسى واجفُ
سائلُ
ياجنة كان النعيم بها يشدو
لحن أطيارك
والحسن فيها كانت صفحته تبدو
في وجه أزهارك
الشمس تخشعُ حين تبصرُ
ثكلى
ولذاك مالت عنك تغمرُك
ظلا 
والريح عاثرة تمرُّ بك
خجلى
لفَّك الليل بالسواد جلالا
وزوى عنك حين لاح الهلاك
وأراك النجوم لا تتلالا
    هكذا إذن تفجرت ثورية الشعر الجديد التي اكتمل مشهدها قرب منتصف خمسينيات القرن الماضي امتداًدا - على نحو مغاير ومختلف في رؤاه الشعرية، وإيقاعاته الموسيقية، ومعجمه اللغوي، وهمومه القومية والإنسانية - لثورية شعراء أبولو، ولدورهم الذي قاموا به من قبل، وللغة الخطاب الشعري التي استطاعوا أن ينفذوا بها إلى وجدان القارئ العربي منذ النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي حتى نهاية خمسينياته وأوائل ستينياته، حين استقرت قصيدة الشعر الجديد، وتأكدت سيطرتها على الفضاء الشعري.
    يقول الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان في قصيدته التي سبقت قصائد شعراء أبولو «حملتني نحو الحمى أشجاني»:
نبَّهتني صوادحُ الأطيارِ
تتغنّى على ذُرى الأشجارِ
وتجلّت مليكةُ الأنوار
فوق عرس الجناح ترشفُ طلاًّ
من ثغور الأقاحٍ علاًّ ونهلا
فتمنَّيْتُ لو شقيقةُ روحي
باكرتْني إلى جَنَى الأزهارِ
***
أنا في روضةٍ أباحتْ جَناها
كلَّ ذي صبوةٍ كئيبٍ أتاها
ها هنا وردةٌ يفوحُ شذاها
ها هنا نرجسٌ يُحيّي الأقاحا
والدّوالي تعانقُ التفاحا
بادري نَسْتبقْ معًا وارفَ الظلِّ
ونقضي النهار بعد النهارِ
***
ضحك الروض حين فاضت عُيونُهْ
وترامى فوق الثرى ياسمينُهْ
هام صفصافهُ فنَاحتْ غُصونه
فسواءٌ هيامهُ وهُيامي
غير أني أبكي على أيامي
فجعتْني بك النَّوى حين شبّتْ
لوعةٌ في الضلوع ذات أُوارِ
***
مرَّ عامٌ أُخفي عن الناسِ ما بي
من حنينٍ مُبرِّحٍ وعذابِ
ولقد يسألون فيم اكتئابي

ويحهم، كيف يُبصرون دموعي
ثم لا يُدركون ما بضلوعي؟
ولقد يكتمُ الـمُحِبُّ هواهُ
فتبوحُ الدموعُ بالأسرار
***
ذاكرٌ أنت عَهْدَنا يا غديرُ
يوم كنا والعيشُ غضٌّ نضيرُ
وعلى ضفَّتيْكَ كنا نسيرُ
فرويْتَ الحديث عنا شجونا
وأخذْنا عليك ألا تخونا
فأعدْ لي ذاك الحديث فإني
أذهلْتني النَّوى عن التذكارِ
ذاكرٌ أنت والأزاهيرُ تندى
كم نَظَمْنا منهنّ للجيد عِقْدا
فإذا هبَّت الصَّبا فاحَ ندَّا
وانقضى اللهو مؤذنًا بالفراقِ
فذَوى العِقْدُ من طويل العناقِ
لم يزلْ خيْطُه يلوحُ وجسمي
يتوارى سقمًا عن الأبصارِ
***
يا ابنة الأيْكِ غرِّدي أو فنُوحي
فعسى يَلأَمُ الهديلُ جُروحي
نفد الصبرُ عن شقيقة رُوحي
فاحملي هذه الرسالة عنّي
واسجعي إن أَتيْتها فوق غُصْنِ
فهي عند الأصيل تُصغي إلى الطيْـ
ـرِ عساها تروحُ بالأخبارِ
***
حملتْني نحو الحمى أشجاني
فتهيّبْتُ من جلال المكانِ
وإذا فوق مقلتيَّ يدانِ
فتلمَّسْتُ نضرة ونعيما
أنزلتْني ضيْفًا بأكرمِ دار
***
خطراتُ النسيم في واديكِ
صبّحْتني بقبلةٍ من فيكِ
ثم عادتْ بقبلةٍ تَشْفيِكِ
فسلامًا يا واديَ الرّمانِ
فُزْتُ بالروح منكَ والرّيْحانِ
وا حنيني إلى ديارك والرّما
نُ دانٍ يُظِلُّ أهل الديارِ

***
هذه الكنوز الشعرية التي أنجزتها عبْرَ موجاتها المتعاقبة جماعة أبولو الشعرية شكّلتْ مساحة كبيرة من الوجدان العربي طيلة عقود من الزمان، وفي الاطلاع عليها الآن شحن لشباب هذا الجيل بأنفاس هذه الثورة الشعرية التي لم تخمد، ولن تخمد أبدًا، لأنها خالدة ومستمرة، متلاحمة مع أنفاسهم، وهم يصنعون ثورتهم الشعرية والحياتية الجديدة على عيونهم، ويؤكدون جدارتهم بها من خلال سعيهم الدائب - عبر المسار الطويل - إلى الأجمل والأكمل والأنبل ■