استيراد الإشكاليات الأوربية في ثقافتنا المعاصرة

  استيراد الإشكاليات الأوربية في ثقافتنا المعاصرة
        

          تأثّرت النخب العربية إلى أبعد الحدود بالإشكاليات الفلسفية، التي أنتجتها بكثافة الأدبيات الأوربية ابتداء من القرن السادس عشر.

          سنبحث في هذا المقال تأثير هذا الاستيراد لنماذج فلسفية وتاريخية من الحضارة الأوربية، خاصة تلك العائدة إلى فلسفة هيغيل (1770 - 1831)، الفيلسوف الألماني الذي اشتهر بنظرته إلى فلسفة التاريخ، حيث أسّس لمدرسة حتمية التطور التاريخي نحو الأفضل والدور المركزي الذي يلعبه التاريخ الأوربي في هذه المسيرة، وكذلك كل من عالِم الأنتروبولوجيا ماكس فيبير (1864 - 1920) الذي بدوره اشتهر بتحليل محتوى الديانات الكبيرة وتأثيرها على التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وأيضًا كارل ماركس (1818 - 1883) الذي أثر فكره إلى أبعد الحدود في كل أنحاء االعالم بنظرياته حول حتمية المراحل التاريخية المتتالية في مسيرة الإنسانية، وحتمية تحرّر الإنسان من كل أنواع الاستغلال والقهر عبر تحقيق الاشتراكية كنقيض للنظام الرأسمالي البرجوازي.

          لذلك، من المفيد جدًا أن نسعى إلى تتبع آثار هذه الإشكاليات الفلسفية والتاريخية والسياسية والاقتصادية والدينية الآتية من الغرب على الأنواع المختلفة من الفكر السياسي والديني العربي المعاصر. وكما سنرى لاحقًا، فهناك نوعان من الإشكاليات الحادة، التناقضية الطابع، المستوردة من الثقافات الأوربية ليس فقط عندنا كعرب، وإنّما أيضًا في ثقافات أخرى مثل اليابانية والصينية والهندية وغيرها.

          ولكن قبل استعراض هذه الإشكاليات، لابدّ من وصف كيفية انتشارها في الثقافة العربية.

مراحل انتشار الإشكاليات والمرجعيات الغربية

          يجب أن نفرّق بين مرحلتين مختلفتين من تأثر الثقافة السياسية والدينية العربية بالإشكاليات الأوربية.

          ففي المرحلة الأولى التي بدأت مع رحلة رفاعة الطهطاوي عام 1826 إلى باريس، انحصر التأثر بالفلسفة السياسية الغربية على نخبة قليلة من علماء الدين وبعض المهتمين بالشأن العام من مقاطعات عربية مختلفة، كما بدأت في المغرب العربي بالنشاط الفكري لخيرالدين التونسي (1820 - 1889) أو خيرالدين باشا والشيخ بن باديس في الجزائر (1889 - 1940). وقد كانت مرحلة لفت فيها انتباه هذه النخبة العربية المنجزات السياسية والاقتصادية ومبادئ فلسفة التنوير التي كانت تقف وراءها، وقد ظهرت سجالات مهذبة وراقية بين شخصيات هذه النخبة حول ما يمكن استيراده من أنماط العلاقات الاجتماعية والمؤسسات السياسية المرافقة لها، التي أمّنت تقدّم وازدهار المجتمعات الأوربية، وما قد يخالف منها التعاليم الدينية أو التقاليد الراسخة. لكن في الإجمال، لم يظهر في هذه المرحلة أي رفض شامل لإنجازات أوربا وما يرافقها من تحسّن اقتصادي واجتماعي وليبرالية سياسية، سواء تعلّق الأمر بقضايا المرأة ووجودها الناشط في المجتمع أو ما تعلّق بمبدأ الانتخابات وتراجع سلطة الملوك واستبدادهم، وكذلك تحسّن وضع الفئات الشعبية عبر نشر التربية واهتمام الدولة والمجتمع المدني بالرعاية الاجتماعية للفئات الفقيرة والمحدودة الدخل.

          ولذلك لا يمكن أن نعتبر أنّ رواد النهضة العربية، سواء كانوا من العلماء المتخرجين من الأزهر أو من المعاهد الدينية المشهورة، أو كانوا من الشخصيات المدنية التي أصبحت تطلع على الفكر والعلوم الأوربية وتعجب بها ضمن حدود المعقول، مع الحفاظ على مواقف شديدة اللهجة تجاه ممارسات الاستعمار الأوربي في بلاد العرب وإدانة عدم استعداد الدول الأوربية منح الاستقلال.

          أما في المرحلة الثانية، ابتداء من مرحلة استقلال الأقطار، فقد أصبحت الأنظمة التربوية العربية تتوسع بشكل كبير. وقد دخلت العلوم الإنسانية في برامج الجامعات، وفي معظم الأحيان أتت بشكل جاهز ومعلّب من برامج التعليم في أوربا أو في الولايات المتحدة، هذا بالإضافة إلى الأعداد المتزايدة من الطلاب العرب الذين تمّ إرسالهم إلى الخارج للدراسة في الجامعات الأوربية أو الأمريكية المشهورة، وكذلك في جامعات الاتحاد السوفييتي أو دول أوربا الشرقية الاشتراكية.

          إنّ هذا التطور الخطير لم يرافقه أي جهد داخلي نقدي لتكييف البرامج في العلوم الإنسانية لحاجيات وظروف البيئة العربية المحلية ومسارها التاريخي. وقد انبهر العديد من الطلاب العرب المتخرجين من الجامعات المحلية أو الأجنبية ببريق الفلسفات الأوربية المنشأ. وتم اعتماد الإشكاليات المطروحة في هذه الفلسفات والنظريات الاقتصادية والسياسية والسوسيولوجية والدينية المتفرعة عنها دون أي نظرة نقدية لها.

أخطر الإشكاليات الفلسفية - التاريخية

          1 - تفاعلات إشكالية الأصالة والحداثة:

          في نظرنا أنّ أخطر ما أُدخِل في الثقافة العربية خلال هذه المرحلة هو الإشكالية بين الحداثة والأصالة التي مزّقت الفكر الأوربي خلال القرن التاسع عشر وأنتجت العديد من الأعمال الهذيانية الطابع في الثقافة الأوربية، وهي أصبحت جزءًا محوريًا من ثقافة النخبة العربية ولاسيما عندما يتعلق الأمر بفلسفة هيغيل أو ماركس أو فيبير، هذه الأسماء الثلاثة الكبيرة التي خيّمت على الإنتاج الفلسفي الأوربي أو انتشاره عالميًا. وبطبيعة الحال أنّ مفهوم الأصالة الذي لم يكن موجودًا في الكتابات العربية أساسًا أخذ ينتشر بسرعة فائقة في كل الأدبيات العربية، خاصة السياسية منها، إنما أيضا الروائية. وقد أصبحت الأصالة ترمز إلى الحفاظ على التقاليد والقيم الدينية كرابط مجتمعي قوي أمام الأثر التفتيتي للحداثة أي التغيير المتسارع الناتج عن تغييرات اقتصادية واجتماعية عملاقة أتت مع النفوذ الأوربي المتعاظم، ومن ثم من الثورات الشعبية والعسكرية ومن ثروة النفط المفاجئة ومن المعونات الخارجية السخية وعوامل أخرى لا حاجة إلى ذكرها هنا.

          وهذا التطور الخطير ليس محصورًا في المنطقة العربية، بل قد تم تصديره من أوربا إلى سائر أنحاء العالم، بدءًا من روسيا حيث انقسمت النخبة الروسية في القرن التاسع عشر انقسامًا خطيرًا بين أنصار الأصالة «السلافة» والحفاظ على الديانة المسيحية الأرثوذكسية المذهب والتراتبية الاجتماعية التقليدية من جهة، وأنصار الفرنجة أو الأوربة أو الاستغراب، من جهة أخرى، كما تم تصديرها إلى الشرق الأقصى من اليابان إلى الصين إلى الهند.

          إن تداول هذه الإشكالية قد سبب العديد من الانقسامات في كل الدول خارج أوربا، التي تداولت فيها عبر تحديث الأنظمة التعليمية في العلوم الإنسانية واستيراد البرامج التعليمية. والجدير بالإشارة إليه هنا أنّ كلمة «حداثة» ومحتوياتها الواقعية أو التخيلية يحيط بها في الفلسفات الأوربية العديد من المشاعر والعواطف السلبية أو الإيجابية، وبالتالي السلبية أو الإيجابية تجاه الماضي بكل مكوّناته من ناحية التراتبيات الاجتماعية والأنظمة السياسية ودور الدين في المجتمع كعامل استقرار وشرعية لأنظمة الحكم الملكية، وكذلك الحفاظ على الأنساق المعمارية القيمة والبيئة الريفية.

          فلنر الآن كيف تسببت تلك الإشكاليات الأوربية في انقسامات كبيرة بين النخب العربية وسّعت من نطاق الانقسامات الداخلية المصدر، خاصة أن إشكاليتين فرعيتين تفرّعتا في الثقافة العربية عن إشكالية الأصالة والحداثة، وهما إشكالية فصل الحيّز الديني عن الحيّز المدني أو الدنيوي وإشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام.

          والجدير بالملاحظة هنا أن الثقافة العربية خلال مسارها القديم لم تطور أي نوع من الشعور بالتناقض بين القديم والجديد أو شعور الخوف من التطورات الدنيوية الكبيرة. والبرهان على ذلك التعريف الرائع الذي أعطاه العلامة ابن خلدون للحداثة بمعنى مرور المراحل التاريخية وحصول التغيير، وهو تعريف واقعي موضوعي لا يعتمد إثارة العواطف عندما قال: «إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال». كما أنّ بالنسبة إلى ابن خلدون «إذا تبدّلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحوّل العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدَث». وما أوضح هذا التعريف للحداثة وهو تعريف حيادي منهجي لا يتأثر عند ابن خلدون بالتقييم الإيجابي أو السلبي حول تطور الزمن، ذلك أن هذا التقييم هو الذي يؤدي اليوم إلى الخلافات العميقة بين العرب، كما أدّى في الماضي إلى الخلافات بين الأوربيين أنفسهم، تجسّد في كره متبادل ومتأجّج بين أنصار الثورة الفرنسية وفلسفة الأنوار وبين من كان يرى ضرورة التمسك بالقديم ومعتقداته ومؤسساته وتراتبياته الاجتماعية والسياسية ومعتقداته الدينية - التشريعية والمؤسساتية الجامعة الثابتة. إذ هو أيضًا ما ولّد في قارات أخرى الفتن الفتاكة كما حصل في روسيا مع الثورة البولشيفية، أو في الصين مع ثورة ماوتسي تونغ، وأيضًا في عالمنا العربي مع الانقلابات العسكرية والفكر الثوري العربي وحركات معادية ومعاكسة للتغيير الثوري.

          ويظهر جليًا من كلام ابن خلدون أن العرب تبدلت لديهم الأحوال بشكل كامل وتحوّل العالم حولهم بأسره. وبالفعل، واجه العرب بانهيار السلطنة العثمانية وتأكيد تفوق أوربا العسكري والتقني والاقتصادي «عالمًا محدثًا». ولكن يبدو أن العرب لم يعوا بالشكل الكافي أن عالمهم القديم قد انهار تمامًا وخلال بضعة عقود، وأنّهم قد أدخلوا مجددًا سيرورة التاريخ التي كانوا قد خرجوا منها منذ نهاية الحروب الصليبية، عندما قبلوا بشكل نهائي بأنظمة حكم يمسكها الفاتحون المسلمون من الأصل التركي (المماليك ومن ثم العثمانيون).

          وأمام هذا التغيير الشامل بدأت تمزقات الوجدان العربي بين الحماس إلى ركب الحضارة الأوربية التي أصبحت كونية الطابع ورفضها بأشكال مختلفة، وبشكل خاص عبر التقوقع على الهوية الدينية، وهي التي كانت قد منحت شرعية الحكم طوال قرون للمماليك والعثمانيين، بينما كان الأوربيون الذين سيطروا على الديار العربية من بعد الحكم العثماني هم من ديانة مختلفة. ولذلك كان من الطبيعي أن يتجسّد شعور الرفض للحكم الأوربي لدى فئات معيّنة من الشعب كما من النخبة المقاومة للحكم الأوربي عن طريق إبراز اختلاف الهوية الدينية مع المستعمر، وليس إبراز اختلاف الهوية القومية.

          وقد رأى البعض من المثقفين العرب في حينه أن ثورة الشريف حسين ضد الحكم العثماني بتحريض من بريطانيا نوع من الخيانة ضد الأمة في مفهومها الديني. وليس من المستغرب أن نرى إلى اليوم استعمال مفهوم الأمة مبهمًا وغير دقيق، إذ يشير في بعض الخطابات إلى الأمة بالمعنى الروحي والديني التي تشمل كل المسلمين في العالم وإلى الأمة القومية التي تشتمل على العرب وخواصهم اللغوية والحضارية، وفي بعض الأحيان وتحت تأثير الأدبيات الأنتروبولوجية والإثنية الطابع أو الاستشراقية، والتركيز على الهويات الفرعية، العشائرية والقبلية أو المناطقية أو المذهبية أو العرقية.

          وفي الحقيقة، أنا لا أفهم ماذا تعني الأصالة إذا أصبحت انحطاطًا وجمودًا والنظرة إلى الوراء، أي إلى عهود ذهبية ولّت بلا رجعة، فالشخص الذي يعيش في الفقر والأمية والبطالة لا يعطي أي أهمية للأصالة كما تراها النخب المثقفة المعادية للتغيير لأسباب مختلفة، ولهذا السبب، لا يمكن تجنّب مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية وما تقتضيه من تغيير في بعض العادات الاجتماعية في أي مجتمع كان. غير أن المحتوى الديني في مفهوم الأصالة قد تجذّر عند بعض العرب من خلال توظيف الدين في المعترك السياسي الحديث بجعل المجتمع الإسلامي الأول، أي مجتمع المدينة أيام النبي «صلى الله عليه وسلم»، النموذج الذي يجب أن نعود لنتقيّد به بكل حذافيره الموروثة، متخيّلة كانت أم حقيقية، مع الإشارة إلى أنه مهما تطورت أساليب علم التاريخ، فلا أحد من الأحياء كان موجودًا في حينه للتأكّد من صحة أقوال النصوص التاريخية القديمة، والنصوص التراثية الطابع، والمهم هنا أن يحافظ الإنسان على تماسك هويته، وهذا التماسك مستحيل حيث تتفكك الهوية إلى عناصر مختلفة متناقضة بسبب تمزقات فلسفية تاريخية، وهذا هو ما يميّز سلبًا الوضع العربي اليوم.

          2- إشكالية فصل الحيّز الديني والروحي عن الحيّز الزمني:

          أما التقوقع على الهوية الدينية، فقد أصبح أكثر تحجّرًا كونه الملجأ الأخير لهوية عروبية حضارية مفقودة، وبسبب الارتدادات التي خلقها استيراد إشكالية الفصل بين الروحي والزمني الأوربية الطابع في المجادلات حول الهوية المجتمعية للعرب. وهذه الإشكالية التي تطوّرت من وراء خصوصية تاريخ الكنيسة الرومانية في أوربا، التي كانت قد سيطرت على جميع أنواع وأشكال السلطات الزمنية لا تمت بصلة إلى التاريخ العربي، حيث لا كنيسة في الإسلام، والإشكالية العربية الصحيحة في مجال علاقة الأمور الدينية بالأمور السياسية تكمن في التأسيس التام لحرية الاجتهاد وحرية التعامل مع النصوص الدينية الطابع، وهي أم الحريات التي منها تتفرّع كل الحريات الأخرى.

          وفي هذا الخصوص، لابدّ من الإشارة إلى الإشكالية المفتعلة التي يتخبّط فيها العديد من المثقفين العرب منذ عقود دون جدوى، وهي إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام التي أصبحت تسجن الفكر في حلقة مفرغة متكررة ورتيبة. ذلك أن مجرد طرح مثل هذه الإشكالية يفتح الباب أمام تناقض مفتعل بين الانتماء الدنيوي الطبيعي للشعوب العربية إلى حيّز لغوي وثقافي وتاريخي مشترك من جهة، والإيمان الديني والعقيدة الروحية، التي هي بطبيعة الحال الإسلام لدى أغلبية العرب، من جهة أخرى، إنما المهم هنا ليس تأكيد شخصية إسلامية باستمرار كنقيد للشخصية اليهودية - المسيحية التي يدّعيها الغرب اليوم، بل المهم تأكيد حرية الاجتهاد كما ذكرت، وبالتالي قبول تعددية المذاهب الإسلامية وليس استهجانها، أو اتهام البعض منها بالكفر والهرطقة، مما يكرّس أوضاعًا طائفية متوترة، بل متفجّرة في أقطار عدة من الوطن العربي، كما تشهده الحال بكل وضوح في العراق بشكل خاص، وفي لبنان وفي أقطار أخرى تتعايش فيها مذاهب إسلامية مختلفة.

          والجدير بالذكر في هذه القضايا أن الدولة الإسلامية كانت تاريخيًا دولة مدنية يحكمها مدنيون، وإن كانت تستمد قدرتها وشرعيتها من المبادئ الأخلاقية الإسلامية الجديدة. وفي معظم الأحيان كانت فئة العلماء والمراجع الدينية خاضعة للسلطة المدنية على خلاف التاريخ الأوربي المسيحي، حيث كان الإكليروس المسيحي مهيمنًا  على السلطات السياسية المدنية. ولابد هنا من الإشارة إلى أنه في المائتي سنة الماضية، قد تمّ تحديث جميع الأنظمة القانونية في العالم العربي، ومع استثناءات قليلة مثل وضع المملكة العربية السعودية والسودان، بحيث أصبحت الشريعة الإسلامية تسود بشكل رئيسي في ميادين محصورة مثل الأحوال الشخصية، وهي مختلفة بين مذهب إسلامي وآخر. إنّ سعي البعض من الأنظمة العربية إلى تقوية موقع الشريعة الإسلامية أو الادّعاء بالحكم السياسي حسب نص القرآن الكريم، ليس إلا نتيجة الوقوع في الإشكالية السلبية التي تطرح كقضية أولى في الوجدان العربي ضرورة العودة إلى الأصالة والابتعاد عن الحداثة، كونها حداثة مسيحية غربية، وذلك في سعي إلى تعزيز شرعية حكم ناقصة أساسًا في العديد من الأقطار العربية.

          أما العلاقة بين العروبة والإسلام، فلا مشكلة فيها لأن الروحانيات والعقيدة الدينية لأغلبية العرب مستمدة من التنزيل الإلهي الذي تجسّد في القرآن الكريم، لكنّ هذا لا يجعل من العرب كتلة غير متميّزة حضاريًا ولغويًا وتاريخيًا عن سائر الشعوب التي تدين بالإسلام كدين، وكل واحد منها لها تاريخها وحضارتها ولغتها الخاصة، بداية من تركيا والشعوب الناطقة باللغة التركية، وانتهاء بمسلمي تايلند والفلبين ومرورًا بالشعوب الناطقة باللغة العجمية أو إحدى اللغات المتفرّعة عنها. وإذا اعتمدنا معيار قومية إسلامية لتثبيت الوجدان العربي، فإن الشعوب العربية تذوب في كتلة بشرية تعدادها مليار ونصف المليار من البشر ذي الأهواء والخصائص القومية والحضارية المختلفة، وهذا ما يؤيّد وضع العرب، وهم أقلية في هذه الكتلة، كشعب هامشي لا دور له في صناعة التاريخ.

نحو نظام إدراكي ومعرفي عربي

          أمام هذا الوضع المضطرب في الثقافة السياسية والدينية العربية، لابد من بذل مجهود فكري لبناء منظومة إدراكية معرفية متكيّفة مع التحديات التي نجابهها كعرب، ومستقلة عن الإشكاليات الفلسفية المستوردة. فقد كتبتُ العديد من الدراسات والمقالات في هذا الخصوص، وآخرها بمناسبة ذكرى المثقف الكبير عبدالله عبدالدائم الذي كان يدعو باستمرار إلى تطوير مثل هذه المنظومة الثقافية والمعرفية الكبيرة. ولكن نجاح هذه الدعوة يرتبط ارتباطًًا وثيقًا بالعمل لتحقيق الشروط الآنفة الذكر، ضمن إطار الإيمان بوحدة التاريخ والمصير للمجتمعات العربية المختلفة، وضرورة إطلاق حركة نهضوية جديدة تعيد التواصل بنهضة القرن التاسع عشر التي أمحيت من الذاكرة وتعيد كذلك التواصل مع العبقرية العربية، التي بنت إحدى الحضارات الكبيرة في العالم، وهي الحضارة الإسلامية التي اشتُهرت بقدرتها على الإبداع في جميع المجالات العلمية والأدبية والفنية، وعلى التفاعل مع الحضارات الأخرى المجاورة، البيزنطية والعجمية والفرنجية والهندية، واستيعابها واكتساب معارفها وتوطينها. وهي اشتُهرت كذلك بقبول التعددية العرقية والدينية والمذهبية. وقد لعب كل من الخلافة الأندلسية والعباسية دورًا طليعيًا في إرساء مقوّمات تلك الحضارة، التي أصبحت اليوم من الماضي بعد أن اختلفت كل الظروف والأزمنة، كما يقول ابن خلدون. فعلينا أن نعيد بناء شخصيتنا العربية ونظامنا الإدراكي ومعارفنا على ضوء كل التطورات التي حصلت، وألاّ نضيّع الجهود في مسعى تخيّلي إلى العودة إلى أولى حقبات ظهور الإسلام كما يفعل الفكر الأصولي المتشدد.

          ومن أجل ذلك، لابدّ من النظر إلى قضيتين رئيسيتين، إحداهما تتعلق بما تحتاج إليه أنظمتنا التربوية من إعادة نظر شاملة، سواء في المناهج أو في طرق إدارتها، والأخرى تتجسّد في ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية التي أصبحت مفقودة تمامًا من المحيط إلى الخليج، كما تم ذكره سابقًا. وإذا كانت القضية التربوية مدار دراسات عدة بما فيها دراسات حول طرق استيطان العلم والمعرفة والتقنيات في المجتمع العربي، فإن قضية انعدام العدالة في توزيع الثروات والمداخيل، قد أصبحت غائبة تمامًا عن المشهد الفكري العربي، وذلك بعد أن اجتاحت موجة النيوليبرالية العربية تعليم الاقتصاد في جامعاتنا العربية أو بعد أن درس الجيل الشاب من العرب في الجامعات الأمريكية والأوربية مبادئ النيوليبرالية وتعلّق بها. فاللحمة المجتمعية لا يمكن أن تتحقق فقط عبر التعليم والنهضة الثقافية، إنما يجب أن تكون مستندة إلى آليات عادلة في توزيع الدخل بين كل الفئات  الاجتماعية. وفي هذا الخصوص لابدّ من التذكير بالوضع التناقضي الفضائحي في سائر المجتمعات العربية، حيث نرى معدلات بطالة عالية للغاية عند العنصر الشاب، وبشكل خاص المتخرّج من جامعاتنا، مما يسبب نسبة هجرة أدمغة أعلى من أي بلد آخر. هذا يعني أننا في وضع نزيف بشري يحول بدوره دون بناء المنظومة الإدراكية والمعرفية العربية.

          إن المستقبل العربي مجهول وغامض وملتبس، لا أحد يعلم من المحيط إلى الخليج، إلى أين نحن سائرون، ولماذا نبقى بهذه الحالة من التشتت والتمزّق وفقدان العدل والتنمية في جميع أوجهها. ومرد ذلك في نظرنا إلى غياب المنظومة المعرفية والإدراكية الجامعة، المتكيّفة مع التحديات الموصوفة هنا، والمعالجة لأسباب الإحباط والوجدان المشرذم والمتناقض بين اتجاهات متناقضة. وفي استمرار غياب بناء المعرفة والإدراك السليم وأنظمة قيمية تستوعب تحديات العصر وتستعيد عبقرية الماضي المنسية، فليست لدينا أية إمكانية لتحديد أهداف يجتمع حولها العرب، قطريًا كما قوميًا، لإعادة إثبات وجودهم التاريخي وإعادة تكوين حضارتهم الخاصة بهم. ومن الواضح أن المجتمعات العربية بمعظم شرائحها تعيش اليوم في غياب مثل هذه  الأهداف، وهذا ما فجّر الحركات التكفيرية التي تمارس العنف الأعمى في مواقع عدة من الوطن العربي ضد المواطنين العرب الأبرياء، أكثر مما تمارسه ضد المحتلين الغزاة.

          لذلك، علينا جميعًا التعاضد في إرساء دعائم الحوار الفكري البنّاء لأن أزمة العجز العربي الفاضح خلال الثلاثين عامًا الأخيرة ليست إلا انعكاسًا لأزمة فكر عميقة، ناتجة عن التطورات الدراماتيكية المتلاحقة على مسيرة مجتمعاتنا خلال القرنين الماضيين.

-----------------------------------

وأُعطِي نصفَ عمري، للذي
يجعل طفلاً باكياً
يضحك
وأعطي نصفه الثاني، لأحمي
زهرةً خضراءَ
أن تهلكْ
وأمشي ألفَ عامٍ خلفَ أغنيةٍ
وأقطعُ ألفَ وادٍ
شائكِ المسلَك
وأركبُ كلّ بحرٍ هائج،ٍ
حَتى ألم العطرَ
عند شواطئ الليلك
أنا بشريّة في حجم إنسانٍ
فهل أرتاحُ
والدم الزّكيُ يَسْفك؟!
أغني للحياة
فللحياة وهبت كل قصائدي
وقصائدي،
هي كلّ.. ما أملكْ!

توفيق زياد

 

 

 

جورج قرم