ديمقراطيتهم المدججة بالسلاح!.. د. سليمان إبراهيم العسكري

ديمقراطيتهم المدججة بالسلاح!.. د. سليمان إبراهيم العسكري
        

          تصبح العبارات التي تتردد بإلحاح في وسائل الإعلام الغربي بمنزلة حقائق لدينا، حين ترتدي زي الواقع ونكررها نحن من دون وعي في وسائط إعلامنا العربي، وأدبياتنا المدونة والمسموعة والمرئية. إن أخطر هذه المقولات هو ما يصر الإعلام الغربي عليه بأن دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهي بلا شك الحقيقة المزيفة التي روج لها الغرب زارع إسرائيل في منطقتنا العربية منذ ثلاث وستين سنة. فماذا فعلت بنا تلك الديمقراطية (المزيفة) المدججة بالسلاح لأكثر من ستة عقود سوى الاستيلاء على الأرض بالاغتصاب وتعطيل مسيرة البناء، ونهب ثروات الأوطان العربية، وإشعال الفتن الطائفية، وإنهاك قوى مجتمعاتنا العربية بأسرها؟

  • ماذا فعلت بنا تلك الديمقراطية الإسرائيلية «المزيفة» المدججة بالسلاح لأكثر من ستة عقود سوى الاستيلاء على الأرض بالاغتصاب وتعطيل مسيرة البناء، ونهب ثروات الأوطان العربية، وإشعال الفتن الطائفية، وإنهاك قوى مجتمعاتنا العربية بأسرها؟
  • دولة الاحتلال تتذرع بالحرب والسلام لتزيد من ترسانتها العسكرية وتؤمن مخزونها النووي، من أجل الاحتفاظ بديمقراطيتها الكاذبة.
  • الصراعات والحروب العربية - العربية، التي قامت نتيجة للديكتاتورية والتسلط، كان لها أثرها السلبي على توجيه كفة الصراع من الوقوف موحدين تجاه عدو تاريخي، إلى التناحر العابر للأراضي العربية.
  • صعود الديمقراطيات الحقيقية سيكون إشارة إلى سقوط الديمقراطيات المزيفة وفي مقدمتها الديمقراطية الإسرائيلية.

          على شاشة «بي بي سي» حل ضيفًا وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك في برنامج «هارد توك»، وشعرتُ بأن مذيع البرنامج Stephen Sackur ستيفن ساكور ينقل أسئلتنا الحية إلى المسئول اليوم عن السلاح الموجه إلى أبنائنا في فلسطين. وكان من أغرب ما ذكره باراك حين سئل عن طلب إسرائيل 20 مليار دولار تسليحا إضافيا لجيشها رغم الزعم بأن إسرائيل تريد السلام، وتسعى إليه، فقال: إن ثمن السلام باهظ علينا، وهذه الزيادة تمثل متراسا أمنيا إضافيا يعزز موقفنا في إدارة مفاوضات السلام!

          لخص هذا المشهد بالنسبة لي تلك الصورة النقيضة لكل ما يتعلق بدولة الاحتلال الإسرائيلي، فهي لم تخلق كما أشيع لشعب بلا أرض على أرض بلا شعب. لقد كان الشعب الفلسطيني يمارس حق الحياة الكاملة على أرضه منذ آلاف السنين، حتى وهي جزء من الإمبراطورية العثمانية قبل أفولها لمصلحة الانتداب البريطاني، الذي مهد لمنح إسرائيل شهادة ميلاد، وحينها أعطى الإنجليز - وهم من لا يملكون - أرض فلسطين إلى المهاجرين اليهود من شتات الأرض - وهم من لا يستحقون!

          كان وعد بلفور البريطاني بداية الاحتلال للأرض الفلسطينية وبداية الصراع عليها، وهو الصراع الذي كلف أمتنا العربية حروبا شغلتها عن مسارات التنمية الداخلية، وهي تتذرع بالحرب والسلام لتزيد من ترسانتها العسكرية وتؤمن مخزونها النووي، من أجل الاحتفاظ بديمقراطيتها الكاذبة.

          تنقل لنا الأحداث والأخبار كل يوم ما يؤكد زيف هذه الديمقراطية الإسرائيلية، حتى داخل الهوامش الضيقة التي منحتها لأعضاء الكنيست، ولانزال نذكر كيف صوتت أغلبية لجنة مجلس النواب بالكنيست ضد عضوته حنين الزعبي الصيف الماضي حين «تجرأت» بمشاركتها في «أسطول الحرية» والتي سعت إلى كسر الحصار على قطاع غزة المفروض من قبل إسرائيل منذ العام 2007، بأن ترفع حصانتها البرلمانية ويسحب جواز سفرها الديبلوماسي وتحاكم كإرهابية، مما دعا الزعبي للقول بأن «إسرائيل بيت الديمقراطية تحولت الى بيت العنصرية والتحريض، فليس هناك ديمقراطية في إسرائيل، ونحن نعمل ضمن هوامش ديمقراطية، وحتى هذا الهامش الضيق تحاول إسرائيل القضاء عليه».

آخر أذناب الاستعمار

          هكذا حافظ الوجود الإسرائيلي على معناه باعتباره آخر أذناب الاستعمار المتطرف، فبعد عهد من الاستقلال يحتفل به الشعب العربي بقيت دولة الاحتلال بمنزلة رأس الحربة الغربية في مواجهة البربرية الشرقية، كما كان الصهيوني التاريخي أوسشكين يقول ليقنع أبناء الإمبراطورية التي بدأت تغيب عنها الشمس بحيوية المشروع الإسرائيلي وجاءت الدول الوارثة للإمبراطورية العتيدة لتواصل الدور في دعم «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» ضد كل ما يندرج تحته من مخاوف مثل الإرهاب والتطرف وتلك التهم الجاهزة.

          إسرائيل، هذا الكيان القومي الديني المتطرف التي يزعم الغرب بأنها ديمقراطية وحيدة في الشرق الأوسط، نراها اليوم في خضم الانتفاضات العربية الشعبية ضد الديكتاتورية وأنظمة الحكم القهري في الدول المجاورة لها، أو الجوار الأبعد، نراها قلقة ومتوترة من سقوط بعض هذه الأنظمة، التي كانت تدعمها وتحميها، كالنظامين المصري والتونسي، واهتزاز أنظمة أخرى من الفصيلة ذاتها، فهي لا تساعد شعوبا تتطلع للتخلص من القهر والديكتاتورية، والحصول على حريتها وحقها، في العيش بمجتمع ديمقراطي ينعم بالسلام والأمن والتنمية، وهو المجتمع المفروض أنه ينسجم مع مجتمعها الديمقراطي الذي يبشر به الغرب منذ أكثر من ستين عاما! إنها الديمقراطية المزيفة التي تواجه حركة الشعوب الساعية للديمقراطية والحرية بزيادة ميزانيات التسلح إلى أرقام خيالية، وإلى التآمر على معركة الديمقراطية، والتشكيك في مصداقيتها، وتقديم كل الدعم الخفي من أجل عرقلة الديمقراطية في الجوار، حتى لا تنكشف أكذوبتها الديمقراطية أمام العالم، وتبقى وحدها مدعية الديمقراطية والحرية، تستجلب العطف والدعم لها في مواجهة العنف والديكتاتوريات العربية.

          كنا في الستينيات والسبعينيات نتحدث عن أحلام وطموحات وآمال كبيرة. تواضعت هذه الأحلام اليوم كثيرا بعد أن تغير المشهد على أرض الواقع، وبعد أن أصبح أصحاب الحق أنفسهم يسعون للتفاوض والتنازل مع المحتل لأراضيهم سرًا وعلانية، وبعد أن عقدوا الاتفاقات السرية والعلنية، وبعد أن أصبح الباب للوقوف في الصورة التي يحتلها الغرب يمر بالبوابة الإسرائيلية.

          ولا ننسى أن الصراعات والحروب العربية  -العربية، التي قامت نتيجة للديكتاتورية والتسلط، كان لها أثرها السلبي على توجيه كفة الصراع من الوقوف موحدين تجاه عدو تاريخي، إلى التناحر العابر للأراضي العربية. بل والأدهى أن الحكام الذين وضعتهم الأنظمة الغربية - لمؤازرة الاحتلال أو السكوت عنه - وجهوا فوهة أسلحتهم لشعوبهم لإسكاتها، لتظل إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، كما تلوك ألسنة الغرب الذي تلكأ في مساندة الثورات الشعبية ضد فساد بعض الأنظمة العربية.

من أجل دولة حديثة

          في العام 1956، قبل خمسة وخمسين عاما، كتب الاقتصادي العربي الأمريكي تشارلز فيليب عيساوي، كيف أن التربة الاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط لاتزال غير عميقة بما فيه الكفاية لتمكين الديمقراطية السياسية من الغراس والازدهار. ويقول عيساوي: «ما هو مطلوب ليس مجرد إصلاحات دستورية أو إدارية، ولا هو مجرد تغيير في الأجهزة الحكومية والأفراد، بل يتخطى الأمر إلى تعديل هيكل سياسي عفا عليه الزمن لجعله يتماشى مع ميزان القوى الجديد، بما يعكس تغير العلاقات بين الطبقات الاجتماعية المختلفة».

          والدكتور تشارلز عيساوي (1916-2000) هو الأب الحقيقي للتاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط كحقل للدراسة وقد ساعد جيلين على الأقل من العلماء والطلاب على فهم أفضل للشرق الأوسط الحديث، وكان رئيسا لرابطة الشرق الأوسط الاقتصادية (1978-1983)، وهو مولود في القاهرة لأبوين سوريين، وقد أمضى طفولته بين مصر والسودان ولبنان، قبل أن يدرس في أوكسفورد عام 1934 زميلا لألبرت حوراني ثم ينتقل بعد الحرب لتدريس السياسة والاقتصاد بالجامعة الأمريكية في بيروت (1946)، ومنها إلى الولايات المتحدة حيث عمل بالأمم المتحدة على الدراسات الاستقصائية للأوضاع الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط، وبدأ عام 1951 تدريس الاقتصاد في جامعة كولومبيا الأمريكية، ليكون على مدى نصف قرن لاحق منظـِّرا للاقتصاد في المنطقة التي تحتضن أمتنا العربية.

          لهذا يأتي رأي عيساوي (القديم) حاضرا بقوة حتى بعد نصف قرن من تدوينه، حين يعلن «حاجتنا إلى تحول  اقتصادي واجتماعي كبير لتعزيز المجتمع وجعله قادرا على تحمل وزن الدولة الحديثة».

          ويضيف عيساوي: «إنه تطور ضروري إن لم يكن شرطا كافيا لإرساء الديمقراطية الحقيقية في المنطقة. كما أنه من الواجب تحريك القوى التي ستحول منطقة الشرق الأوسط  على النحو المطلوب، وأن تُبذَل جهود كبيرة لتحسين وسائل الاتصال، وإنشاء المدارس، وتحقيق الوحدة الثقافية والروحية بقدر الإمكان، لأن من شأنها سد الهوة التي تفصل بين المجموعات اللغوية والطوائف الدينية، وأن تُبذَل جهود كبيرة بالمثل لتطوير الاقتصاد من مختلف البلدان من أجل رفع المستوى العام وخلق الفرص التي تسمح للفرد بتحرير نفسه من قبضة القبيلة والعائلة والقرية».

          والسؤال هو كيف لم يستطع عيساوي، والأجيال اللاحقة عليه، أن تهدي القائمين على الأمر في أوطاننا العربية كي يتولوا هذه الدعوة بنجاح؟ الواقع أن جزءا من المعضلة يكمن في آليات الداخل لكن قسما كبيرًا يدين بأسبابه إلى الخارج، وتقف على سلم أولوياته الصراع العربي - الإسرائيلي الذي ساهم في عدم تحقيق ذلك كله، إسهاما كبيرا.

أسباب تخلفنا

          لقد التهمت ميزانيات التسليح قسما كبيرا من موازنات الدول العربية، وهي تكبر يوما بعد يوم، ولا تكاد تكون هناك قسمة عادلة بين ما يصرف على التعليم، والبحث العلمي، والثقافة، وما يكرس لشراء الأسلحة التي لم تخض سوى حروب عبثية، اللهم إلا إذا استثنينا حرب أكتوبر 1973م غير المكتملة.

          كما ساهمت دائرة مفرغة في تخلف عدد كبير من شعوبنا؛ وهي الدائرة التي تبدأ بالتعليم، وتمر بسوق العمل، وتنتهي بالبطالة والفقر. هذا الإفقار الذي مارسته النظم بدعوى التفرغ للجهاد ضد عدو خارجي (هادنته الأنظمة وسالمته وتعاونت معه أمنيا وتجاريا) طال سلبا مناحي التنمية الأولية، ولذلك خرجت جامعات العرب من سلم التقييم العلمي الأكاديمي المعترف به.

          إن السلام الذي سعت إليه بعض الأنظمة العربية مع دولة الاغتصاب اليهودية كان ثمنه مزيدا من التمكين للدولة الإسرائيلية سياسيا وعسكريا واقتصاديا على حساب الاقتصاد العربي، وإفقارًا للعرب، وها هي قضية «الغاز المصري» التي بدأ تسليط الضوء عليها قبل سقوط نظام مبارك، تتحول إلى قضية رأي عام، لتؤكد هذا الضعف تجاه إسرائيل.

          فالغاز المصري كان لسنوات يصدر إلى تلك الدولة بأقل من ثلث السعر الذي يشتريه به المواطن المصري، وهو ما يجعل الخزانة المصرية تخسر 9 ملايين دولار يوميا، ويوفر لإسرائيل حسب المسئولين الإسرائيليين أنفسهم 10 مليارات دولار أمريكي سنويا، لا شك أنها كانت ستسهم في التنمية لو لم تفرض مثل تلك الاتفاقات التي تواصل تحت ستار الاستقرار المشبوه حرمان الشعوب من حقوقها، لمصلحة دولة تدعي ديمقراطية مزيفة، رغم أنها نهبت الأرض، وسلبت التاريخ، وسرقت الثروات!

          كما ساهمت تلك الاتفاقات المنفردة مع الكيان الاستيطاني في تمزيق التعاون القومي بين البلدان العربية تحت راية أكثر من سبب، وهي الفرقة التي دعمت تخلف أمتنا العربية، وساهمت بالمثل في توقف عجلة التنمية العربية القائمة على التكافل والتكامل والمشاركة لمصلحة رخاء الشعوب العربية وازدهارها.

          لقد رهن الغرب علاقاته معنا بمدى تسامحنا مع السلب المنظم لحقوقنا الشرعية، ومدى مهادنتنا لمطالبه التعسفية، وقد غرقنا نحن بالمثل في قبضة الغرب، وأضعنا عمقنا الآسيوي والإفريقي، بما فيه من ثروات بشرية، وموارد طبيعية، وأسواق مليونية، يمكن أن تمثل بديلا حقيقيا يساهم في إزدهار منطقتنا العربية التي لا تعوزها الموارد ولا تنقصها العزائم. لقد بدأ الانقسام يهدد الحدود السياسية التي رسمها الاستعمار ويسعى نفسه لتغييرها، وها هي السودان تتخلى عن جنوبها في استفتاء رعاه الغرب.

          كما بدأت بلدان حوض نهر النيل - مدعومة بمساندة إسرائيلية معلنة تبني سدودا على مجرى النهر - في إعادة النظر في الاتفاقات التي تمنح مصر والسودان حقوقا تاريخية في الاستفادة بمياه النيل. وهذان النموذجان يمثلان معا صورة لمحاولات أطراف عديدة في الاعتداء على الحقوق العربية بدعم لا يخفى مما يُدعى «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»!

          وهنا لا أريد أن أدون توصيات جديدة تضاف إلى مئات التوصيات التي تحفظها أدراج مؤسساتنا العربية المشتركة، وأولها الجامعة العربية، وإنما أشدد على أن الوقت قد نفد على منع محاولة التخلف من الحدوث، إلا أنه لم يعلن عن نهاية الأمل في التنمية.

          إن ذكرى مرور 63 عاما على سقوط فلسطين، وإقامة الكيان اليهودي عليها، تأتي متزامنة مع حركة شاملة تمتد على طول وعرض الأرض العربية رافضة الاستمرار في قبول واقع فرض عليها، ولم يعد مناسبا لحياتها الحاضرة، بما يفرض على السلطات العربية كافة، والشعوب العربية، أن تعيد حساباتها على مختلف المستويات، داخليا وخارجيا، حسابات تضع في برامجها إعادة البناء الشامل على أساس كل الحرية وكل الثروة وكل تقرير المصير للشعب وحده. مع الالتفات إلى البدء في بناء أسس النهضة التي لن نتخلص من دونها من هيمنة أكذوبة الديمقراطية الإسرائيلية في الشرق الأوسط.

          البداية الحقيقية للتنمية المستدامة تبدأ حين ننظر بعين التجارب المريرة للفرقة والشتات، من أجل أن تعود كلمة واحدة تدفعنا للعمل: المستقبل.

          يدعونا المستقبل إلى أن ننشئ ديمقراطيات حقيقية، تعمل من أجل شعوبها، فلن يؤمِّن المستقبل مكانا لنا تحت سمائه إلا إذا كنا جادين في مسيرة التنمية المستدامة لكل الشعوب العربية، وعلى الأصعدة المجتمعية كافة. وما أؤكد عليه هو أن صعود الديمقراطيات الحقيقية سيكون إشارة إلى سقوط الديمقراطيات المزيفة وفي مقدمتها الديمقراطية الإسرائيلية.

 

 

سليمان إبراهيم العسكري