جمال العربية

أحدٌ وإحدَى

لكلمة أحد وما تفرع منها - في لغتنا العربية - دوران حول معنى رئيسي يتصل بالتفرد والانفراد والتوحيد.

وأول ما يعرض لنا في معنى الأحد أنه اسم من أسماء الله تعالى، ومعناه الواحد المتفرد بالألوهية واستحقاق العبادة.

يقول المعجم الكبير: أحد إليه يأحد أحْدا: عهد إليه.

قال الراعي:

بان الأحبة بالأحد الذي أحدوا فلا تمالُك عن أرض لها عمدوا
ويقال: أحَّد الشيء: وحَّده، جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أحِّدْ أحِّدْ أي أشر بإصبع واحدة.

وأحَّد الله: أفرده بالعبودية

وأحَّد الاثنين: صيرهما واحدا

وأحَّد العشرة: أضاف إليها واحدا فصارت أحد عشر، تقول: معي عشرة فأحّدهن.

ويقال: جاء القوم أحاد أي واحدا واحدا، وقد يقال جاءوا أحاد أحاد للتوكيد، يقول عمرو ذو الكلب الهذلي:

أحمَّ الله ذلك من لقاء أحادَ في الشهر الحلال

ومعنى قوله: أحمّ الله أي قدره

وتقول لغتنا العربية: فلان أحدُ الأحد، وأحدُ الأحدين أي واحد لا نظير له.

وتجمع أحد على أحدان وآحاد، يقول مرداس بن أبي عامر:

تداعوا عليّ أن رأوني بخلوة وأنتم بأحدانِ الفوارس أبصرُ

ومعنى قوله تداعوا: تنادوا..

وأحد: لفظ يختص بالعاقلين، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وفي القرآن الكريم: فما منكم من أحد عنه حاجزين و يا نساء النبي لستن كأحد من النساء.

والأحاد من العدد: من واحد إلى تسعة وخبر الأحاد عند أهل الحديث: ما لا يبلغ درجة التواتر، ويسمى خبر الواحد أيضا.

وأحد بمعنى واحد، وهو أول العدد، يقال: أحد، اثنان، ثلاثة.. ويقال: أحد عشر، وأحد وعشرون... ومؤنثه: إحدى.

وأحد: فرد من المتعدد، يقال: جاء أحد القوم، وأحد الرجلين.

وأحد: متفرد، يقال: هذا رجل أحد، وشيء أحد.

والأحد: اليوم الذي بين السبت والاثنين، يقال: مضى الأحد بما فيه.

وجمع اليوم آحاد، وقد يجمع أيضا على أُحْدان، ولا يفوت المعجم الكبير أن يضيف إلى مادة أحد كلمة أُحُد، ويذكر أنه جبل شمالي المدينة بينه وبينها نحو كيلو مترين، يقول الشريف الرضى:

وحديث كان من لذته .. أُحُد يصغى إلينا أذنا

وغزوة أحد: إحدى الغزوات الكبرى وقعت في السنة الثالثة من الهجرة، بالقرب من جبل أحد، خرج فيها المشركون ليثأروا لأنفسهم من غزوة بدر، وفيها استشهد حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، كما استشهد عدد كبير من المسلمين.

وإحدى: مؤنث أحد، ويقال للأمر المتفاقم: إحدى الإحَد، ونزلت به إحدى الإحد: أي إحدى الدواهي.

قال رجل من غطفان:

إنكمو لن تنتهوا من الحسد يدليكم إلى إحدى الإحد

ويقال: فلان إحدى الإحد، أي داهية، وهو ابن إحداها: كريم من الرجال.

ويقال إذا اشتد الأمر: إحدى من سبع، إشارة إلى سنيّ يوسف عليه السلام أو ليالي عاد السبع.

والأحدية: صفة الله الأحد.

وربما كان الشاعر إبراهيم ناجي من أكثر الشعراء المعاصرين استخداما لكلمة "أحد" في شعره، بالمعنى الذي أشار إليه المعجم الكبير عندما قال: إنه لفظ لنفي ما يذكر معه، فلا يستعمل إلا في الجحد (أي الإنكار والنفي) لما فيه من العموم، وفي القرآن الكريم: ولم يكن له كفوا أحد

وهو استخدام يكشف تكراره عن إحساس عميق بالوحدة والاغتراب، والوحشة حتى بين الناس، وهو شعور لم يفارق "ناجي" في كل شعره طيلة حياته، وهو يرى نفسه تتعرض في كل يوم لمحنة قاسية من هجر وفراق أو تجني حبيب، أو تقلب صديق، ونكران حميم، يقول في قصيدته الطويلة: الأطلال:

يا حياة اليائس المنفرد يا يبابا ما به من أحد
يا قفارا لافحات، ما بها من نجيّ، يا سكون الأبد

ويقول في قصيدته "الغريب" التي مطلعها:

إن خانني اليوم فيك، قلت: غدا وأين مني ومن لقاك غد

يقول في ختامها:

إني غريب، تعال يا سكني فليس لي في زحامهم أحد

ويقول في قصيدة عنوانها "الشك":

يا ليت لي في ومض كل عجيبة أحدا يذكرني بأنك آتِ
إن الذي قاسيت من برح الهوى أفنى حياتي قبل فجر حياتي

ومن شاء المزيد فليرجع إلى ديوان ناجي وإلى قصائده المجهولة التي لم تجمع بعد في ديوان.

التّمثال
للشاعر علي محمود طه

ولد علي محمود طه في مدينة المنصورة، التي أخذت اسمها من انتصار المصريين على ملك فرنسا لويس التاسع قائد الحملة الصليبية التي انتهت بأسره في دار ابن لقمان، ولد عام 1902، وتخرج في مدرسة الفنون التطبيقية مهندساً، ومن هنا فقد حمل لقب الشاعر المهندس، وتقلد وظائف عدة كان في آخرها مديراً لمكتب رئيس مجلس النواب في مصر، حتى كانت وفاته عام 1949 مخلفاً للمكتبة العربية ثروة من الدواوين الشعرية: الملاح التائه، ليالي الملاح التائه، أرواح شاردة، أرواح وأشباح، زهر وخمر، شرق وغرب، الشوق العائد، وأغنية الرياح الأربع.

لكن شهرته الشعرية بلغت أوجها عندما تغنى الموسيقار محمد عبد الوهاب ببعض قصائده: الجندول وكليوباترة وفلسطين، فأصبح اسمه على كل لسان، وبدأ شداة الشعر يفتشون عن دواوينه ويتخاطفونها ويكتشفون فيها لغته الشعرية المترفة، وتعبيره الأنيق، وخياله المحلق، فضلاً عن أصداء ساحرة لرحلاته في كل صيف إلى أوربا، من خلال قصائده عن نهر الراين وبحيرة كونو وجندول البندقية، وأطياف شعرية انسكبت في عالمه الشعري من خلال قراءاته وترجماته لكبار شعراء الرومانتيكية في الغرب وفي مقدمتهم لامارتين وألفرد دي فيني في الفرنسية وشيلي وكيتس وبيرون في الإنجليزية.

من بين قصائد ديوانه الثاني: ليالي الملاح التائه تلتمع قصيدته: التمثال، التي تعد نموذجاً فريداً لأسلوبه الشعري، وطريقته في التصوير، واستقصاء الفكرة الشعرية، وهو يقدم لها بمقدمة نثرية يقول فيها:

"الإنسان صانع الأمل، ينحت تمثاله من قلبه ومن روحه، ولا يزال عاكفاً عليه يبدع في تصويره متخيلاً فيه الحياة ومرحها وجمالها، ولكن الزمن يمضي ولا يزال تمثاله طيفاً جامداً وحجراً أصم، حتى تخمد وقدة الشباب في دم الصانع الطامح وتشعره السنون بالعجز والضعف، فيفزع إلى معبدأحلامه هاتفاً بتمثاله، ولكن التمثال لا يتحرك، ولكن الحلم الجميل لا يتحقق، وهكذا تجتاح الليالي ذلك المعبدوتعصف بالتمثال فيهوي حطاماً، وهنا يصرخ اليأس الإنساني ويمضي القدر في عمله".

ويقول الناقد أنور المعداوي في دراسته عن الأداء النفسي في شعر علي محمود طه وهو يحلل قصيدة التمثال: هي قصة الأمل الإنساني في فصولها الأربعة، يصور الشاعر في الفصل الأول منها رحلته إلى التمثال، تمثال الأمل الذي نحته من قلبه وروحه، إنه يريد أن ينفرد ليناجيه في الليل حين تهجع الكائنات وتستيقظ الذكريات، وفي الفصل الثاني نرى الشاعر وهو ينثر مجموعة هداياه تحت قدمي التمثال عسى أن يتحرك، ولكن الحلم الجميل لا يتحقق، وفي الفصل الثالث نرى النفس الإنسانية وهي في لحظة من لحظات الهزيمة والمرارة التي لا تترك في وأعماق الشاعر إلا آثار اليأس والقنوط والزفرات والحسرات، وفي الفصل الرابع والأخير نشهد ختام المعركة بين الوهم والحقيقة، إنها معركة ضارية تنشب داخل النفس وتمتلئ بغبارها العين وتنجلي حين تنجلي عن صرعى ظنون وعن شهداء آمال.

يقول علي محمود طه:

أقبل الليل، واتخذت طريقي لك، والنجم مؤنسي ورفيقي
وتوارى النهار خلف ستار شفقي من الغمام رقيق
مد طير المساء فيه جناحاً كشراع في لجة من عقيق
هو مثلي، حيران يضرب في الليـ ـل ويجتاز كل واد سحيق
عاد من رحلة الحياة كما عد تُ وكلٌّ لوكره في طريق
أيهذا التمثال هأنذا جئـ ـتُ لقاك في السكون العميق
حاملاً من غرائب البر والبحـ ر ومن كل محدث وعريق
ذاك صيدي الذي أعود به ليـ ـلاً وأمضى إليه عند الشروق
جئت ألقي به على قدميك الـ آنَ في لهفة الغريب المشوق
عاقدا منه حول رأسك تاجا ووشاحا لقدك الممشوق

* * * *

صورة أنت من بدائع شتى ومثال من كل فن رشيق
بيدي هذه جبلتك من قلـ ـبي ومن رونق الشباب الأنيق
كلما شمت بارقاً من جمال طرتُ فى إثره أشق طريقي
شهد النجم كم أخذتُ من الرو عة عنه، ومن صفاء البريق
شهد الطير كم سكبتُ أغانيـ ـه على مسمعيك سكب الرحيق
شهد الكرم كم عصرتُ جناه وملأت الكئوس من إبريقي
شهد البرما تركتُ من الغا ر على معطف الربيع الوريق
شهد البحر لم أدع فيه من در جدير بمفرقيك خليق
ولقد حير الطبيعة إسرا ئي لها كل ليلة وطروقي
قلت: لا تعجبي، فما أنا إلا شبح، لج في الخفاء الوثيق
أنا يا أم صانع الأمل الضا حك في صورة الغد المرموق
صغته صوغ خالق يعشق الفن ويسمو لكل معنى دقيق
وتنظَّرته حياة، فأعيا ني دبيب الحياة في مخلوقي

* * * *

معبدي، معبدي، دجا الليل إلا رعشة الضوء في السراج الخفوق
زأرت حولك العواصف لما قهقه الرعد لالتماع البروق
لطمت في الدجى نوافذك الصم ودقت بكل سيل دفوق
يا لتمثالي الجميل احتواه سارب الماء كالشهيد الغريق
لم أعد ذلك القوي فأحميـ ـه من الويل والبلاء المحيق
ليلتي! ليلتي ! جنيت من الآثا م حتى حملت ما لم تطيقي
فاطربي واشربي صبابة كأس خَمرها سَال من صميم عروقي

* * * *

مرّ نور الضحى على آدمي مطرق في اختلاجة المصعوق
في يديه حطامة الأمل الذاهب في متعة الصبا الموموق
واجما أطبق الأسى شفتيه غير صوت عبر الحياة طليق
صاح بالشمس لا يرعك عذابي فاسكبي النار في دمي وأريقي
جن قلبي، فما يرى دمه القا ني على خنجر القضاء الرقيق