لحظات من الزمن العربي: ابن السّلطان الضّالّ
حين ارتفع السلطان المحمودي فوق الأعناق كانت له مواصفات ثلاث يجب أن تجتمع لكل سلطان: قاض يأتمر بأمره، وأثر يخلد ذكره، وابن يرث عرشه. وكان "الصارمي إبراهيم" هو الوريث والمشكلة في ذات الوقت.
وقف أمام أبيه. لم يحضر اجتماعهما إلا القاضي "ابن البارزي". الشخص الوحيد الذي لم يكن يفترق عن السلطان ولم يكن يخفي عليه سراً. قال الصارمي دون أن يأبه بوجود القاضي:
- لقد نويت أن أتزوج يا أبي.. استبشر السلطان خيراً. استعرض في ذهنه بسرعة كل الأمراء الذين لم يكن ينوي خنقهم في المدى القريب وهو يتساءل.. بنت من منهم تصلح لأن تكون زوجة للصارمي. ولكنه واصل القول كأنه يقرر حقيقة لا رجعة فيها:
- سأتزوج "عائشة" بنت تاجر القماش في الموسكي.
وصرخ السلطان على الفور:
- رقبتي دون ذلك.
كان القاضي والسلطان فزعين. وظل الصارمي هادئا. كان السلطان يعرف منذ وقت مبكر أن ولده يهبط إلى حواري القاهرة. يجلس في مقاهي الغورية. ويشاهد "المحبظتية" في بركة الفيل ويلاعب الفتوات والعياق. كان يعتقد أنها نزوة. حالة من الملل يعاني منها من يعيش طويلا وسط أروقة القصور. فالهبوط للحواري لا يليق بأي مملوك فما بالك إذا كان ابن السلطان، قال الصارمي وهو يستعد للانصراف:
- إذا لم أتزوجها فلن أتزوج أبداً.
وانصرف. واستدار السلطان صارخا:
- ماذا أفعل يا قاضي القضاة.هل أضعه في السجن حتى يفيق..
قال القاضي بفصاحة:
- وهل تريده أن يكون أكثر عنداً. قربه من الحكم ورقِّه. اجعله مقدم ألف.
كان المنصب لا يزال أكبر منه. ولكن السلطان كان يريد من العامة أن يخافوا منه. لا أن يألفوا إليه. فطن السلطان فجأة إلى أن الزمان قد استطال وأن الصارمي قد كبر.
أصبح "الصارمي" مقدم ألف. لبس الزرد وتقلد السيف. وظل متباعداً عن أبيه. انشغل بمماليكه وبلعب الكرة مع الرفاق. وأهداه السلطان جاريتين واحدة سوداء وأخرى بيضاء ولكنه أعادهما إلى أبيه دون تعليق.
ثم جاءت أيام الطاعون.
لعنة مختبئة في شقوق أرض مصر من أيام موسى فرعون. تستيقظ فتحول الناس الذين عاشوا طوال عمرهم تحت الشمس إلى حيوانات مرعوبة تختبئ في الظلام تغمر أجسادهم بالقروح السوداء وتجعل شعرهم دائم التساقط وتحول الأظافر إلى ما يشبه المخالب. وفور أن أعلن عن ظهور أولى بوادر الطاعون أصدر السلطان أوامره فهبط جنوده على الأسواق وصادروا كل ما فيها من ثمار "اللارنج" وهو ثمرة لاذعة الطعم تشبه البرتقال. كان الأطباء قد أكدوا للسلطان أن التهامه هو وسيلته الوحيدة للنجاة من مخالب الطاعون. بعد ذلك أغلقت أبواب القلعة وأعلن المؤيد أنه لن يقابل أحداً ولن يلمس أحداً وسوف يقتصر نشاطه فقط على التهام اللارنج.
ولكن إبراهيم الصارمي فعل غير ذلك. أخذ المماليك الذين تحت إمرته وهبط بهم إلى الحواري كدأبه دائما. بدأ يواجه الطاعون. طاعون المرض وطاعون الناس. هاجم مخازن التجار وأخرج المؤن التي كانوا قد أخفوها حتى تباع بأعلى الأسعار. ثم بدأ يخلي البيوت ويحرق الجثث ويطهر أماكن المرض بالجير الحي. لم يكن يهدأ طوال النهار. وكان في الليل ينام على الأرض أو على ظهر جواده. بدأ المماليك الذين خلفه في التساقط ولكنه لم يتراجع. أحرق جثثهم وجثث خيولهم. كان يمرق في المدينة مثل حلم غير آبه بلمسات الموت الأسود الغادرة. يقتحم أشد أحياء المدينة فقراً وتعاسة. يحمل الغذاء للأحياء. والجير الحي للموتى.
وفي ذات ليلة رقد وهو يهذي باسم عائشة. كانت هذه هي لحظات ضعفه الوحيدة. وتجمع الفقراء. أحاطوا بالمسجد الذي كان ينام فوق إحدى حصائره وهم يتساءلون في حسرة: ماذا يحدث بعد أن يدفع الصارمي الثمن؟.. ولكن الصارمي لم يمت. استيقظ مع ضوء الشمس. كانت المدينة هادئة. لم يرتفع فيها عويل جديد. ولم تلق في طرقاتها جثة متفحمة. تراجع الطاعون أمام الصارمي. دفعت المدينة الثمن غاليا. ولكنها نجت كما تعودت أن تنجو ودخل الطاعون شقوق الأرض ونام حتى يأتي الأوان.
فتحت القلعة أبوابها. كان السلطان قد أتى على آخر ثمرة من اللارنج وما زال يرتعد، ظل يرفض مقابلة الصارمي لمدة ثلاثة أيام حتى تأكد تماما أنه خال من المرض. كان شاحبا وهزيلا كأنه مات وبعث في التو. هتف به السلطان غير مصدق:
- كيف فعلت هذا بنفسك. كيف أضعت نضارتك وسط حواري الحرافيش؟..
قال الصارمي: وهل كنت تريد أن تحكم شعبا من الموتى؟
واستدار لينصرف فجأة كعادته. ولكنه توقف ليقول قبل أن يخرج:
- لا تقلق من مسألة زواجي. ذهبت عائشة. أخذها الطاعون فيمن أخذ.
المجد للسلطان. والحزن للصارمي
إن كل شيء يبدأ بالحلم وكل حلم هو ضرب من الخيال. ولكن حلم المؤيد تحول إلى حقيقة مؤكدة. كان مملوكا صغيراً عندما تمرد ووضعه السلطان في سجن "خزانة شمايل" الموجود بجانب باب زويلة. كانت زنزانته مفروشة بهشيم عظام الذين سبقوه. وجدرانها مغطاة بعرقهم وعطنهم. وأقسم المحمودي وهو في قمة يأسه أنه لو أنقذه الله من هذا المكان فسوف يهدمه ويبني بدلا منه مسجداً، ولأن الأيام لا تلد إلا كل غريب فقد تحقق حلم السلطان ووقف يشرف بنفسه على عملية هدم السجن.
الجدران سميكة ومتماسكة. المعاول تهوي فينبعث الشرر وتتصاعد رائحة العفونة ثم تكشف عن جوف السجن المظلم. عن جدران الزنازين السوداء بها عليها من عطن وما في شقوقها من فئران وأوبئة. عن مخلوقات غريبة يبهرها ضوء الشمس. وتنتفض أجسادها حين تشم الهواء النقي.
وعندما اكتملت عمارته لم ينس أن يسرق الباب الرئيسي من مسجد السلطان حسن. والمنبر المنقوش من جامع قوصون. ثم جمع الأعيان والأمراء وهتف في قاضيه المفضل ابن البارزي:
- قد جعلتك خطيبا لهذا المسجد..
وقف القاضي ينادي للصلاة واصطف الجميع انتظاراً لأن يتقدمهم السلطان. ولكنه لم يتحرك من مكانه. بقي مقيداً في جلسته مربد الوجه وآلام المفاصل تعصف به.أعاد القاضي الأذان دون جدوى وزأر السلطان كأنه أسد حبيس ولم يبال به الصارمي. هرع الأمراء. حملوا المقعد الذي كان السلطان يجلس عليه. أشار لهم أن يصعدوا به إلى القلعة. واستقبلته جموع الناس في الخارج وهم يهتفون فيه في شماتة. صاح أحدهم:
- اهبط من على رقابنا يا سلطان..
زام السلطان وشرع الجند السياط ولم يتراجع الرعاع. هتف آخر:
- إعط الصارمي العرش يا سلطان.
وأشرع الجند الرماح ولم تهدأ الصيحات الغاضبة من باب زويلة حتى القلعة. كانت أشد وطأة عليه من آلام المفاصل. كلهم عرفوا بعجزه فاستأسدوا عليه. صعد الأمراء به السلالم الحجرية إلى الحريم فصرخ يأمرهم أن يتجهوا به إلى قاعة العرش. أجلسوه عليه ووقفوا جميعا بين يديه. دبت في نفسه بعض الراحة وخف الألم. كلهم حفروا خلفه حتى القاضي. الوحيد الذي لم يبال بمأساته هو إبراهيم الصارمي. الوحيد الذي كان في حاجة ماسة إلى ولائه في هذه اللحظة. حدق في الأمراء بغضب فارتعشوا.. كانوا يتساءلون على من منهم سوف يلقي السلطان ذنب آلام مفاصله ويقوم بخنقه؟..
لم تنفع دهون التمساح التي جاءت من السودان. ولا زيوت الهند. ولا "لبخة" أعشاب وادي النطرون. صرخ في الأطباء أن ينفضوا من حوله. وتقلب في سريره وحيداً. كل يوم يحملونه من الفراش إلى العرش. ومن العرش إلى الفراش. النهار مؤلم والليل أشد ألما.ولم يأت الصارمي. جاءت قهرمانة القصر بعد أن يئس الجميع. قالت:
- رجل مثلك لا تلزمه دهون. إنما تلزمه امرأة..
ثم جاءت بجارية لم ير السلطان مثلها. نضرة كالفجر ومع ذلك تجيد كل فنون العشق. لمسته فبدأ صدأ السنين الذي تراكم على مفاصله في الذوبان. انبعثت من خلايا نفسه رغبة حارة أنهكتها الطموحات. انسربت حياة جديدة من جسدها الغض إلى جسده الهرم. انبعثت من قطرات العرق الساخن. تلاطمت الدماء في العروق الواهنة فانتفضت وتقلصت. ألما ومتعة. عاد السلطان صغيراً ورقدت المدينة تحت قدميه صغيرة أيضا ومرتجفة. هكذا يستطيع أن يحكمها إلى الأبد..
ولكنه ذات يوم رآها تطل من النافذة التي تشرف على ساحة القلعة. كان مسترخيا فوق سريره عندما أحس فجأة أنها ليست معه. اكتسى وجهها بوهج من نوع خاص وبدا في عينيها بريق نافذ. تتطلع في استغراق إلى الخارج كأن هناك شيئا قد أخذ كل مجامع جسدها إلى الخارج. خيل للسلطان أن خلاياها كلها تتحفز للانطلاق. نهض ونظر إلى حيث تتطلع. كان هناك إبراهيم الصارمي يروض أحد الجياد. عاري الصدر. يمسك عنان الجواد في يد. ويمسك سوطا في اليد الأخرى والجواد يصهل ويرفع قوائمه إلى أعلى فتتحفز كل عضلات الصارمي وهو يشد عليه ويقترب من رأسه فتختلط أنفاسهما معاً وتخرج منهما رائحة نفاذة من العرق الحي. ولم تفطن الجارية أبداً أن السلطان واقف أمامها يتطلع إليها.
قال القاضي ابن البارزي:
- وقع المحظور وتآلفت قلوب العامة من حوله فأرسله بعيداً عن موطن الفتنة.
كان السلطان في حاجة ماسة إلى نصيحة القاضي.
وأعلن في المدينة كلها أن "الصارمي" سوف يخرج على رأس "تجريدة" لقتال أمراء الشام الذين خرجوا على طاعة السلطان. كان الخبر مفاجئا. والأمراء بعيدون وأقوياء بحيث يجب أن يخرج لهم السلطان بنفسه حتى يحدث وجوده الرهبة في نفوسهم. ولكن الصارمي قبل المهمة دون مناقشة وبدأ يختار الذين سوف يرافقونه في التجريدة. اختار المماليك الذين رافقوه أيام الطاعون لأنه أدرك أن الموت أصبح مستعصياً عليهم.
إن للصارمي أموراً غريبة. لقد بدأ العامة يتطوعون لمصاحبته. الرعاع الذين كفوا عن القتال منذ أن خرجوا مع السلطان قطز لمحاربة التتار. استيقظوا فجأة وقرروا أن يشاركوا الصارمي. توافدوا على ساحة القلعة وهم يحملون السيوف الصدئة وقضبان الحديد والسلاسل والعصي. أعداد بلا حصر. معظمهم حفاة لا يركبون شيئاً.
ثم خرجت "التجريدة" وعلى رأسها الصارمي. وظل السلطان يراقبهم بوجه جامد. لم يلتفت الصارمي إليه، ولى جواده إلى قلب المدينة فخرج العامة إليه يحملون سعف النخل والورد والرياحين وظلوا يودعونه حتى أول الصحراء. وفي المساء جلس السلطان. وجلست إليه الجارية وعلى وجهها علامات الانكسار. قال لها السلطان:
- هل عاشرت إبراهيم الصارمي؟..
قالت: كنت محظية من محظياته.
فلم يعد قادراً على الاقتراب منها بعد ذلك. أحس أن الصارمي لم يرحل بعيداً. بقي يلاحقه. في عيون العامة كأنهم يتهمونه. وفي كلمات الأمراء وهم يداهنونه. جميعهم كانوا يعرفون في صمت وتواطؤ أن التجريدة كانت مأساة وأن السلطان قد أرسل ابنه وجزءاً من جيشه في مهمة انتحارية لا عودة منها..
لكن للصارمي أموراً غريبة. فقد استطاع بجيشه الهزيل أن يقتحم أسوار "صفد" وحملت النجابة الرسائل إلى القاهرة فلم يصدقها السلطان. كان متأكدا أن "التمرغا" أمير صفد مقاتل شرس لا يستسلم بسهولة. فما الذي جعله ينهار أمام جيش جله من الهواة. أخفى السلطان الرسائل وحجز الرسل في مكان أمين. ومنع مدافع القلعة من الانطلاق كعادتها عند أي بشارة وعادت آلام المفاصل تلح عليه. ولم تخفف الجواري من آلامه شيئا. كأنهن جميعا كن يعانين من برودة غياب الصارمي.
قال القاضي للسلطان محاولا أن يطمئنه:
- مازالت هناك حمص وحلب ودمشق. سيعود مخذولا وسينفض عنه العامة ولن ينال منك إلا بقايا فتات العرش.
ولكن حمص - عليها اللعنة - سلمت هي أيضا مفاتيح أبوابها.
كان إبراهيم قد تخلق بطلا رغما عنه. وكان يجب أن تسقط حلب ودمشق لأن للصارمي أموراً غريبة.
العشاء الأخير للصارمي
شم الناس رائحة الصارمي قبل أن تعلن أخبار عودته. وسمعوا وقع سنابك جواده قبل أن يظهر قادماً من ناحية الصحراء. خرجوا يستقبلون جيشه الغريب. أكثره من الفلاحين والرعاع وأقله من المماليك. جيش كبير لم يألفه أحد. أصاب كل أمراء الدولة الكبار بالفزع. حملوا محفة السلطان وهبطوا به أسفل القلعة ووقف يستعرض الجيش المنتصر. كان جيشا خشنا بلا أبهة ولا بهرجة. أعلامهم بقايا من مزق الملابس وأسلحتهم متنوعة من كل المواقع التي اقتنصوها منها. كان وجه الصارمي جامداً. أكثر سمرة مما يليق بمملوكي. تباعدت الملامح بينهما ولم يعد أي منهما يشبه الآخر. توقف الصارمي أمامه وحنى رأسه ولم يستطع السلطان النهوض كي يحتضنه ولكن مدافع القلعة أطلقت أخيرا وهلل الرعاع في فرح طاغ وقال السلطان:
- سوف تكون أتابك عسكر الديار المصرية. أما الليلة فسوف أقيم لك مأدبة في القصر الأبلق.
لم يبد على الصارمي أنه تأثر.. هل كان هذا الثمن أقل مما يريد؟. تراجع الصارمي واحتوته جموع الناس. تداخلوا في العسكر. وتداخل العسكر فيهم. وتحولوا إلى كتلة واحدة متشابهة الملامح. أقامت لهم المدينة طقسها الخاص وظل السلطان وحوله الأمراء وخلفهم البيارق يرتعدون في الفراغ الطلق.
قال السلطان للقاضي: أنا خائف.
وقال القاضي للسلطان: الجميع خائفون.
قال السلطان للقاضي: كيف أتصرف؟.
قال القاضي للسلطان: أنت سلطاني وأنا طوع بنانك ولكن ليس للمماليك إلا طريقة واحدة يتصرفون بها في مثل هذه الأمور.
كانت المأدبة حافلة. حضر كل رجال الدولة أولا. ثم نقلوا السلطان على محفته وأجلسوه متصلبا وجلس القاضي بجانبه. وجلس الصارمي بعيداً وفي مواجهتهما تماما. يا لهذا الوجه الجامد المليء بالحزن. كيف تدهورت الأمور إلى هذه الدرجة؟.
أقبل الغلمان يحملون صحاف الطعام. والجواري يحملن أباريق الشراب. ولم يأكل أحد أو يشرب أحد. ثم دخل غلام أسود. يحمل طبقا من البللور عليه فطيرة محشوة باللحم. الطعام الذي يفضله الصارمي والذي تعلم أكله في الحواري التي يهبط إليها. بدأ السلطان يأكل فأكل الجميع. ازدردوا الطعام في صمت وترقب. كان بارداً ماسخاً ما عدا فطيرة الصارمي التي كان البخار يتصاعد منها وهو يغرس فيها أصابعه.
ثم توقف الصارمي عن الأكل. لفظ اللقمة التي كانت في فمه وحدق فيهم جميعا. حدق السلطان في ابنه. فتح فمه كأنه يريد أن يقول شيئا ثم زمه بعنف كأنه يكتم صرخة. حاول أن ينهض. سار مترنحا. حاول أن يهرب منهم جميعا حتى لا يروه ضعيفا منهاراً. ولكنه سقط على الأرض. وصاح السلطان وهو جالس في مكانه:
- خيانة.. مؤامرة..
وانتفض الأمراء. مسحوا أصابعهم في ثيابهم ثم هرعوا يحملون جسد الصارمي الذي كان ينتفض بشدة. صرخ السلطان يأمر بحضور كل الأطباء ولكن الأمراء ساروا بالجسد مبتعدين. اكتشف السلطان أنه أصبح وحيداً فصرخ يأمر الغلمان أن يحملوه وأن يسيروا به إلى حيث يوجد الصارمي.
كان ممدداً على الفراش. تغمر جسده الأصفر الداكن موجات متعاقبة من التشنجات، يختلج وجهه بألم مُمِضٍّ وقاس. كانوا قد خلعوا عنه ثيابه حتى يتنفس بحرية. نظر السلطان إلى جسد الصارمي العاري. لم يكن يعتقد أنه نحيل إلى هذه الدرجة. كأنه طفل صغير. استعار هذه اللحية وهذا الشارب من وجه آخر. عظام الجسد بارزة. وعروقه نافرة وحركة الأمعاء داخل البطن لا تكف عن التقلص. ود السلطان أن يمد يده ويلمسه ولكنه لم يجرؤ.. هل يموت الصارمي حقا؟.. ما أسهل أن يغتال الموت هذا الجسد الصغير. فجأة أجهش السلطان بالبكاء. أمسك يد كبير الأطباء وهو يهتف به متوسلا:
- أنقذوه..
وجاء كبير الأطباء ووقف أمام السلطان وهو يقول في حزن:
- نفذ قضاء الله. فليرحمه وليرحمنا جميعا.
ذابت الشموع على أيدي الناس. ولم يهبط الجثمان إلا في الصباح. وكان خفيفا كأنه لم يعش يوما ولم يهنأ يوما. لا لمسة من العشق. ولا لحظة من الزهو. جاء الذين حاربوا معه وحملوا جثمانه. وجاء الذين صاحبوه والتفوا حوله. وظل السلطان فوق محفته بعيداً وعاجزاً. أخذوه إلى الحواري التي أحبها وتمهلوا في كل الأماكن التي تعود أن يجلس فيها وكبروا عندما تذكروا ضحكاته. وموكب السلطان يتبعهم صاغراً. حوارٍ لم يرها من قبل رغم أنه يحكمها. وأناس لم يشهد مثلهم رغم أنه يملك رقابهم. يرددون التكبيرات في حرقة. تعويذة تدفع عن نفوسهم انكسار الحزن. وعندما وصلوا إلى القرافة الموجودة في باطن المقطم وبدا القبر أمامهم فاغر الفم أخذوا جميعا يصرخون في لوعة: ما أفظع أن تدفن حلما وأن تبقى الشمس ساطعة ويبقى الكون قائم الأركان.
ظل السلطان خافض الوجه. لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه أو مصافحته أو تعزيته. كان مهدود الحيل. منكس الرأس. جلس منزويا في المسجد. وصعد القاضي ابن البارزي صديقه وصفيه إلى المنبر كي يخطب خطبة الجمعة وذكر قصة النبي عليه السلام عندما مات ابنه وذكر كلماته الأخيرة:
- إن العين لتدمع. وإن القلب ليحزن. ولا نقول إلا ما يرضي الله.
وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
ورفع السلطان المؤيد رأسه وحدق في القاضي طويلا ثم هتف من بين أسنانه في صوت ممرور سمعه كل من حوله:
- يغريني على ولدي ثم يندمني عليه. والله لن تفلت بها أيها القاضي.