منتدى العربي

منتدى العربي
        

ناقوس الخطر يدق:
أين نحن من دراسات المستقبل؟

المستقبل هو اللحظة الحالية في حالة حركة للأمام، فلا انقطاع في الزمن، ولا مفر من التعامل معه بطريقة صحيحة .. فماذا أعددنا لذلك كعرب؟

         التفكير في المستقبل يختلف عن دراسة المستقبل أو بحثه بأساليب أو منهج علمي, ولدى دراسات المستقبل محك واضح, هو المستقبل نفسه عندما يأتي وتتحول دراسته إلى ماض ويكشف عن مدى اقتراب هذه الدراسة منه أو ابتعادها عنه طبقاً لما وقع بالفعل.

         التفكير لم يفارق الإنسان منذ تبلور وعيه. وتراوح هذا التفكير ببساطة بين الخرافة وإعمال العقل. الاستعداد للمستقبل بالأحجبة والتعاويذ, أو العبادة والصلاة للآلهة, أو العمل العقلاني والاجتهاد.

         ولقد أخذ الاهتمام يتزايد في الدول المتقدمة بدراسة المستقبل بشكل علمي في العقود الأخيرة, ساعد على ذلك التقدم العلمي والتكنولوجي المذهل, منذ اختراع القنبلة الذرية ثم الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والحاسبات الآلية والأقمار الصناعية. وساعد على ذلك أيضاً الكوارث غير المسبوقة في تاريخ العالم والتي شهدتها البشرية بسبب الحربين العالميتين في القرن الماضي, وكذلك تقدم الدراسات الإنسانية في مجالات علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والفلسفة. ومواجهة هذه العلوم لأزمات وظواهر حادة مثل تغيّر النظم الأخلاقية في ثقافة المجتمعات الأوربية - الولايات المتحدة جزء من هذه الثقافة وأصبحت جزءاً قائداً فيها - وتغير الاقتصاد من اعتماده على الصناعة التقليدية إلى اعتماده على نظم المعلومات والتجارة الإلكترونية. بالإضافة إلى التغيرات التي حدثت في النظم السياسية الكبرى, وبالتالي في الاتجاهات السياسية, كل هذه التغيرات تمت بسرعة لاهثة, وأدت إلى شيوع إحساس بالقلق المتزايد عبر العالم, لم يعد هذا العالم آمنا, ولم يعد الإنسان مطمئناً على غده, واهتز اليقين المريح الذي كانت عليه الإنسانية, مما أدى إلى طرح السؤال نفسه في كل مكان تقريباً: وماذا بعد؟ ومحاولة الإجابة عليه بطرق متنوعة, فتزايد الاهتمام بدراسات المستقبل.

         ونشأت مراكز لدراسات المستقبل, لم تقتصر على الجامعات والمعاهد الأكاديمية, ولكنها خرجت إلى مجالات غير أكاديمية مما يؤكد الاهتمام بهذه الدراسات, فأنشأت جامعة الأمم المتحدة بمدينة طوكيو اليابانية المشروع الألفي, والذي يصدر تقريراً سنوياً عن مستقبل العالم, بل وأنشأ الكونجرس الأمريكي (البيت البرلماني لاستشراف المستقبل) عقب مؤتمر عقد عام 1975 حول (المستقبليات والديمقراطية الاستباقية) بناء على طلب من الأعضاء الديمقراطيين في الكونجرس. وقد شارك في رئاسة هذا (البيت) آل جور نائب الرئيس الأمريكي, وهذه فيما أعلم أول مرة ينشئ فيها مجلس برلماني مركزاً لدراسة المستقبل, فماذا عن اهتمام البرلمانات العربية بدراسة المستقبل؟!

أكثر من مستقبل

         دراسة المستقبل ليست قراءة كف أو طالع, بل هي عملية بحث علمي في مجال ما تبدأ من الماضي وتدرس الحاضر بعناية لاستبصار آفاق واتجاهات المستقبل وعوامل التغير فيه بشكل كلي. وتوقع إمكان اختلاف هذه الرؤى مع ما قد يحدث بالفعل في المستقبل. فكما يقول الدكتور محمود عبدالفضيل في كتابه (حوار مع المستقبل) إن الشيء الوحيد المؤكد هو أن (هناك دائماً عدة مستقبلات بديلة أو محتملة, وأنه ليست هناك مسارات جبرية وحيدة. إذ إنه بقدر الاعتراف بأن هناك جزءاً مرتهناً بفعل مورثات الماضي وأثقاله, فإنه بالقطع هناك جزء حر طليق قابل للتشكيل وفقاً للإرادة الوطنية الحرة). (حوار مع المستقبل - ص 11). وكنت أتمنى على الدكتور عبدالفضيل أن يزيدنا علماً بالحديث في الدراسات المستقبلية في كتابه هذا, إلا أنه اكتفى, مع الأسف, بتناولها بشكل سريع جداً فيما لا يتجاوز الصفحات الأربع من القطع الصغير, لينهمك بعد ذلك في الحديث عن موضوعات شتى سياسية واقتصادية وثقافية.

         وهنا أعتقد أن أهم عناصر (النجاح النسبي) لدراسات المستقبل هو:

         1- توافر أقصى قدر ممكن من المعلومات الصحيحة والمتكاملة حول موضوع البحث.

         2- توافر الحيدة والموضوعية لدى الباحث, وبعيداً عن مشاعر التفاؤل والتشاؤم.

         3- توافر المناخ الملائم للبحث بعيداً عن الضغوط السياسية أو الدينية بالذات.

         ولكي نصل إلى تصوّر مستقبلي يجب أن نقوم بخطوات أساسية منها:

         1- تحديد الموضوع المراد دراسة مستقبله جيدا, أو صياغة السؤال - أو الأسئلة - المراد الإجابة عليه صياغة واضحة دقيقة.

         2- تحديد الإطار الجغرافي للموضوع, والمدى الزمني المستقبلي المراد بحثه.

         3- قراءة ماضي وحاضر هذا الموضوع جيداً, والربط بين الظواهر, واستخلاص نتائج ومؤشرات عامة, فالمستقبل غير منفصل عن الماضي والحاضر.

         4- الربط بين الموضوع المراد دراسة مستقبله والموضوعات الأخرى المؤثرة فيه, سواء داخلياً, أو إقليمياً, أو دولياً, وبخاصة مع المتغيرات الأخيرة في ثورة الاتصالات والتكنولوجيا, والمتغيرات الاقتصادية والسياسية الكبرى في العالم.

         5- الواقعية والموضوعية في الدراسة, فدراسة المستقبل ليست رجماً بالغيب, أو من أعمال السحر, كما يجب الابتعاد عن الآمال والأحلام والرغبات الشخصية, وتجنب تأثير عوامل الحاضر الضاغطة المؤقتة.

         6- التمتع في الوقت نفسه بالقدرة على التخيل, والتخيل طويل المدى, والتمتع بالبصيرة, وهي توقع ما سيأتي أو رؤيته أو الإحساس به, ورؤية ما لا يراه الآخرون ممن لا يملكون هذه البصيرة.

         7- المرونة في التفكير, وتصوّر بدائل أو احتمالات للمستقبل, وليس خطاً واحداً, مع ترجيح أحدها بالطبع, أو تنظيمها في سلسلة أولويات, فحتى الحاضر يمكن أن يتغير نتيجة لمؤثرات لم تكن في الحسبان أو غير ظاهرة, ويطلقون على مثل هذا التغير (فجأة), أي لم يكن متوقعاً, وهو ليس كذلك, وإنما الذين يطلقون مثل هذه التعبيرات لم يدرسوا الموضوع جيداً من جميع جوانبه, ولم يلموا بمعلومات كاملة ودقيقة عنه.

         8- ودراسة المستقبل هي دراسة لما يمكن أن يطرأ على الموضوع تحت الدراسة من تغير, ومدى هذا التغير, ذلك لأنه لا يمكن للكائن الحي ولا للحياة نفسها أن تظل ثابتة على حال, فالثبات هنا يؤدي إلى الموت, حتى لو كان التغير إلى الأسوأ, لذا, فإن دراسة المستقبل في وجه من أهم وجوهها دراسة للمتغيرات, وللعوامل التي تؤدي إلى التغير, وكيفية هذا التغير, وتأثيره على مستويات أو أوساط متعددة ومتنوعة أو مختلفة, لذلك فأنا لا أميل إلى القول بتحكم قدري في المستقبل يؤثر على مسيرة البشرية, وأعتقد أن الذي يؤثر على مسيرة البشر هم البشر بأكثر مما يؤثر فيها القدر. هذا مع الإيمان الكامل بالقدر على المستوى الفردي, فمازلنا - على الأقل حتى الآن - لا نعرف متى نولد ولا بأي أرض نموت. وأتصور أن الدخول في هذا القدر الفردي ومحاولة التحكم فيه عن طريق التقدم في علم الوراثة والاستنساخ وتطبيقاتهما سيؤدي إلى فناء الجنس البشري بأكثر مما يؤدي إلى تحسين ظروف حياته, رغم أن هناك رأياً آخر يقول باستحالة ذلك نظراً لطبيعة الإنسان بحرصه في الحفاظ على النوع, مما يؤدي إلى استشعاره الخطر على نفسه والتراجع عمّا يؤذيه.

         لكن هذا يفترض أن الناس جميعاً أسوياء, وأن مفاتيح العلم وتطبيقاته ستظل دائماً محصورة في يد أسوياء. لاحظوا غزاة شبكة الإنترنت, وما يبثونه من فيروسات مدمّرة أو مغيرة للمواد المحفوظة أو اقتحام مواقع سرية مهمة, والمواقع التي تشرح كيفية صنع قنبلة أو تخليق المخدرات أو تروّج لدعارة الأطفال مثلاً, وعندما يصبح أي إنسان قادراً على تغيير جنسه أو جنس مولوده وخواص هذا الجنس, كما استطاع التحكم في وقت الحمل والإنجاب, فإن الخطر سيكون محتملاً جداً, إذن لابد أن نتوقع ما سيحدث.

         أهمية دراسات المستقبل:

         1- أنها تمنحنا الفرصة للحيطة ضد مخاطر المستقبل.

         2- أنها تمنحنا الفرصة لمحاولة التأثير في مستقبلنا, أن نكون فاعلين لا مفعولا بهم.

         3- وتمنحنا الفرصة لفهم صحيح لما يجري حولنا.

         4- والفرصة لنحسن من ظروف الحاضر أيضاً للوصول إلى مستقبل أفضل.

         5- على المستوى العلمي وتطبيقاته, فإنها تحفّزنا من أجل مزيد من الاهتمام به والابتكار فيه.

         6- كما تساعدنا على تنمية ملكات الخيال.

         لكل ذلك, وبخاصة بسبب الخيال, فمن المهم بمكان أن تتضمن مناهج التعليم في المدارس العربية ما تيسر عن دراسات المستقبل والتدريبات الممكنة عليه منذ المرحلة الإعدادية.

الحديث أكثر عن الماضي

         وفي عالمنا العربي نلاحظ فقراً في الدراسات المستقبلية. بمعنى الدراسات النظرية التي تتناول مناهج وأساليب البحث في المستقبل بشكل علمي, أو الدراسات التطبيقية التي تطبق هذه المناهج والأساليب العلمية على حالات محددة. وربما يكون ذلك أيضاً من علامات التخلف العربي.

         ونلاحظ أن معظم الكتب العربية التي تظهر كلمة المستقبل في عناوينها تتحدث عن الماضي والحاضر أكثر مما تتكلم عن المستقبل. وليس بها أي تطبيق لمنهج علمي في البحث. ربما لأن هذه الكتب لم تخرج عن مراكز بحث أكاديمية, وربما لأن كتابها من غير المتخصصين في دراسات المستقبل. لكنني أيضاً من غير المتخصصين بشكل أكاديمي, وما أرجوه هو أن نعمل الفكر بأسلوب علمي لنصل إلى تصوّرات عمّا يمكن أن يكون عليه المستقبل فيما يتعلق بموضوع ما.

         تأخر العرب كثيراً - كالعادة - في بحث ومناقشة - ليس فقط مستقبل الثقافة العربية - وإنما أيضاً كل مستقبل للعرب. وذلك بسبب من مشاكل  ماضي وحاضر الثقافة العربية وليس مستقبلها. هذا الحاضر الذي نهاجمه كثيراً صباح مساء, ولا نفعل إلا أقل القليل لتغييره.

         إن عدم اهتمام العرب بدراسات المستقبل يعبّر عن أحد جوانب البنية الثقافية العربية والتي أدعو إلى إحداث تغييرات أساسية فيها لكي ندخل بالفعل القرن الواحد والعشرين. وأتصور أن هناك أربعة أسباب وراء عدم اهتمام  العرب ببحث ودراسة مستقبلهم في جميع المجالات:

         1- أن ماضيهم ومنذ انتهاء العصور الوسطى - عصور الظلام الأوربية - قد انتكس وارتد إلى العصور الوسطى الأوربية, بينما كانت أوربا قد شرعت في نسج بدايات نهضتها ثم حداثتها المستمرة والفاعلة وإلى الآن.

         2- أن حاضر العرب لايزال يحمل قدراً كبيراً من تخلف ماضيهم القريب. ولم ينجح العرب بعد تخلصهم من الاستعمار في استيعاب دروس التقدم وممارستها, ومنهم من لا يريد ممارستها عمداً حفاظاً على مصالح شخصية وقبلية, في نظرة ضيقة معادية للتاريخ أو جاهلة به.

         3- أن الثقافة والمجتمعات العربية تختزن في وعيها الجمعي إيماناً قدرياً بالمستقبل, فلا حاجة لدراسته بوسائل ومناهج العلم الحديث, اكتفاء بإيمان يساء فهمه واستغلاله, مثل أن (المستقبل بيد الله سبحانه وتعالى), وأن (المكتوب على الجبين لابد أن تراه العين).. إلخ. وفي الوقت نفسه, تجد المجتمعات العربية رموزاً دينية فردية, بل ومؤسسات رسمية وغير حكومية تؤكد لها هذه المعاني الاتكالية دون أن تنيرها بما حثنا الله عليه من طلب العلم. وهذه الأصوات الفردية والمؤسسات أكثر تأثيراً في الناس من أصوات التنوير ومؤسساته, وذلك لاستغلال الاتكاليين لتأثير الدين القوي في نفوس الناس.

         4- الجامعات لا تخرج كوادر علمية متخصصة في دراسات المستقبل, وليس هناك اهتمام بإدخال هذه الدراسات في مناهج التعليم الجامعي.

         5- والمؤسسات الثقافية العربية لا تعطي الاهتمام الكافي لهذا الموضوع الحيوي, كما أننا نفتقد المؤسسات العلمية والثقافية المتخصصة في دراسات المستقبل وبخاصة ما يتعلق بالجانب الثقافي. والمراكز التي تصف نفسها بدراسات المستقبل في العالم العربي ضعيفة وبلا فاعلية مؤثرة لأسباب قد تكون خارجة عن إرادتها.

         6- الحكام والحكومات أيضاً مسئولون, فهم لا يهتمون بدراسة المستقبل, ولا يشجعون عليها, وربما أصلاً لا يؤمنون بها.

         7- ضعف وجهل معظم المؤسسات المالية ورجال الأعمال العرب, فهم لا يهتمون بشكل علمي جدي بدراسات الجدوى ودراسات المستقبل الاقتصادية المرتبطة بمجالات عملهم واستثماراتهم أصلاً. لأن الغالبية العظمى منهم تعمل في المجالات الهامشية للاقتصاد سريعة الربح مثل الاستيراد والتصدير والسمسرة والمضاربات العقارية والمقاولات, وليس في مجالات التصنيع والإنتاج التي يتركونها إما عبئاً على الدولة أو لاستثمارات أجنبية أو لا توجد أصلاً بالشكل الواجب اكتفاء بالاستيراد: من الإبرة إلى الصاروخ.

مستقبل الثقافة العربية

         وإذا كنا قد تخلّفنا وتأخرنا كثيراً, فالأمر لم يعد يحتمل المزيد على الإطلاق, وبخاصة في دراسة ومناقشة مستقبل الثقافة العربية, وذلك لخمسة أسباب:

         أولاً: لأننا نغادر قرناً مليئاً بالإنجازات والإحباطات زاخراً بالمآسي والهزليات, مليئاً بالأحداث والعبر, وكأنه ترجمة عصرية لحياة إغريقية, وندخل قرناً جديداً أتصوّره حاسماً في تاريخ البشرية كما لم يحدث من قبل.

         القرن الراحل نعرفه, وإن كان البعض في هذا العالم لم يستفد مما عرفه, وهؤلاء هم الضالون في القرن القادم. والقرن الآتي نعرف بداياته - فهي موصولة بنهايات القرن الراحل - ولكننا بالقطع لا نعرف نهاياته, وإن اجتهدنا واختلفت رؤانا في توقعها.

         ثانياً: أن القرن الراحل قد سلم القرن الجديد آخر تحدياته ليحسمه, ألا وهو الذي اشتهر بمصطلح العولمة. وفي حسمه يمكن أن تموت أمم وشعوب. ليس بالمعنى المادي للموت, ولكن بضياع سماتها وملامحها المعروفة بين الأمم, أي بضياع ثقافتها, فمناقشة مستقبل الثقافة هنا ملح جداً ويجب عدم الإبطاء فيه. كما يجب أن يشارك جميع القادرين على المشاركة من العرب في التفكير والتدبير, ويجب ألا تقتصر على النخب التي تجتمع في قاعات مغلقة ووسط طقوس أقرب لطقوس الكهنوت.

         ثالثاً: أن تحدي العولمة هو سليل تحد أسبق - مازال قائماً منذ سنين طويلة - يتمثل في تلك الفوارق الرهيبة في مجالات التقدم العلمي والتكنولوجي, ومن ثم الاقتصادي والعسكري, والتي فرضت تقسيم العالم إلى درجات: أول وثان وثالث. والثروة المالية وحدها لا تفيد في رفع دولة من عالم إلى عالم. ويجب عدم الاستمرار في الحياة كحقول تجارب ومستهلكين فقط لما يصدّرونه لنا من فتات هذا التقدم. ومن أسف أن الزمن ليس في مصلحتنا, فكلما تقدمنا متراً, تقدم المتقدمون كيلومتراً. ومن هنا يجب أن نغير نظرتنا للسباق تغييراً جذرياً.

         رابعاً: إذا كان العرب قد تأخروا عن غيرهم, ولم يستطيعوا الدخول في العالم الأول ولا الثاني, ويجاهد البعض منهم ليتصدّر قائمة العالم الثالث - ولن نناقش هنا أسباب ذلك - فالمرجو أو الواجب عليهم أن يبحثوا لهم عن مكان - لا أقول مميّزاً ولكن معقولاً - في القرن القادم, معقولاً بمواصفات عقل هذا القرن وليس بمواصفات عقولنا الحالية - والكارثة أن تتحكم عقول الماضي التي مازالت تحكم كثيرين منا وإلى الآن.

         خامساً: إن الحديث في الثقافة كالحديث في الفلسفة من أحد وجوهه, أي الحديث في الكليات والماهيات والسعي إلى فهم غامض الوجود, وإلى حب المعرفة وإلى حياة إنسانية أفضل. ولذلك فالحديث في الثقافة يعني التطرق بالضرورة إلى جوانب الحياة المختلفة, وتطور الثقافة مرهون بتطور هذه الجوانب والعكس صحيح في علاقة جدلية مستمرة.

         باختصار, عندما نتحدث عن مستقبل الثقافة, فإننا نتحدث عن مستقبل الشعوب والأمم ككل, ونحن حريصون, بالطبع, على مستقبل أمتنا العربية, لأنه ببساطة, مستقبل أبنائنا وأحفادنا, فلنا - كأشخاص - مصلحة مباشرة في الحديث عن المستقبل, وفي هذا المستقبل ذاته.

         لكن هذا الحرص بدوره لا يشفع وحده للدخول في عالم من الغموض نضل فيه الطريق ولا نصل إلى إجابات محددة تفيد الموضوع الخطير الذي نهتم به هنا.

 

سمير غريب