أنا و«العربي»

أنا و«العربي»

أفقت من طفولتي في قريتي دير غسانة غربي رام الله بفلسطين في شباط (فبراير) عام 1963 على زغرودة الحاجة غزالة البرغوثي فرحا بإنهاء حكم عبدالكريم قاسم الذي هدد باجتياح الكويت عام 1961. فقد كان ابنها اليتيم والوحيد عبدالوهاب يعمل في ثانوية الشويخ بالكويت، وكانت تقضي الليل والنهار خلف المذياع تستمع لصوت العرب من القاهرة، تنتظر خبرا يطمئنها على ابنها الذي لم تره منذ غادر فلسطين إلى الكويت في العام 1954.
وحين جاء الخبر من صوت العرب انطلقت الزغاريد، فقد نجح عبدالسلام عارف بإنهاء حكم الزعيم الأوحد عبدالكريم قاسم، وتم تنفيذ حكم الإعدام بحقه في مبنى الإذاعة العراقية.
 كانت وسائل التواصل قليلة وسبل المعرفة نادرة وحتى أجهزة الراديو كانت قليلة رغم انطلاق ثورة الترانزستور في ذلك الزمن. لكن كان لدينا مذياع بحجم التلفاز له سلك مقوى على السطح، وكنا نلتم حوله لسماع الأخبار فقط، كما يلتم الناس حاليا حول التلفاز حين يبدأ «آراب أيدول». 
كان مدرّس التاريخ في مدرسة بني زيد الثانوية بقريتي وهي مدرسة تأسست عام 1906 - في العهد العثماني وهو مدرس ناصري يتحدث عن جريمة عبدالكريم قاسم، فيما كانت أمامه على الطاولة مجلة أنيقة جميلة اسمها «العربي».
غادر المدرس الفصل مسرعا تاركا المجلة وأوراقه على الطاولة، وعيني على المجلة وراودتني نفسي ان أمد يدي اليها وتحرجت. وحين طلب المدرس الاحتياط مني ان أقوم بإرسال أوراق مدرس التاريخ الى بيته المجاور للمدرسة حيث كان فيها صور لحبيبته او صديقته، وجدتها فرصة لأتصفح المجلة التي تقع في يدي لأول مرة حين طلب مني مدرس الاحتياط ان ارسل أوراق مدرس التاريخ الى مكتبه في غرفة المعلمين، سحرتني أنا الطفل بل صدمتني «العربي» فقد شعرت أنها تخاطبني أنا وحدي وبدأ الحب من اول نظرة كما يقولون، قرأت قائمة الأسعار (80) فلسا أردنيا - ثمانية قروش، مبلغ كبير في ذاك الزمن لطالب مثلي مصروفه اليومي 10 فلوس وهناك أيام بلا مصروف، لكن توفيره على مدار شهر لن يكون صعبا، فبدأت أوفر مصروفي واستغني عن «البليلة» أي (النخي) الساخن وعن «الكاكوز» (مشروب غازي) لكي أوفر سعر المجلة وكان. 
كان لدي في نهاية الشهر 200 فلس. ذهبت الى المكتبة العلمية في رام الله الى حيث اللقاء الأول مع المعشوقة القادمة من الكويت ليتجدد اللقاء نهاية كل شهر. وكم كانت سعادتي أن يأتي بعض من جميلات القرية ليستعرن المجلة وكل جميلة تمني النفس أن يأتي (أوسكار متري) لتكون فتاة غلاف استطلاع «العربي».
وعشت مع «العربي» عصورها من عهد المرحومين الأحمدين زكي وبهاء الدين، الى عهد رئيس التحرير السابق محمد الرميحي الى عهد الدكتور سليمان وكل رئيس تحرير قاد معركة جديدة في «العربي» جزاهم الله خير الجزاء.
لم تغادرني «العربي» ولم أغادرها، وحملتها في قلبي وحقيبتي الى كل أصقاع الدنيا. وأشعر أنني ابن عاق لها فقد رضعت منها فن الكتابة والتحقيق، ونهلت منها مصادر معرفة في زمن عزت فيها المعرفة وعملت صحفيا وسكرتير تحرير ومدير تحرير ولم أكتب يوما للعربي فهل تقبل معشوقتي قبلتي على الورق في «إلى أن نلتقي»؟! ■