ذوقية المكاشفة بين الفحص السريري والقراءة الحميمة في كتاب «مكاشفات ذوقية»

ذوقية المكاشفة بين الفحص السريري والقراءة الحميمة في كتاب   «مكاشفات ذوقية»

أول ما يسترعي الانتباه في كتـاب د.ياسين الأيوبي «مكـاشفات ذوقية»،  هو عنوانه، عنوان أراده كاتبنا ليقول إن القراءة والكتابة ذوق، وإن الرؤية ذوق، تخضع كلها للزاوية التي ننظر خلالها إلى الأثر الأدبي، دون أن يعني ذلك أن نتخلى عن كل معايير وأصول النقد العلمي.

 

لم يتركنا الكاتب نتذوق متعة البحث في القاموس والمعجم عن مدلول الكلمتين اللتين تشكلان عنوان كتابه، بل أغدق علينا، عبر صفحات ثلاث، وبأسلوب علمي واثق، معنى ومدلول كل منهما، وعن علاقة كل منهما بالأخرى وبالبحث الأكاديمي الموضوعي (ص6-9)، فقطع الطريق على كل من يرى تناقضاً بين الذوق الذي هو ذاتي، وبين النقد العلمي الذي يقوم على أسس علمية يتبعها كل من اختار درب الكتابة أو القراءة النقدية، فجاء كتابه، كما قال، «ضمن الإطار الذوقي المسئول، والمكاشفة الشفيفة»، آخذاً بعين الاعتبار المقاييس التي «ورثناها عن أسلافنا النقاد وجهابذة الباحثين المعاصرين» (ص9). 
إلا أنه أمام عدم تساهله في زلة قلم أو سقطة عبارة، راح قلمه في أحيان كثيرة إلى البوح عن الإعجاب أمام جماليات الكتابة، وعن سخط وأسف أمام الهبوط الفني فيها، فذهب إلى إبراز معايب النص، وإلى التقريع، وكأنه أمام مريض في سريره، يكشف علله، ويسلط الضوء عليها، وأحياناً، إلى قراءة حميمة تذهب إلى الذوبان في النص الذي يحظى بإعجابه، فلم نعد نرى النقد كما يقول حمادي الموقت: «حالة تقويم حالة ووزن بالقسطاس المستقيم». 
ولكن بين القراءة الحميمة والفحص السريري، تأخذنا قراءة نقدية علمية، تتناول النص مضموناً ومبنى وفق معايير النقد المعهودة والتي يبتعد فيها الناقد عن الإيغال في الذاتية. 
يتناول القسم الأول بحوثاً ودراسات معمقة في الشعر والنثر، أهمها دراسة في «مدرجات السمو في اللغة الشعرية»، وهي دراسة مرجع لكل من أراد الخوض في حقل الشعر وفضائه. ودراسات اخرى أبرزها: «سمات الوضوح والبيان في لغة نزار قباني الشعرية»، و«ناسك الشخروب» ميخائيل نعيمة (قرن من العطاء الأدبي المتدفق).
ففي الأولى ركّز الأيوبي على «الوضوح الشفيف والرؤية الجلية» عند قباني الذي تتعانق في وضوحه الحقيقة والخيال، وعلى موهبة الأداء الشعري الواضح والصياغة المذهلة في خفتها ورشاقتها، اللتين يتميز بهما شعره. وفي الثانية قدم لنا ميخائيل نعيمة منذ ولادته حتى مماته، مائة عام من الحياة العلمية والعملية، والأنشطة الاجتماعية والثقافية، والكتابة الإبداعية في شتى ميادين الكتابة. 
ويتناول القسم الثاني قراءات نقدية، غالبيتها في الشعر، لشعراء معاصرين أمثال: جوزف حرب، إلياس لحود، باسمة بطولي، محمود الشلبي، عبدالعزيز البابطين وآخرين. وأبرز هذه الدراسات تلك التي تناول فيها الكاتب فضاء الشبق ومدرجات تلاوينه الإبداعية في ديوان جوزف حرب «السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية»، حيث لم «يكبح قلمه عن الاسترسال في تحاليل ذاتية»، فأبدى إعجاباً فائقاً بـ «تلاوة حرب لسفر التكوين الأنثوي»
( ص165)، مما جعل دراسته ذوقية بامتياز.
ولكن في الحالين، لم يحد الأيوبي عن منهجية الكتابة العلمية في بحوثه ودراساته، فأتى كتابه مرجعاً مهماً لكل من هوى قلمه النقد ومنهجه.
لن نتطرق في هذه الصفحات لما قاله الدكتور الأيوبي عن هؤلاء الشعراء والأدباء، فالكتاب يملأ المكتبات، ولكننا سوف نتطرق لذوقية المكاشفة في قراءته لنصوصهم، ذوقية كما يدل عليها معناها رشحت في بعض المطارح بزيت الذاتية الذي رشح هو الآخر الى مصفاة المقاييس العلمية، فلمسنا مغالاة في إعلاء شأن بعضهم، وخفض شأن البعض الآخر. علماً بأننا نؤمن بأن لا أحد يستطيع التحرر كلياً من الذاتية، فهي تبقى المباركة الأولى لروح القراءة والكتابة، فالإنسان عندما يقرأ، إنما يقرأ نفسه. وهنا يقول وليد قصاب: «إن دور الذوق يتراجع عادة كلما ارتقى النقد، ودنا من مشارف الموضوعية والعلم»، ويضيف: «إن الذوق الشخصي لا يمكن أن يختفي تماماً من ساحة النقد الأدبي مهما تطور، أو تزيّا بزي الموضوعية والعلم». 
سوف نتناول نقطتين رئيستين في ذوقية المكاشفة في كتابه، الأولى: الذوقية في الحكم على عمل أدبي. والثانية: الذوقية في التحليل. ولن نتناول كل مواطن الذوقية في الكتاب، بل نكتفي بإعطاء أمثلة عليها. ثم نعرض للتحليل العلمي الذي ابتعد كل البعد عن الذوقية الذاتية، وأظهر بعداً موضوعياً مجرداً من كل انفعال إيجابي أو سلبي أمام النص الذي يقرأ. 

لاتحرر من الذاتية
تظهر الذوقية في الحكم على عمل أدبي، في دراسة الدكتور ياسين الأيوبي، من خلال مفردات تقيّم سلباً أو إيجاباً نصاً معيناً، ومن خلال مفردات تدل على العاطفة والإعجاب بنص أو بشاعر، كما تظهر من خلال ما يسمى بالفرنسية les modalisateurs، وهي تتألف من نعوت ومفردات وعبارات تدل على مقدار تبَنّي قول ما، أو إطلاق حكم ما. 
نأخذ مثلاً دراسته في «لغة الخطاب الشعري في ديوان وجيه البارودي»، حيث نقرأ، في حكمه على شعر البارودي، عبارات مثل: «الهبوط الفني، كلمات فارغة من كل معنى أو إشارة لطيفة، ركاكة لغوية شديدة السطحية، تصورات صبيانية، تعابير هابطة الأداء والغرض»، هذا عدا عن تعابير أخرى أكثر هجومية، وربما تذهب إلى حد السخرية، حين يقول: «ننتقل الآن إلى ديوانه الثاني الذي نضجت فيه التجربة الشعرية وتعمقت الثقافة، أو هكذا يُفترَض»، ويتابع فيقول: «وقد فوجئت بأن النضج المعرفي والعمق التجريبي لم يؤتيا أكلهما في الصنيع الشعري... فبقيت اللغة الشعرية تترنح تحت ركام المباشرة، والحوار الثنائي الساذج، وتداعي الصور الاعتيادية...» (ص407)، ويضيف: «بئس الشعر والنظم والنثر والأدب كله! إذا كنا لا نحسن رؤية الأمور وأصول التعبير عنها» (ص401). 
ونرى الأمر نفسه في قراءته لشفيق صبري حيث يقول في معرض حديث صبري عن الحرية والأدب: «كلام مهم جداً ينضح بجوهر الأدب وديمومته. لكنه للأسف لم ينسجم مع القصيدة البائسة في صورها وصيغها وقوافيها...»، ويضيف: «بئس الاقتباس، وبئس التقليد، إذا كان في مثل هذا التشويه والتكلف!» (ص325). 
وتتتالى أحكامه الذوقية، في دراسته: «نقد منهجي لبحث الدكتورة نسيمة الغيث: شعر ابن المقرب العيوني»، فنقرأ في هذه الدراسة كلمات تقيّم عمل الدكتورة الغيث، وكأن هذه الأخيرة طالبة جامعية، يقول: «فهل يعقل أن يستهل باحث رصين كلامه...، أبمثل هذا الكلام ندخل إلى بحث...، أين التمهيد...؟ فأي منهج هذا...؟» (ص526) وغير ذلك من المساءلات التي وإن كانت تدخل في إطار المساءلة النقدية المنهجية، إلا أنها، وبالشكل الذي طرحت فيه، تسيء إلى الباحث أو الشاعر الذي نكتب عنه، كما إلى النص نفسه الذي نكتبه. 
 نكتفي بهذا القدر من الأمثلة عن الذوقية في الحكم على العمل الأدبي، ولسنا هنا لنقول ما كان يجب أن يقال، فالدكتور الأيوبي أعلم بذلك، وأخبر بأسلوب لا يؤذي المشاعر والمعنويات، ولا يقترب من الذم الأدبي. 
ونحن لسنا هنا لندافع عن البارودي، أو جبري، أو الدكتورة الغيث وغيرهم، وإنما رأينا أن أسلوب الأيوبي يصل أحياناً إلى كلمات قاسية قد لا يرضى بها ناقد ولا قارئ عابر. ربما هي لحظات القراءة والحالة النفسية التي نكون فيها عندما نقرأ، تؤثران على تلقينا ما نقرأ، فتلغي أحياناً كل المقاييس والمعايير العلمية الثابتة التي لا نقاش فيها. 
وتظهر الذوقية الذاتية أيضاً عند الدكتور ياسين الأيوبي، على صعيد تحليل الصور الشعرية ووقعها في النفس، وعلى صعيد استخدام بعض الألفاظ التي يستحسنها عند شاعر ويستهجنها عند آخر. سنكتفي بإعطاء مثلين عن هذه النقطة، الأول في دراسته لجوزف حرب، والثاني لمحمد عمران. 
ففي دراسته «فضاء الشبق الشعري ومدرجات تلاوينه الإبداعية» في شعر جوزف حرب، نراه في نشوة روحية، لا يعيشها إلا المتصوِّفة، يترنّح إعجاباً ودهشة في قصائد حرب «الشبقية». بينما هي، كما نرى، قصائد لا ترقى إلى المستوى الذي نعهده عند حرب الذي يشهد له الكلُّ أنه شاعر مميز، يبدع صوراً تستوقف القارئ وتأخذه إلى فضاءات رحبة مشرقة، فتسكنه وتدفعه إلى طرح الأسئلة وابداء الإعجاب والاعتراف بشاعرية فريدة. إلا أنه في هذه القصائد التي أوردها الأيوبي في كتابه، والتي نالت فائق اعجابه، لم يعْلُ إلى المستوى الذي وضعه الأيوبي في دراسته الأولى في هذا الكتاب، وعنوانها: «مدرجات السمو في اللغة الشعرية»، حيث قال: «إن لغة الشعر ليست معادلات لفظية معنوية بين دالّ ومدلول، بل هي فوق ذلك ايحاءات خفية هامسة لا يُحسِنها إلا الذي غمس معجمه اللغوي بمداد الروح والتلظي، وتطهّرَ بنار الوجْد والتصبّي الفردوسي».
نقرأ له بعض ما يستوقف كل من يقرأ كتابه هذا، نقرأ نصاً صغيراً من دراسته «سمات الوضوح والبيان في لغة نزار قباني الشعرية»، يقول: 
«ثم تتجدد المعايير والمنطلقات، في الطواف الشعري، بشكل دوائر لولبية، محاورية، كل محور له دورانه ومتعرجاته. فقد انطلق من (الخارطة) - العالم، إلى دوائر وأقاليم أصغر، ومنها إلى ملامح وتقسيم، منتهياً برَحِم الشَّعر والشِّعر، ثم انعطف إلى محور جديد لعله أرسخ مقاماً وأعظم دلالة، وهو الماء في نقطة واحدة تتسع وتكبر لتدخل في خضم الزمن المتحول من النضج والحصاد في نهاية الصيف، إلى الترحب والاحتضار في فصل الخريف...» (ص50).

لغة علمية
إنها لغة علمية ترسم دوائر مهندسة وفق قواعد وأصول النقد الموضوعي الذي لا تشوبه شائبة. والدكتور ياسين الأيوبي كاتب تسري كلماته على الورقة بخطى ثابتة وثيقة، يخطها قلم رصين يستهدي بنور العقل والمسئولية. تطرب عيناه للجمال أينّما حطّ، في الكتابة، في المرأة، في اللوحة... كما أنهما تشمئزان من العيب، فلا تغفلانه أينما استقر. ونأخذ مثالاً آخر عن الموضوعية في التحليل، فنقرأ ما قاله في «الإبداع الشعري ومجازاته اللطيفة في ديوان «سماء أخرى» لمحمود الشلبي بين رنيم التشهي الجسدي والسمو العاطفي: «يعتزل الشاعر ههنا رنيم صبواته، ملتفتاً إلى ذاته وعالم رؤاه الشعري.. إنها قصيدة التغني الذاتي، في عزف منفرد على عود القوافي، وأوتار القلب الشجي بأنسام الهى الباسق، اعتلته نغمة روي (الهاء) التي تناهت إليها السطور والمقاطع الشعرية، في مثل ترجيعات الموج / وشدو العنادل، فيتعاظم المد الشعري بين الروي والروي..» (ص350).
وأما عن اللغة التي يمتعنا بها الأيوبي في كتابه، فنقرأ له مَثليْن صغيرين: 
«القول بالنثر الشعري أو الشعر النثري، يعني أن هناك نثراً خالصاً تطيب بعبير الشعر، ففاح منه شذاً يشبه ما يبعثه الشعر من نفحات الارتياح والترنم الذاتيين..» (ص63).
تنداح السطور الشعرية متناوبة متقاربة، أو متباعدة من غير انقطاع أو انبتار، بل بتواصل أثيري شفيف الخطوات، وسيع اللفتات، يربطها جميعها خيط رقيق من حرارة التأمل والترقي الذاتي في فضاء الكون الشعري» (ص350).
أنت تقرأ في كتابه نصاً نقدياً يفوق في كثير من الأحيان الشعر الذي يتحدث عنه. كيف لا، وهو العالم باللغة وأصول قواعدها، بالمجاز وفنونه، بالتراكيب وهندستها. أديب يعشق الكتابة، له ما يفوق الستين مؤلفاً، قلمه سخي، لا يتمرد على أفكاره، مطواع يخطها صوراً وكلمات، تغْني لغة القارئ، وتمتع نفسه بما تقدِّم له من بعد ثقافي وتحليلي. يحلو لك المسير معه في النقد، على ضوء صور قلما تراها عند النقاد. فهو يرصع أسلوبه العلمي بومضات شعرية تذهب بك بعيداً، على جناحي الخيال والمجاز، فتعبر جبال الضباب إلى رحاب النور، حيث ترتسم الحقيقة جلية، فتشرق في نفسك متعة القراءة وتتابع المسير في طريق المعرفة. كاتب تسري كلماته على الورقة بخطى ثابتة وثيقة، يخطها قلم رصين يستهدي بنور العقل والمسئولية. تطرب عيناه للجمال أينّما حط، في الكتابة، في المرأة، في اللوحة... كما أنهما تشمئزان من العيب، فلا تغفلانه أينما استقر. 
 وهكذا فإن كتاب الدكتور ياسين الأيوبي «مكاشفات ذوقية»، أظهر لنا أن الذوق لا يمكن أن يختفي كلياً وراء المقاييس العلمية، فكانت مكاشفاته ذوقية بامتياز. ولكن بين القراءة السريرية والقراءة الحميمة، تأخذنا بشدة قراءة علمية وَضَعَها الكاتب بقالب ذوقي، ابتعد عن جفاف العلم وصلابة خطوطه، وتحلى بليونة الكلمة وسيولة العبارة. وفي هذا مقدرة عظيمة لا ينكرها أحد عليه ■