تأملات في حال الإسلام اليوم.. فهمي جدعان

تأملات في حال الإسلام اليوم.. فهمي جدعان
        

          لا أحد يفلت اليوم من وطأة السؤال الذي يثيره المعطى الإسلامي، إذ بات في «مدينة الإسلام المحلية»، وفي «مدينة الإسلام الكونية» موطنًا لتضارب التمثلات الوجدانية والتصورات المفهومية والسياسات العملية. وتكاد أغلبية المعمورة، في شأنه، تذهب في طريقين: «الخوف على الإسلام» أو «الخوف من الإسلام».

          في الفضاءات الخالصة لهذا الدين تتردد أصداء هذا الوعي الشقي الصادم: هل نشهد حقًا زمن ارتداد الإسلام إلى حدوده الدنيا، وأننا قبالةُ أمارات تنبئ بحدث كوني عظيم يتجه فيه الإسلام إلى طريق التشظي والعجز والأفول وغيض الملامح؟ وذلك برغم ما تشي به ظواهر مباينة توقع في الاعتقاد أو في الظن أننا نشهد «عودة الإسلام»، وأن هذا الدين قد رُدّت إليه الروح واستيقظ من سباته الطويل وأصبح يشخص بما هو البديل الحقيقي للنظم والعقائد التي ألحقت بها الليبرالية والعلمانية والديمقراطية إخفاقًا نهائيًا؟ في جميع الأحوال عوارض «القلق» و«التوجس» من خبايا المستقبل ظاهرة للعيان.

          قُبالة هذا الهاجس، ومنذ أربعة عقود على وجه الخصوص يستبد بجملة الفضاءات التي تنتسب إلى «الحضارة الغربية»، وعي يراد له أن يصوّر الواقع الشاهد على النحو التالي: أفلح الغرب الحداثي في أن يقضي على أعدائه في الداخل: سلطة الكنيسة والدين، والنظم الفاشية والنازية والشيوعية، لكنه اليوم يقابل عدوًا جديدًا لا يقل خطرًا هو الإسلام! وهذا الخطر قادم من ثلاثة مصادر: الهجرة أولاً، والإرهاب ثانيًا، والعداء الثقافي والحضاري النشط ثالثًا.

          لننظر في الصورة التي يبدو عليها الإسلام اليوم في مدينته الخالصة له، أي في الفضاءات العربية والإسلامية التي تنتسب إلى الإسلام أو أن الدين هو الحاكم في الأغلبي من شئون أهلها وعوارض حياتهم ووقائع أمورهم: الإبستيمولوجية - أو المعرفية - والعقيدية والاجتماعية والإنسانية والكونية.

          إن أي قول في حال الإسلام الراهنة هو بالضرورة ذو متعلّق جوهري بمعطيات الحداثة وتداخلاتها الثقافية وأحكامها ومطالبها الضاغطة أو الضرورية، وأية مسألة لا توضع في هذا السياق ستظل عالقة في قفص العزلة الذاتية والفقر المقيم.

          في حدود هذه المقاربة يقف بنا واقع الإسلام اليوم على وجه منهجي مركزي من وجوه الصورة، هو أن وعي الزمن الراهن يجري وفق مبدأ قياس الغائب على الشاهد. إذ ليس علينا أن نطلب في الواقع المباشر والمعطيات الشاهدة مبادئ الفكر والنظر والعمل والفعل، وإنما يتعين طلب ذلك في معطيات التجربة التاريخية أو الممارسات «السلفية»، أو ما يوجه إليه ظاهر النصوص الدينية واجتهادات الفقهاء وأخبار الجيل الأول على وجه الخصوص، فنفهم الزمن الحاضر ومشكلاته وقضاياه وأحكامه بالرجوع إلى ما تنطوي عليه وتشهد به المعطيات السالفة. لكن ينبغي أن يكون على بال كل منا هنا أن هذا المنهج لا يستبد بجميع أهل الإسلام، فإن التجليات الاجتهادية والإصلاحية والتنويرية في الفكر العربي والإسلامي، الحديث قد تجاوزت هذا الفهم وأحدثت أنماطًا وفهومًا ومناهج جديدة في مقاربة «النص» الديني والواقع.

المشكلات المعرفية

          ثم تكشف الصورة عن مشكل حاد يُحدث فيها اضطرابًا شديدًا واختلالاً جسيمًا، هو المشكل الإبستيمولوجي، أو المعرفي. وهو ذو وجوه عدة لكن أبرز هذه الوجوه أربعة:

          الوجه الأول: اعتقادي ذو متعلقات عملية. وهو وجه منحدر إلى زمن الإسلام الحاضر من زمن الإسلام الأول أو المبكر. وأنا أعني التناقض الفرقي والمذهبي. فليس سرًا أن الإسلام المبكر - ومنذ رحيل نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - قد شهد امتحانًا كبيرًا وفتنة عظمى عصفت بالصحابة أنفسهم وبأجيال المسلمين التالية، إذ نجم الاختلاف في مسألة الخلافة أو الإمامة، وتم التحوّل من نظام «النبوّة والخلافة» إلى ما نعتته بعض «الأحاديث» بـ«الملك العضوض» أي حكم الغلبة والجبروت، الذي غلب على التجربة التاريخية السياسية الإسلامية، وأضفى على صورة المعطى الإسلامي الشاهد وعيًا شقيًا.

          الوجه المعرفي الثاني: من الصورة يشخص في تجذّر الفهم الظاهري، الحرفي. المادي للنصوص الدينية. وقد عزّز هذا الفهم انحسار العقلانية الإسلامية والظفر الذي أحرزه النصيون بالتحاق الأشاعرة بمذهبهم، واستقالة العقل الفلسفي وإقصاء من يجعله وجهًا أساسيًا من وجوه مذهبه، وبالرغم من انتشار القراءة الظاهرية للنصوص الدينية، فإن منهج التأويل وإعادة قراءة النصوص الدينية انطلاقًا من منظور قرآني، قد شق طريقه أيضًا في الفضاءات الفكرية الإسلامية المحلية والكونية، قاصدًا إلى الإسهام في تقديم صورة جاذبة لدين الإسلام في عصر الثقافة الكونية والعولمة والذرائعية المادية النفعية. لكن نبتت في الوقت نفسه، وبخاصة في فضاءات العولمة «الحرة» نزعات استندت على المعاني الظاهرية لبعض النصوص الدينية وتعللت بها لتوجه انتقادات عنيفة لدين الإسلام ومقدساته، مثلما حدث في مسألة المرأة عند «النسويات الرافضات».

          الوجه الثالث: الصعود المريب لخطاب «وجداني» تحريفي يشخص دين الإسلام فيه في إهابين أو ثوبين: الأول خرافي، والثاني قمعيّ تصعيديّ يغض الطرف عن خطاب «الترغيب» القرآني ويتعلق بخطاب «ترعيبي» صارخ. يظهر هذان الخطابان في الأقنية الفضائية، وفي حلقات التثقيف والدعوة الدينية المغلقة، وفي كثير من الدروس والخطب الدينية في المساجد، فضلاً عن حشد لا يحصر من الكتب والنشرات الدعوية والكراريس الدينية والمدمجات الإلكترونية والمواقع الشبكية. في هذه الخطابات تتبدد صورة الإسلام العلمي، العقلاني، الرحيم، المتفائل، وتصعد صورة له سحرية، طلّسمائية، خوارقية سوداء تبعث على القنوط واليأس وغياب البهجة والسرور، وتطرد جملة المشاعر الوجدانية الطيبة، التي كان نبيّ الإسلام - صلى الله عليه وسلم - نفسه تجسيدًا حيًا لها.

          الوجه الرابع، الأخير: غياب التمييز بين القيم الدينية والإنسانية. فالظاهر الإسلامي السائد يتلبس على الوجه الأغلبي رؤية ترد كل ما هو إنساني إلى ما هو دينيّ، وتجعل «الخبر الديني» المرجعية الحاكمة المطلقة المتفرّدة في تحديد سلّم القيم والمبادئ المعيارية. وهذا المذهب هو مذهب النصيين الأصوليين الذين يحصرون استنباط الأحكام في (النص الديني) - أي القرآن الكريم والسنّة - على وجه الخصوص، ولايتجاوزونهما إلى الأصول الأخرى التي أخذ بها أئمة الاجتهاد، العقلي والمقاصدي أو المصلحي أو التي أخذ بها المتكلمون والفلاسفة المسلمون العقلانيون. وليس يخفى أنه في زمن كزمننا الراهن - وهو زمن العقلانية والفاعلية الإنسانية وتجذّر القيم الإنسانية الكبرى - يتعذر إقصاء الفاعلية العقلية الإنسانية وتأصيل العداء والنفور بين العقل وبين الوحي، وتقديم دين الإسلام بما هو دين لا يعترف إلا بالقيم والمبادئ التي «أخبر» النص الديني بها، ومع ذلك فإنه ليس علينا أن نتوهم أن الإسلام المعاصر قد خلُص لهذا النهج من التداول، وأنه قد انحصر في دائرة النص، إذ تموج فيه نزعات مباينة يستأنف بعضها طريق التنوير العقلي الإنساني، وبناء أسس الالتحام العضوي الوثيق بين القيم الإنسانية العقلية والوجدانية الحديثة (الحرية، العدالة، المساواة، الرحمة، الخير العام، الديمقراطية، التواصل، الاعتراف،..) وبين القيم الدينية التي أصّلها الوحي. الصورة هنا ذات ألوان.

المشكل السياسي: الحدة والجدل

          المشكل الرديف المقترن بالمشكل المعرفي هو المشكل السياسي، وهو أكثر وجوه الإسلام المعاصر حدة وجدلاً. وذلك أيضًا ليس بالأمر الجديد. فقد كان الحقل الديني والحقل السياسي دومًا، في الإسلام، في حالة من التداخل والتراكب والاختلاط أو التماهي أو التقابل والمواجهة. وكانت إحدى وظائف الإمام - أو الخليفة - في الفقه السياسي الإسلامي، أعني في السياسة الشرعية، هي «حفظ الدين» وذلك ما جعل العلاقة بين الدين وبين «السلطان القاهر» في شخص الخليفة وفعله علاقة وشيجة بل جوهرية، لا انفصام فيها بين الديني والسياسي. وإذا شئنا دقة أعظم قلنا إن دولة الخلافة كانت في حقيقة الأمر دولة «مُلك»، لكنه «ملك» يسوّغ فعله ويُسيّج سلطانه الدنيوي بمسوغات الدين. ذلك ما جرت عليه الأمور في الخلافات الأموية والعباسية والعثمانية، وذلك ما تواطأ عليه التيار الأغلبي في الفكر السياسي الإسلامي إلى أيامنا هذه. لكن العلمانية الكمالية أحدثت خرقًا كبيرًا في هذا التقليد، إذ أقدمت على الفصل بين الخلافة وبين السلطنة أولا (في العام 1922)، ثم أعقبت ذلك بإلغاء الخلافة نهائيًا (1924). وبتأثير من انتشار الفلسفة الليبرالية وحِراكات سياسية محلية «حرة»، اشتد ساعد فهم للعلاقة بين الدين والدولة يذهب إلى ما يسمى «علمانية الفصل»، ويؤكد في بعض أجنحته أن نظام الخلافة التاريخي ليس نظامًا إسلاميًا، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه لم يكن يقصد «المُلك»، وإنما كان قصده الهداية الدينية والأخلاقية. لكن هذا الفهم شهد تطورًا آخر في التجربة التركية الحالية وفي ما أطلقت عليه بعض الأدبيات العلمانية الإسلامية. بيد أن الفهم التقليدي كان قد استمر فاعلاً مع محمد رشيد رضا ثم، على نحو أشد، مع حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين، إذ تبلورت الغائية المقصودة في دولة مطلبها الأساسي وعصبها الجوهري إنفاذ أحكام الشريعة الإسلامية بإطلاق في الحياة الفردية والاجتماعية والقانونية والسياسية. وقبالة الانتشار الحضاري الغربي والفعل الاستعماري في البلدان الشرقية، وفي العالم العربي والإسلامي، عرضت فكرة الهندي أبي الأعلى المودودي في «الحاكمية الإلهية»، التي أصبحت، عند سيد قطب وآخرين، الرمز الأقصى لنموذج الدولة الإسلامية المنشودة، المناهضة لما تم نعته بالمجتمع «الجاهلي»، المضادة للحضارة الغربية المادية وللسلطان الغربي الكوني. وجذرت وقائع منتصف القرن العشرين السياسية وإخفاقات «النظم الوطنية» ومتعلقاتها في النصف الثاني منه، نهج التصلب في الإيديولوجية الدينية وأنتجت جملة من الحركات الراديكالية، التي وجهت خطابها العنيف إلى الفرد والمجتمع والدولة في الفضاءات العربية وجذّرت آليات سياسية وعملية انفصالية صدامية قتالية، محليًا وكونيًا، وقرنت ذلك كله بدين الإسلام نفسه، متعللة بمواقف بعض كبار الأئمة والفقهاء (وبخاصة ابن تيمية)، وأضفت على الإسلام طابعًا سياسيًا مطلقًا. وباقتران هذه الرؤية بثلة من الأفعال والعمليات «العنيفة» في المجال العربي خاصة، وفي بعض المجالات الغربية، تبلورت صورة جديدة للإسلام نفسه، نجحت السياسات الإعلامية لبعض القوى الدولية والإقليمية في أن تقدمها «مشروعًا سياسيًا» راديكاليًا غايته وأد الحرية، وغزو الغرب وتدمير حضارته. خالص الحال هنا أن الإسلام السياسي استبد بصورة الإسلام الشاملة، وأن الإحالة إلى دين الإسلام باتت تعني الإحالة إلى هذه الصيغة للإسلام.

تضاريس المشهد الاجتماعي

          تناسل من المشكل المعرفي ومن المشكل السياسي مشكل ثالث ملتبس هو المشكل الاجتماعي - السياسي، وهو، بدوره، يلقي ظلالاً مربكة على صورة الإسلام الراهنة، وعلى حالته الشاهدة. في حدود المشهد الذي يعرضه هذاالمشكل تشخص ثلاثة تضاريس بارزة ترسل إشارات قوية: التواصل الاجتماعي، والوضع النسائي، والعلاقات الكونية (الدولية).

          علينا أن نتنبه هنا إلى أن حِراك القوى والجماعات «الأقلية» الراديكالية النشطة التي تستبد بالمجال الاجتماعي - السياسي وتسوّغ فعلها بالمرجعية الدينية الإسلامية يحكم أحوال هذه الوجوه. وفي هذا السياق يعرض واقع «التواصل الاجتماعي» حالة «سلم اجتماعي» غير سوية، إذ إن هذا الحراك قد رفع من وتيرة «الاختلاف» و«الصدام» و«الانفصال» في المجتمعات الراهنة، وصعّد من دلالة هذه الحالة بحيث جعل من «المخالفين» في الاعتقاد أو في الاجتهاد أو في مطلق الرأي والنظر أعداء للدين يجب الانفصال عنهم ومخاصمتهم ومعاداتهم أو مقاتلتهم. لقد تمّ توحيد قاطع بين «المعتقِد» وبين مطلق الدين، فاتسع بذلك الخرق والاختلاف وتعاظمت المخاطر على وحدة المجتمع وسِلمه وأمنه. وليس يخفى أن هذا المشكل يتخذ اليوم أبعادًا متفاقمة، إذ هو يطال واقع «غير المسلمين»، وبخاصة، في بعض البلدان العربية، المسيحيين، حيث تثار جملة من القضايا الدقيقة (التنصير، والردة، والتكفير، والحقوق، وبناء الكنائس، والاعتداء على المقدسات الدينية، وإعادة المرتدين، وإغراءات الهجرة والرحيل، واستدعاء التدخل الخارجي..) هذا الوجه من المشكل ليس بريئًا على الإطلاق. وعناصره متراكبة متداخلة، وهو ليس مشكلاً «محليًا» فقط، لكنه مشكل يمد جذوره في تدخلات سياسية خارجية، خفية حينًا ومعلنة حينًا آخر، وإذا كان للجماعات الدينية - السياسية دور في إثارته وتصعيده، فإن من المؤكد أن لهذا الدور مَن يستغله لتشويه الصورة، ولإنفاذ عمليات إجرامية تصعيدية تفسد السلم الاجتماعي وتفكك المجتمع والوطن، وتعزز في الوقت ذاته، في المجال الكوني، صورة إسلام «متعصب» مثير للكراهية والعداء.

          ويتعلق بالمشكل الاجتماعي - السياسي، من وجه ثان، القضية النسائية، وهي قضية مركزية تلقي ظلالاً قاتمة على صورة الإسلام الكونية.

          لست أعتقد أنني أختزل المشكل اختزالاً مبتسرًا مسرفًا إن أنا قلت: إننا لو سألنا اليوم «الإنسان العادي» في الغرب وفي مواطن عدة أخرى أن ينبئنا بالصورة التي شكّلها لديه المخيال الكوني عن الإسلام لأجاب: اضطهاد المرأة، والعنف أو الإرهاب.

أسرى الثقافة الأبوية

          وواقع الحال هو أنه ليس بالأمر الجديد أن الأحكام الفقهية الخاصة بالمرأة في الإسلام قد أثارت منذ عصر النهضة الحديث، ولاتزال تثير في البيئات الإسلامية نفسها السؤال والسجال، كما أنها موضوع مراجعة وتداول ونظر ونقد في البيئات غير الإسلامية. وليس يخفى أن (المجموع الفقهي النسائي) الإسلامي - وأعني به مجموع الأحكام الفقهية التي جرّدها الفقهاء من النصوص الدينية ومن المعطيات التاريخية المبكرة - يقدم منظومة من التصورات والأوضاع والأحكام التي يشي ظاهرها بغياب ثلة أساسية من القيم التي تتصدّر القيم الإنسانية الحديثة: المساواة، العدالة، الحرية، الكرامة الإنسانية. بيد أنه من المؤكد أن الثقافة «الأبوية» (البطريقية)، والتقاليد الذكورية، وانحصار فهم وتفسير النصوص الدينية النسائية بالرجل دون المرأة وتوجيه قراءة هذه النصوص من منظور المفسرين والمحدثين الرجال، وإهمال السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي للنصوص، واختلاط فهم (النصوص) بالثقافة الموروثة، كل ذلك أدى دورًا حاسمًا في تحديد وضبط وتوجيه الأحكام المتعلقة بالمرأة. لم يحفظ لنا التراث إلا قدرًا ضئيلاً من شهادات الاحتجاج النسائي. لكن من المؤكد أن عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه قد شهد مثل هذا الاحتجاج، وبخاصة الاحتجاج في وجه عسف الرجال وظلمهم للنساء، لكن هذا العصر يشهد أيضًا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه قد مارس حياة عادلة وأظهر نزعة «نسوية» نبيلة، حسب ما أبانت عنه فاطمة المرنيسي. بيد أن سلطة الموروث البطريقي وقوة التيار الذكوري تعللت بظاهر بعض النصوص الدينية لتقصي الوضع المساواتي العادل وتجذّر مبدأ التمايز والتراتبية، ثم ما لبثت التطورات الحديثة أن أجرت، شيئًا فشيئًا، تدخلاً في الفهوم والممارسات، حتى لقد لاحظ مفكر سلفي كمحمد رشيد رضا أن إحدى فضائل العصر الحديث الأوربي تكمن في أنه نبهنا إلى أن جملة قيم الحداثة والمثل العليا التي تنبثق عنها ماثلة في النصوص الدينية الإسلامية التي أغفلها المسلمون في الماضي، لكن الحداثة وجهت وعينا إليها، فأصبحنا نعلي من شأنها وننسب إلى أنفسنا السبق في الأخذ بها بالرغم من تهميش التجربة التاريخية المتطاولة لها. والحقيقة أن إحياء هذه القيم هو، على وجه التحديد، ما ذهبت إليه ثلة من المفكرات المسلمات النساء اللواتي هاجرن إلى الغرب وتمثلن علومه وثقافته وقيمه العليا، فقدّرن، من منظور قرآني - وخلافًا لعصبة «النسويات الرافضات» اللواتي تصدرن في فضاءات العولمة لنقد دين الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - وقرآنه الكريم نقدًا جائرًا، وزعمن أنه في ماهيته وجوهره يضطهد المرأة - قدّرن أن القرآن الكريم صريح في إقرار «المساواة الأنطولوجية» بين الجنسين وأن من الضروري، وفقًا لذلك. «إعادة قراءة» النصوص الدينية «المربكة» وتأويلها لتعزيز صورة جديدة تليق بالمرأة المسلمة وبالإسلام في العصر الراهن وفي الزمن المنظور. لقد عالجت هذا الموضوع في كتابي الأخير «خارج السرب». ولا يسمح المقام هنا بأن أذهب إلى أبعد من القول إن القراءة التأويلية للنصوص النسائية التي يفيد ظاهرها التراتبية وغياب المساواة والعدالة بين الرجل والمرأة جديرة بأن تبدد الصورة المتداولة في المخيال الجمعي الكوني، الصورة التي تزعم أن الإسلام دين يضطهد المرأة ويجرّدها من كرامتها الإنسانية. وذلك هو عين ما ذهبت إليه «النسويات التأويليات»: أمينة ودود وأسماء برلاس ورفعت حسن وفاطمة المرنيسي وأخريات، أي الاشتقاق من المنظور القرآني في «المساواة الأنطولوجية» جملة القيم والأحكام التي تؤسس المسألة النسوية الإسلامية على مبادئ المساواة والعدالة والحرية والكرامة الإنسانية.

          المعطى الثالث البارز الذي يفصح عنه المشكل الاجتماعي - السياسي يتعلق بواقع التواصل الكوني والعلاقات مع (الأغيار). فحقيقة الأمر هي أن «الأقلية النشطة» في المنظور السياسي للإسلام قد وسعت دائرة الاختلاف والصدام لتتجاوز حدود العلاقات التواصلية في المجتمعات الإسلامية وتطال الفضاءات الخارجية، وبوجه أخص المجال الغربي. وليس ثمة مَن يجهل أن المشهد لم يقف عند إطلاق «البيانات» و«النوايا» الصادمة للمخيال الجمعي الغربي وللحضارة الغربية، فضلاً عن الإسلامي، ولكنه أفصح، منذ العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي على وجه الخصوص، وعلى نحو أحّد منذ أحداث البرجين، عن إنفاذ جملة من «الوقائع العملياتية» التي تم سحبها على الإسلام نفسه ونعتها بـ«الإرهاب الإسلامي». وأيًا ما كانت حقيقة هذه الوقائع فإن ما لا يتطرق إليه الريب هو أن الإسلام نفسه بات يُحمّل عبأها وجرائرها، وأن ذلك قد ألحق به صورة كونية مظلمة وطاردة. بيد أن ما لا يقل خطرًا عن تداول هذه الصورة وانتشارها في المعمورة، هو المتعلّق العملي الذي ترتب عليها. إذ بات الغرب مجالاً ضيقًا للمسلمين، وأُخضع هؤلاء فيه لشتى أشكال التمييز، وتم التضييق على الجاليات الإسلامية المهاجرة فيه، وتراجع الفهم أو التعاطف الغربي بإزاء القضايا العربية والإسلامية القومية، واشتد ساعد اليمين الغربي ليطال جملة من رموز المسلمين الدقيقة، وبكلمة جامعة لحقت بالعلاقات التواصلية الإسلامية - الغربية إصابة بالغة شقية واكفهرت معالم الصورة.

الإسلاموفوبيا

          قد يمثّل هذا المعطى حلقة الوصل المنطقية بين قطاع مظاهر الصورة التي تولد كل الأسباب والدواعي والهواجس التي تبعث على الحالة الوجدانية التي نعتّها في مبدأ هذا القول بـ«الخوف على الإسلام»، وبين قطاع الحالة الوجدانية المقابلة التي نعتّها بـ«الخوف من الإسلام».

          ما من أحد إلا ويدرك اليوم دلالة هذا المصطلح، مصطلح (الإسلاموفوبيا)، فهو من أكثر المصلحات الحالية تداولاً وانتشاراً. لذا لن أستقصي أمره وأسترسل فيه، وسأقف منه عند بعض الوجوه التي أراها مركزية في مشكل «حال الإسلام اليوم».

          فأولاً، ليس يخفى أن واقعة «الحداثة» قد مثلت تقدمًا كبيرًا في حال الغرب الكونية، وأن تحوّل الحداثة في القرنين الأخيرين من قاعدتها العقلانية الموضوعية إلى قاعدة جديدة هي العقلانية الذرائعية أو الأداتية التقنية، قد هيأ للغرب ظفرًا حضاريًا صارخًا.

          وثانيًا، أن الغرب يقدّر تقديرًا مطلقًا أن مصيره مرهون باستمرار قوة حضارته وتعاظم تأثيرها وفعلها وسلطانها الكوني.

          وثالثًا، أن الغرب ذا الأساس الليبرالي العلماني، قد نجح خلال القرن العشرين في القضاء على مصادر التهديد الداخلية: النازية والفاشية والشيوعية، وأنه رد سلطة الكنائس وبخاصة الكنيسة الكاثوليكية إلى أضيق الحدود، وأنه سيتصدى على الدوام لأي تهديد جديد.

          ورابعًا، تشير كل القرائن إلى أن الغرب بات منذ عقود عدة ينظر إلى الإسلام - الذي استبدّ به السياسيّ وأصبح يحمل اسم (الإسلام السياسي) - بما هو خطر عظيم كامن يتعين كبح جماحه وقهره، كي لا يتحول إلى قوة عظمى موحدة يمكن أن تهدد وجوده ومستقبله. لذا يتعين رده إلى أدنى الحدود. ذلك أن الغرب يدرك أن «الإسلام السياسي» لا يمكن فصله بإطلاق عن «دين الإسلام» وهو يقيم علاقة عضوية وثيقة بين الاثنين، لذا يذهب في هذا المجال إلى تبني سياسات عملية تهدف إلى رد الحضور الإسلامي في الغرب إلى ما يقدّر أنه يمثل «حدودا آمنة»، فيطال ذلك سياسات الانتقال والهجرة والاندماج والرموز الدينية، وديمومة عملية «الحرب علىالإرهاب الإسلامي».

          وخامسًا، وأخيرًا، يتيح فضاء الحرية الغربي ويشجع دعم الجماعات والأحزاب والمؤسسات العلمية والمنظمات الثقافية والمدنية، وممارسة «فاعليات حضارية مضادة» تعزيزًا للهويات الوطنية الأوربية والغربية على وجه العموم، ودفعًا للآثار الثقافية والحضارية الإسلامية - وبخاصة العربية - وتهميشًا لها. وفي هذا السياق يوضع الترويج العظيم والتداول الواسع والدعم الرمزي الذي لقيه أخيرًا كتاب سيلفان غوغونيم: «أرسطو في دير سان ميشيل» الذي ينكر كل دور للعرب في تشكيل الحضارة الغربية، ويدخل في باب «الإسلاموفوبيا العالمية».

          الحال دقيقة، مشكلة، مربكة، محفوفة بمخاطر ورهانات عظيم، في دار الإسلام أولاً، وفي «المدينة الكونية ثانيا: ما العمل؟ وهل ثمة طرق سالكة تأذن بتجاوز هذه الحال على نحو آمن وذي جدوى؟

الطرق السالكة لإسلامنا المعاصر

          أقدّر أن الإسلام - وأنا لا أعني بذلك إسلام «اللوح المحفوظ»، وإنما أعني الإسلام الشاهد في شخوص المسلمين أنفسهم، محكوم، لكي يحتل مكانًا آمنًا في خارطة المصير والمستقبل، بأن يضافر الجهود من أجل حل المشكلات التي تحاصره وتقذف به في أتون الرياح العاصفة. وفي تقديري واعتقادي أن «الطرق السالكة» في هذا القصد، وفي ضوء ما كشفت عنه تأملات هذا القول، توجه إلى اعتبار المطالب التالية والعمل على إنفاذها:

          المطلب الأول - وسأسميه الأمر الأول: التحول عن منهج قياس الغائب على الشاهد، والذهاب إلى معطيات الواقع المباشرة واشتقاق المبادئ والآليات المنهجية منها. فمعطيات الموضوع هي التي تفرض المنهج، وليس العكس.

          الأمر الثاني: اجتماع أهل المذاهب الرئيسية في الإسلام المعاصر - وأنا أعني على وجه الخصوص من يسمون في الاصطلاح (أهل السنّة والجماعة) و(الشيعة) - على اعتماد المبدأ الأخلاقي المتداول في أيامنا، مبدأ «الاعتراف المتبادل». وهو يعني الاحترام الكامل من جانب كل فريق لمسلمات الفريق الآخر الخلافية، «ووضعها بين قوسين» من حيث هي تتعلق بكل واحد في خاصة نفسه وأنها حق له ومتعلق من متعلقات حريته الاعتقادية التي لا يجوز الافتئات عليها أو جرحها عقيديًا أو أخلاقيًا أو وجدانيًا ودينيًا. ثم قبول الفرقاء بمبدأ التوجه إلى المسائل العملية العارضة لدين الإسلام من حيث هو دين واحد بإطلاق، والاجتماع التوافقي العملي على حل هذه المسائل وفقًا لخير الإسلام العام ومقاصد الدين الإسلامي العليا.

          الأمر الثالث: الإقرار بأن الأزمنة الحديثة - وزمن العولمة الراهنة أخطرها - قد أفرزت أوضاعًا ومسائل وشروطًا وجودية لا تستطيع التجربة التاريخية العربية والإسلامية أن تتصدى لها بنجوع بآلياتها وأدواتها وبطرائقها التقليدية المنحصرة في مقاربة النصوص الدينية وفق القراءة المادية الظاهرية التي تولد في بعض الحالات مواقف «رافضة» أو «طاردة» لجملة المعطى الديني الإسلامي، فيلزم أن تعتمد، لتجاوز هذه المخاطر، مناهج جديدة قد يكون منهج التأويل الذي اعتمده مفكرو الإسلام في عصر التدوين وما تلاه، أو المناهج الحديثة التي يمكن أن تعزز مبادئ المساواة والعدالة والحرية والخير العام والكرامة الإنسانية، من منظور قرآني، على غرار ما أجرته «النسويات التأويليات» المعاصرات في المسألة النسوية، مثلاً.

          الأمر الرابع: الشروع الشامل في إنفاذ إستراتيجية معرفية وثقافية ذات مسارين: المسار الأول يتمثل في وضع حد لاستبداد «الأقلية التحريفية المتصلبة» بالمعطى الديني، وذلك بتعزيز القراءات التنويرية للمعطيات الدينية الإسلامية وتعضيدها. ويدخل في هذا الباب ضرورة التمييز بين التنوير الذي يذهب مذهبًا مضادًا للمعطى الديني وبين التنوير ذي المنظور القرآني.

          المسار الثاني يتمثل في التوجه إلى العالم الخارجي، وبخاصة الغربي، بفعاليات علمية وثقافية وإعلامية وحضارية مكثفة، لإعادة تشكيل الصورة وتبديد مشروعية «الأقلية التحريفية المتصلبة»، والكشف من جديد عن الوجه الحضاري، الأخلاقي، الإنساني، التواصلي، للمعطى الإسلامي. ويدخل في هذا الباب أيضًا إخضاع مفهوم «الانفصال» و«الاختلاف» لتحليل معرفي وثقافي، في حدود الاجتماع الإسلامي، من وجه أول، وفي حدود العلاقات المأزومة بين الإسلام وبين الغرب من وجه ثان. وفي هذا القصد، قد يؤدي تعزيز مفهوم «الاعتراف المتبادل» دورًا إيجابيًا.

          كما يدخل في هذا الباب أن على مسلمي المهاجر أن يدركوا أن التعددية الثقافية ومجتمعات «الحرية» التي يتقلبون فيها لا تعني مناهضة «الاندماج» في هذه الثقافات والمجتمعات التي اختاروا الهجرة إليها، والانعزال في «جماعات مغلقة» رافضة وكارهة بإطلاق لكل معطيات الثقافة الجديدة، ومثيرة لإغراءات التعصب المضاد والتمييز والتضييق والدعوة إلى «الترحيل». فثمة بكل تأكيد صيغ معقولة للجمع بين فلسفة الاندماج وبين فلسفة الخصوصيات الثقافية.

          تلك معطيات جوهرية تتلبس حال الإسلام اليوم. وهي في جملتها دقيقة عسيرة، وتتطلب المواجهة المبدعة، والتضافر الشامل. وفي غياب المواجهة الحقيقية والاكتراث الأقصى، في هذه المرحلة الفارقة من تاريخ العالم، سيبدو حال الإسلام وأهله كمن أبرم تسوية مع العجز، فالأفول والانسحاب من التاريخ، أو مع العبودية والاستبداد.
-----------------------------
* مفكر وأكاديمي من فلسطين.

 

 

فهمي جدعان*