مرفأ الذاكرة

  مرفأ الذاكرة
        

حياتي .. كتاب مفتوح

         سوف أبدأ من المحطة الأخيرة التي تم اختياري فيها سفيرا لمنظمة اليونيسيف للطفولة في سوريا, ثم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا, لا لأقول عنها إنها نهاية المشوار, بل لأعلن أنها مرحلة استكمال للمراحل السابقة, واتطلع من خلالها إلى تحقيق المزيد من أجل الأطفال والطفولة.

         في هذه المرحلة سئلت: ألم تتعب وأنت الذي أجريت لك أخيرا عملية في قلبك? فأجبت: كل إنسان يتعب, وبخاصة في سن معينة, ولكن مادام الله يعطيني القوة, فسأتابع, وعندما أتعب, سوف اعترف بذلك, تماماً كما فعلت عندما تعبت من المسرح فاعتزلته.

         وتشاء المصادفة أن يكون اختياري لمهمة سفارة الطفولة مرتبطا بمعاناتي في طفولتي, ولعل هذا السبب المباشر لتوجهي إلى الأطفال من خلال فني, واضعا قسماً كبيراً من عطائي في خدمة قضايا الأطفال والطفولة, قدمت أعمالاً عن الأطفال, ومن خلال الأطفال, في المسرح والإذاعة والسينما والتلفزيون, وخاصة في فيلمي (كفرون) وفي حلقات تلفزيونية خاصة بالأطفال, وأسعى لتقديم فيلم جديد عن الأطفال بعنوان (الآباء الصغار) كما قدمنا في الدورة السادسة الماضية لمهرجان الأغنية السورية مجموعة من أغاني الطفولة المتطورة في الكلمات واللحن والأداء.

         إلى جانب هذا كانت لي مشاركات واسعة في المؤتمرات والندوات والمهرجانات واللقاءات والمسيرات التي تقام هنا وهناك من أجل الطفولة, كنت أعتذر في الكثير من الأحيان عن عدم المشاركة في مهرجانات فنية وعادية, ولكن لم يحدث, مرة واحدة, أن توانيت أو اعتذرت عن عدم الاشتراك في أي فعالية تخص الأطفال, وخاصة التي تقوم على مشاريع خيرية لصالح الأطفال أو الحفلات أو المناسبات التي يتم فيها التبرع للأطفال, وبصورة خاصة للمعاقين الذين يجب أن نهتم بهم جميعاً ونعوضهم عن هذه الخسارة التي وصلت بهم إلى الإعاقة. وأنا أقوم بجميع هذه الأنشطة متطوعا وعن سابق تخطيط وتصميم, لم أفعل ذلك من أجل جعالة أو منصب أو تكريم أو مكافأة, لأن مكافأتي الكبرى هي أن أرسم ابتسامة على وجه طفل محروم, أو يتيم, أو مشرد أو معاق.

         ومادمنا قد بدأنا منذ الحاضر, فيمكن أن نقف مع آخر عمل تلفزيوني لي وهو مسلسل (عودة غوار), وهو يعود إلى الشاشة بعد ربع قرن من الزمن, ولم يكن هذا العمل عودة إلى الدفاتر العتيقة (بسبب الإفلاس) بل تلبية لمطلب جماهيري ملح.

         والمعروف أن أعمالي التلفزيونية السابقة في حدود العشرة أعمال أساسية وهي: مقالب غوار ـ حمام الهنا ـ مسك وعنبر ـ وين الغلط ـ وادي المسك ـ الدغري ـ أحلام أبو الهنا ـ ممكن لحظة ـ مجموعة إعلانات.

         وكنت في مسلسلاتي الثلاثة الأخيرة (وادي المسك) و(الدغري) و(أحلام أبو الهنا) قد تخليت عن الشخصية التقليدية لغوار, ومع هذا فقد أصر جمهوري على عودة غوار و(طرطقة) قبقابه, وطرة طربوشه, وشكل سرواله.

         والواقع أن غوار الطوشة شخصية تبقى في الذاكرة, ولها في وجدان المشاهدين نوع من الحضور الخاص والمتميز لدرجة أن آخر عمل قدمناه عن هذه الشخصية (قبل عودة غوار) مر عليه أكثر من عشرين سنة, وفي كل مرة يعرض أحد مسلسلاتنا القديمة نجد أن غوار الطوشة يلقى القبول والإعجاب, وعندما كنا نعمل في تحضير مسلسل (أبوالهنا) كنا نحاول أن نجعل من شخصية (أبو الهنا) امتداداً لشخصية غوار مع بعض التطوير, ولكن يبدو أن هذا لم يتحقق في أذهان الناس الذين اعتادوا شخصية غوار شخصية نمطية فـي إطـار معـين, ومرتبطة بـ (المقالب) ومع هذا لم نستطع, في (عودة غوار) أن نعود إلى الشخصية القديمة كما كانت, وكما تخيل البعض, وكان لابد من مراعاة موضوع الزمن, واختلاف العمر والشكل والمعطيات والإفرازات الاجتماعية الجديدة, ومن هنـا بدا أبوالهنا كإنسان مسحوق في المجتمع, وبدا غوار الجديد كذلك, لكنه استطاع في النهاية, وبنوع من الفهلوية المستعادة أن يرضي ذوق الناس بأن يهزم خصومه الأشرار من المستغلين, أما إذا كنتم تريدون الوقوف على رأيي الشخصي فأنا اعتبر شخصية (أبو الهنا) التي حمل عليها النقاد, شخصية فنية إنسانية ومتميزة وأنا كثير التعاطف معها, بدليل أن الحلقات الإرشادية التي قدمتها بعنوان (ممكن لحظة) قدمتها بهذه الشخـصـية, وهذه قناعتي وأنا عادة لا أتخلى عن قناعاتي بسهولة.

         وقصتي مع المسرح فصل مهم من مسيرتي الفنية, وسأبدأ معها من الذروة من عام 1993 عندما أعلنت اعتزالي المسرح وربط أكثر من واحد هذا الاعتزال بمرحلة التعاون بيني وبين الكاتب محمد الماغوط, ولم يكن هذا صحيحاً.

         وقال آخرون إنني انتهيت كفنان وفضلت التفرغ للعمل الإداري في مهرجان الأغنية السورية كمدير للمهرجان بتكليف من وزير الإعلام في حين أنني ـ في الواقع ـ لم أعتزل السينما ولم أعتزل التلفزيون, أما اعتزال المسرح فله أسبابه الوجيهة.

         وقبل أن نصل إلى الاعتزال لابد من الاعتراف بأن تجربتي المسرحية كانت نقلة أساسية في مسيرتي الفنية على الرغم من أن ظهور مسرحي كان مفاجأة رافقها الكثير من الدهشة والتساؤل والقلق ولكن رافقها أيضا التألق والضجة والاهتمام الإعلامي على الرغم من أن البداية كانت مع ما يمكن أن نسميه المسرح الوطني, وكان مع مسرحية (ضيعة تشرين) التي طرحنا فيها موضوع الحرب كما طرحنا انتقادات اجتماعية ولوحات حية بالإضافة إلى الاستعراض والفنون الشعبية الراقصة والغناء والموسيقى, وبهذا حاولنا أن نؤسس لنموذج مختلف من المسرح كان له جماهيرية واسعة ليس في سوريا فحسب, وإنما في جميع أقطار الوطن العربي التي عرضنا فيها مسرحنا, حتى في المهاجر حيث تقيم الجاليات العربية, حتى اسم الفرقة اخترناه بإيحاء عرضنا الأول فأسميناها (أسرة تشرين).

المسرح.. المربي الحقيقي

         أنا أعترف بأن التربية الحقيقية للفنان تتم في المسرح بسبب العلاقة الحميمة التي تربط الفنان بالجمهور, فجمهور المسرح يتدخل في الصياغة النهائية للعرض بحيث يصبح في اليوم العاشر مثلاً مختلفاً عنه في الـيوم الأول, وأنا حتـى الآن لا أزال أعد المسرح بيتي, لأنه يتيح للفنان إمكان التواصل الحي المباشر مع الجمهور وإمكان التصعيد الجميل للعطاء, أما العمل مع الشاشة فيقوم على تقطيع الإحساس ليتم وصله لاحقاً بوساطة المونتاج, والممثل في السينما أو التلفـزيون لا يخاطب إنساناً, بل كتلة معدن لها عين من زجاج.

         بدأ مسرحي عام 1974 بمسرحية (ضيعة تشرين), وكنت قد قدمت قبلها بعض الأعمال المسرحية وخاصة في الجامعة, وكذلك تجربة مسرح الشوك في أعقاب نكسة حزيران (يونيو) 1967.

         وبعد ضيعة تشرين قدمنا مسرحية (غربة) عام 1976, ومسرحية (كاسك يا وطن) عام 1979 و(شقائق النعمان) عام 1987.

         وكانت هذه المسرحيات بالتعاون مع الكاتب محمد الماغوط, ومنذ انفصالنا قدمت في موسم 1993 ـ 1994 مسرحية (صانع المطر) وهي مقتبسة, ومسرحية للأطفال بعنوان (العصفورة الصغيرة) قبل أن أعلن اعتزالي.

أنا والماغوط

         وعن التعاون الذي قام بيني وبين الكاتب محمد الماغوط والذي حوله البعض إلى خلاف, وقالوا إنني تصرفت بمسرحية (شقائق النعمان) ولم أترك فيها من تأليف الماغوط جملة واحدة, فاكتفي بالقول: إننا تعاونا تعاونا طيبا على مدى أربع مسرحيات, ثم انتهى هذا التعاون, وأحيل أصحاب الاتهام إلى ما كتبه الماغوط عن هذه المسرحية بالذات في الكراس الذي وزعه بمعرفته على روادها.

         كتب يقول: (قد يستطيع الإنسان أن يهرب من بيته, ومن عمله, ومن دائنيه ووطنه, من ماضيه وحاضره, ولكن هل يستطيع أن يهرب من مستقبله?

         إن (شقائق النعمان) ليست إجابة عن هذا السؤال, بل هي صرخة في بيداء الضمير العربي, من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه, لا من أجلنا نحن أطفال التقسيم, وشباب تشرين, وكهول الاجتياح, بل من أجل كل أطفالنا, وكل ما هو نقي وبريء وأعزل أمام الداخل والخارج, ورغم عمليات الصقل والتلميع التي تجري هنا وهناك لهذه الأمة, فإن التصحر الفكري والأخلاقي والإنساني, قبل الزراعي, أخذ يزحف عليها من جميع الجهات, فهل نعترف بهذه الحقيقة? أن نترك لدارسي الأساطير أن يثبتوا في المستقبل أن القرود الهندية التي لا ترى, ولا تسمع, ولا تتكلم, ليست أسطورة هندية بل حقيقة عربية!).

         كما أحب أن أشير ـ مادامت محطة الذاكـرة عند المسرح ـ  إلى نقطة مهمة ومشتركة بين مسرحياتي وهي أن مشاهد الختام فيها قناعة بعدم الهروب أو النزوح, وبكتابة التاريخ من جديد.

         لقد عشت هاجس التجريب, وخلق مسرح شعبي, وقد تجسد هذا من خلال نقلة نوعية من كوميديا المقالب والمواقف الاجتماعية المباشرة كما في مسلسلي (صح النوم) أو (حمام الهنا) إلى التنويع على وتر الهموم العربية. ذلك لأن المسرح يجب أن يكـون صادقاً, والذي يكتـب للمسرح يجب ألا يكون مجرد مؤلف, بل أن يكتب من القلب ليصل إلى قلوب الناس عبر طرح مشاكلهم ومعايشاتهم, فلا مبرر لوجود مسرح لا يعكس حقيقة الناس والواقع والمجتمع وأرى أن المسرح يجب أن يسعى إلى التحريض على التغيير إلى الأفضل, وأن يخرج من دائرة التقليد والمحاكاة إلى مرحلة التطوير والتفعيل وقد كان الجمهور المتلقي معنا في متعة المشاهدة وفائدتها, وقد امتد هذا منذ أن كنت شخصية بطربوش وقبقاب, إلى أن صرت شهيداً بأوسمة.

         لم يعد المهم ماذا يقول الفنان, بل كيف يقول, وهنا الدور الحقيقي للفن.

اعتزال المسرح

         بقي أن أتحدث عن سبب اعتزالي المسرح فأقول إن هناك ثلاثة أسباب أعددها بالترتيب:

         ـ السبب الأول: هو أن المسرح فعلا يتطلب طاقة الشباب وحيوية الشباب, ففي السينما والتلفزيون والعمل الإداري لا توجد معاناة نفسية متواترة للممثل, لا يوجد تسلسل للأحداث والمشاعر, فأنت تستطيع أن تصور آخرمشهد قبل أوله, وبالتالي يمكن أن تكون هناك حالة نفسية مخترعة, بينما نجد الممثل على المسرح يدخل الشخصية في العمق, يدخل حالتها, وأذكر أنني في مسرحية (كاسك يا وطن), في مشهد الهاتف مع والدي, كنت أبكي كل يوم, والناس يسألون: هل هذه الدموع حقيقية أم ماكياج? وكنت أجيب: في المسرح الحقيقي لا يوجد هذا النوع من الماكياج, إنها معاناة نفسية حقيقية لم أعد أستطيع احتمالها, وأنا صادق في هذا الموضوع, كما أن حركة المسرح يجب أن تكون رشيقة على عكس حركة ممثل تجاوز الستين.

         في عقد الستينيات كان الفنان منصور الرحباني يقول لمن حوله: (شوفوا كيف دريد لحام عم يطير طيران عالمسرح).

         الآن لم أعد أستطيع مثل هذا الطيران.

         ـ السبب الثاني: هو أنني لم أعد أستطيع أن أقدم أفضل من عرض (صانع المطر) فكل شيء فكرت فيه منذ أن كنت طفلاً حتى اليوم وضعته في هذه المسرحية.

         لقد تعلمت درساً من المرحوم عاصي الرحباني في هذا المجال, كنت في يوم من الأيام أهنئه بنجاح مسرحية (ناس من ورق) فوجدته مهموما حزيناً, فسألته: هل يمكن أن يحزن أحد في يوم النجاح!

         فقال: (المسرحية نجحت, شو بدي أعمل بعدها?) هذا هو الشعور بالمسئولية, وهو الشعور الذي انتابني بعد تقديم (صانع المطر).

         ـ بقي السبب الثالث: وهو سبب وجيه ومؤلم في الوقت نفسه, أنا مسرحي ملتزم, أتعامل مع القضايا القومية المصيرية الكبرى, والمشكلة أن هذه القضايا لم تعد في دائرة اهتمام المواطن, أنا أرى أن هم الحياة اليومي خطف المواطن من قضاياه الكبرى والمصيرية, رغيف الخبز الذي قطره خمسة عشر سنتيمترا أصبح قطره عشرة آلاف كيلومتر, وأرى أن الحديث عن الوحدة العربية مثلا أصبح شيئا يبدو غريبا الآن, وكذلك الحديث عن القضية الفلسطينية, لقد تبدلت الأمور وهذا لا يعني أنه يجب أن يثنينا عن إيماننا بهذه القضايا الكبيرة, إذ يجب أن تبقى حلماً على الأقل, فقد تتحقق في يوم من الأيام, وقد تكون بعيدة والحديث عنها لا يثير اهتمام أحد, بل قد يكون من الواجب عليك أن تتحدث عنها بنوع من الترميز والإسقاط غير المباشر.

أنا والسينما

         وننتقل إلى الشاشة الكبيرة, السينما, والتي امتدت تجربتها على مدى ثلاثين عاما لأقول إن تجربتي في السينما عبر العقود الثلاثة تنقسم إلى مرحلتين:

         الأولى: وهي مرحلة الأفلام التي يمكن أن نسميها مرحلة الأفلام التجارية والتي قدمتها مع الفنان المرحوم نهاد قلعي باستضافة عدد من النجوم المصريين واللبنانيين, وقام بإخراجها مخرجون من مصر كانوا يحضرون إلى سوريا ولبنان لفترة قصيرة, ويخرجون هذه الأفلام بسرعة قياسية وعلى الرغم من أن تلك الأفلام حققت نجاحاً تجارياً وأرباحا كثيرة, ولاتزال تعرض حتى الآن بين حين وآخر على بعض الفضائيات, فإنني أعتبرها فاشلة, فشباك التذاكر في مثل هذه الحالة لا يعتبر مؤشرا للنجاح الحقيقي.

         وقد بدأت تلك المرحلة بفيلم (عقد اللولو) عام 1964 وانتهت بفيلم (إمبراطورية غوار) عام 1982 ومن أفلام تلك المرحلة:عقد اللولو ـ اللص الظريف ـ غوار لاعب كرة ـ الصعاليك ـ الصديقان ـ الشريدان ـ المليونيرة ـ غرام في استامبول ـ مقلب من المكسيك ـ لقاء في تدمر ـ الرجل المناسب ـ فندق الأحلام ـ واحد + واحد ـ النصابين الثلاثة ـ خياط للسيدات ـ مسك وعنبر ـ المزيفون ـ سمك بدون حسك ـ زوجتي من الهيبز ـ امرأة تسكن وحدها ـ غوار جيمس بوند ـ عندما تغيب الزوجات ـ إمبراطورية غوار.

         أما المخرجون الذين تعاملنا معهم فمنهم يوسف المعلوف ـ رضا ميسر ـ سيف الدين شوكت ـ نيازي مصطفى ـ يوسف عيسى ـ عاطف سالم ـ حسن الصيفي ـ حلمي رفلة ـ نجدي حافظ ـ محمد ضياء الدين ـ نبيل المالح ـ سمير الغصيني ـ مروان عكاوي.

         لم تفشل تلك الأفلام جماهيريا بسبب استقطابها عدداً كبيراً من نجوم الفن ونجماته من مصر وسوريا ولبنان, وبسبب جرعات المشاهد الجنسية الكثيرة فيها, ولكنها كانت فاشلة فنياً, وهذه حال الأفلام التجارية أو أفلام الشباك.

         أما المرحلة الثانية فهي مرحلة نوعية ومختلفة واشتملت على تقديم ثلاثة أفلام هي: الحدود ـ التقرير ـ كفرون.

         كانت نقلة نوعية بشهادة الجميع وباعتراف النقاد وكانت أعمالاً متميزة في مسيرتي السينمائية, وأنا أعتز بها, وأشعر أنها مرحلة تحول جديد حتى بالنسبة لأفلام السينما العربية, وكانت الأفلام الثلاثة من إخراجي.

         أما عن الكتابة, فأنا أعترف بأنني في الأصل, لست كاتباً, وأعاني كثيراً حين أقوم بالكتابة, صحيح أنني شاركت في كتابة أكثر أعمالي, ولكني أتمنى أن يقدم لي أي كاتب عملاً جاهزاً. أما الذين قالوا إنني حاولت استخدام ما يمكن تسميته ـ تجاوزاً ـ الرمزية في أعمالي السينمائية فأنا أقول لهم: لست معنياً بالتعريفات المتداولة, المهم أنني كنت استخدم ما يمكن أن نسميه الرمز البسيط, ولا أحول العمل إلى أحجية أو شبكة من المعاني المتقطعة صعبة الحل, أما لجوئي إلى الرمز فكان للتخفيف من المباشرة, وغالباً ما يكون الرمز واضحاً وظاهراً للعيان كما في فيلم(الحدود), كذلك عندما استخدمنا (شرقستان) و(غربستان) فعامة الناس عرفت أن المقصود دولتان عربيتان متجاورتان.

         قبل هذه الأفلام كنت قد توقفت عن النشاط السينمائي حوالي عقدين من الزمن كنت في حالة يمكن أن نسميها (وقفة مراجعة) وإعادة نظر, ولهذا فإن فيلم (الحدود) الذي جاء بعد حدوث المراجعة النفسية ابتعدت فيه عن المطبات السابقة لأقدم من خلاله ما يوازي أعمالي على المسرح, وأعمالي الأخيرة في التلفزيون. أما فيلم (كفرون) فهو برأيي فيلم متميز, يبدو للوهلة الأولى أنه فيلم أطفال, لكنه في الواقع فيلم للصغار والكبار, ونستطيع أن نقول إنه فيلم للعائلة, وهذه نوعية متميزة في السينما العربية, أرجو أن تستمر وأن تتصاعد.

مهرجان الأغنية

         أصل بعد هذا, في مرفأ الذاكرة, إلى عمل مختلف وهو إدارة مهرجان الأغنية السورية اعتباراً من دورته الثانية عام 1995 وقد ظن البعض أن قبولي هذا المنصب بعد اعتزالي المسرح كان بهدف بقائي على الساحة الفنية.

         سأعترف مسبقا بأن العمل الفني غير العمل الإداري, وبالنسبة لمهرجان الأغنية يعرف الجميع أنني شاركت في البداية كعضو في اللجنة التحضيرية للمهرجان, وقد حاولت الاعتذار أكثر من مرة عن عدم  قبول إدارته, لكن وزير الإعلام شرفني بهذه المهمة عندما أصر على تكليفي إدارة المهرجان, وأنا أعتبرها مهمة وطنية إلى جانب أنها مهمة فنية وإدارية.

         ومنذ البداية كنت أقول إن هذا المهرجان نوعي, وبعيد عن البهرجة الاحتفالية الظاهرة التي تجعل منه حفلة من حفلات (أضواء المدينة), فالجانب الثقافي فيه جانب مهم, ورئيسي وإلا لما حمل طابع الاستمرار والتصاعد بهذه القوة وهذا الزخم, وفي كل دورة منه نكتشف جديداً في التركة التراثية التي خلفها لنا الأسلاف, وهي كنوز مدفونة نمشي عليها, مثل كنوز الآثار. الأمر نفسه بالنسبة لتراثنا الموسيقي, فيه كنوز كثيرة لم يكن لدينا في السابق عنها أي معلومات, هذه الكنوز ـ وبعضها موجود في ذاكرة الحفظة ـ نقوم بتوثيقها ليس لنا فقط, بل لحضارة الأجيال القادمة.

         يكفي أن نقول إن أول مخطوطة موسيقية في العالم اكتشفت في سوريا, وعندما نرجع إلى هذه الوثائق والمخطوطات نجد أن أغلب الموسيقيين هم شيوخ: الشيخ أمين الجندي, والشيخ أبوخليل القباني, والشيخ علي الدرويش, والشيخ عمر البطش, وهذا دليل على أن مثل هذه الفنون الراقية هي تراث مهم في حياة أمتنا وشعبنا.

         يقام المهرجان صيف كل عام في حلب, مدينة الأصالة والطرب, ويختلف قليلاً, أو كثيراً, عن بقية المهرجانات العربية المماثلة, فهو مهرجان نوعي يسعى إلى جانب العروض الغنائية والموسيقية والراقصة, إلى تأكيد حضور ثقافي مواز من خلال المعارض والندوات ونذكر على سبيل المثال معرض الكتب الذي عرض حتى الآن حوالي ألف كتاب مؤلف عن الموسيقى والغناء, وجميعها مطبوع في سوريا, وكذلك معرض الآلات الموسيقية قديماً وحديثاً, ومعرض المخطوطات, وغيرها من المخطوطات الموسيقية النادرة, مثل نوتات غير معروفة اكتشفناها للموسيقي الكبير الراحل كميل شامبير.

         أما الندوات, والتي تتعلق بقضايا الفن فيحاضر فيها كبار الاختصاصيين بالإضافة إلى مداخلات الجمهور والنقاد, وقد كانت الندوات الأربع في المهرجان السادس للمهرجان حول الموسيقى والغناء في التراث الديني منذ فجر التاريخ حتى اليوم.

         ولابد من وقفة مكثفة مع النقد والنقـاد لأقـول إنني لا أتجاهل النقد والنقاد كما يشاع عني, بل أحترم النقد الموضوعي, والمفارقة في الأمور أن أكثر النقد يوجه لي من النقاد السوريين, على عكس النقاد العرب, ويبدو ـ كما يقولون ـ أن زامر الحي لا يطرب, إذ إن أعمالي قوبلت من الجمهور والنقاد في جميع الأقطار العربية بأفضل مما قوبلت به في سوريا, وصدقوني أن حب الناس هو الذي جعلني أستمر على مدى أربعة عقود من الزمن, ومع هذا أقول إنني لست على استعداد لأن أتخلى عن قناعاتي وأسلوبي وأهدافي من أجل رأي هذا أو ذاك.. فالفنان يستفيد من النقد ومن الآراء التي تطرح حوله, وقد يجسد هذه الاستفادة بتطوير في هذا العمل أو ذاك, ولكنه لن يلغي نفسه من أجل رأي ناقد قد يكون متحاملاً أو أن نقده مجرد اجتهاد.

         ويبدو أن اسم (الفن السياحي) هو أكثر انطباقا على الفنون التجارية التي نشاهدها في الملاهي والفنادق والصالات وعلب الليل وحتى على بعض المسارح, ولهذا هناك من يتحدث عن انحسار الكوميديا العربية وهبوطها إلى التهريج, ذلك لأن التفكير السياحي التجاري, غير المدروس وغير المنضبط, أساء للمبادئ وللقيم وللأخلاق, تحول الإنسان العربي من منتج إلى مستهلك, بل إلى نوع من الاستهلاك يمكن أن نسميه (الاستهلاك التفاخري) وإذا كانت السياحة ثقافة ومعرفة وترفيهاً راقياً, فقد حولها بعض الفنانين أو بعض مدعي الفن إلى رقص وتهريج وشراب وهز بطن, وكم من مسرحية منعت أو أوقفت عن العرض بسبب ما فيها من كلمات مخجلة أو نابية, وعلى الرغم من جميع الحلول والمحاولات التي بذلت لوقف زحف الفن السياحي, فلـم تؤد إلـى نتيجة, لا من خلال المهرجانات ولا من خلال اللقاءات والندوات والاجتماعات, ولا من خلال الأعمال العربية الفنية المشتركة, وقد شكلت اتحادات عربية للمسرحيين والسينمائيين والنقاد العرب, وأقيمت مهرجانات للسينما والمسرح والإذاعة والتلفزيون ولكنها ظلت تظاهرات فنية للقاء والتعارف وتوزيع الجوائز, حتى التوصيات التي تخرج بها هذه اللقاءات لا تأخذ طريقها للتوزيع.

         وأعود إلى بعض الدفاتر القديمة, فقد نشأت في بيئة فقيرة جداً, وحياة أسرتي كانت صعبة, عملنا مبكرين ونحن لا نزال أطفالاً, ولكن والدتي علمتنا أشياء كثيرة من تجاربها رغم أنها لم تكن تقرأ ولا تكتب.

         كانت بالنسبة لي أكثر السيدات ثقافة في العالم, بقدر ما كانت تحفظ من السير الشعبية والحكايات والأمثال وأهم ما علمتني إياه هو أن الحياة كفاح وليست ضربة حظ, علمتني أنني لو رأيت طفلاً في حالة ميسورة, ألا أنقم عليه, بل أحاول أن أكون مثله, وهذا ما جعلني عنيداً جداً, ولم أعتبر أي فشل في حياتي نهاية الكون, بل على العكس, اعتبرت أي فشل ـ وهذا ممكن الحدوث مع أي إنسان ـ محطة لانطلاقة جديدة.

         كان في طفولتي الكثير من التفاصيل المتعبة, ولم تكن طفولة سعيدة بأي شكل من الأشكال, كان مولدي في حي القيمرية عام 1934 وكنت واحداً من اثني عشر أخاً من البنات والصبيان, أما والدي فدمشقي واسمه محمد حسن اللحام, وأما أمي فلبنانية من قرية مشغرة واسمها (مريم علي) ولعل نشأتي في حي شعبي كان له أثر في حياتي الفنية وفي نوعية أعمالي التي قدمتها.

         كنت أحاول أن أجمع بين الدراسة والعمل في طفولتي, وقد عملت في بيع أقلام الرصاص وعلب الكبريت وعملت حتى في دكان حداد, نافخا (للكير), ولم أتمكن من دخول الجامعة بعد نيل الشهادة الثانوية مباشرة بسبب ضيق ذات اليد, فدخلت دار المعلمين وحصلت على راتب شهري قدره (136) ليرة سورية مما ساعدني على دخول الجامعة وإعطاء دروس خصوصية, وفي الجامعة اكتشفت مواهبي الفنية من خلال تقديم بعض العروض, وكانت دراستي في الفيزياء والكيمياء, وتخرجت في عام 1959.

         وكنت في هذا المجال عصامياً, أحاول شق طريقي بنفسي, وبين عامي 1958 و 1959 عينت معلما ابتدائيا في قرية صلخد (سوريا) وتعلمت العزف على الاوكورديون وأنشأت فرقة مسرحية في البلدة.

         ومن المحطات الشخصية في حياتي أنني تزوجت ثلاث مرات من السيدات: مي الحسيني التي انجبت لي ابني ثائر وابنتي عبير (وهما متزوجان الآن), وبعد قفص الزوجية دخلت قفص التلفزيون وكان في بداياته عام 1960 وعن طريق الدكتور صباح قباني أول مدير للتلفزيون السوري حيث بدأت مرحلة مهمة من حياتي الفنية وكان المرحوم نهاد قلعي في تلك الفترة مديرا للمسرح القومي في وزارة الثقافة, تعرفت عليه واتفقنا على العمل معاً أمام كاميرا الشاشة الصغيرة وفي التلفزيون اخترت شخصية (غوار الطوشة) التي لعبت من خلالها أدوار أعمالي الأولى.

         وفي عام 1963 تزوجت من هالة بيطار, إحدى عضوات فرقة الدبكة بالتلفزيون حيث تركت العمل وتفرغت لشئون البيت, ثم تزوجت لفترة وجيزة الفنانة صباح جزائري وتم الطلاق عام 1990, وتعيش معي الآن زوجتي الثانية هالة بيطار, ولها دور كبير في مسيرتي الفنية, من خلال وقوفها إلى جانبي ومساندتي في جميع الحالات والأزمات والنجاحات التي مررت بها.

         هوايتي القراءة والموسيقى, وأسوأ هواياتي (التدخين) وسيكون يوم انتصار حقيقي بالنسبة لي عندما أستطيع أن أقلع عنه.

         أقرأ القصة القصيرة, والشعر الحديث الجميل والمفهوم, والزجل المصري, ولا أحب الرواية.

         أحب شعر محمد الماغوط, وصلاح جاهين, ونزار قباني.

         لا أعطي مواعيد يوم الجمعة, بل أكرس هذا اليوم لاستقبال جميع أفراد أسرتي.

         وأنا بطبعي إنسان محافظ, كزوج وكأب وكجد, محافظ على العادات والتقاليد الاجتماعية والأسرية, وحتى على موعد نومي وهو في الساعة الحادية عشرة تماماً, أما أسعد أوقاتي فهي التي أقضيها بين أفراد أسرتي وأبنائي وأحفادي, وعندها تتراجع جميع المكاسب الأخرى المادية والمعنوية ولحظات النجاح والشهرة والأضواء, والجوائز التي فزت بها, والأوسمة التي حصلت عليها, وحياتي كتاب مفتوح للناس إذ ليس فيها أي أسرار.

 

دريد لحام   

 




دريد لحام





دريد لحام يتلقى التهاني عند اختياره سفيرا لليونيسيف





دريد أثناء اشتراكه في مهرجان الأغنية الذي كان مديرا له





مشهد من مسلسل عودة غوار