توفيق زيّاد.. يشد على أياديكم

توفيق زيّاد.. يشد على أياديكم
        

          «أَنَا مَا هُنْتُ في وَطَنِي/ وَلا صَغَّرْتُ أَكْتَافِي/ وَقَفْتُ بِوَجْهٍ ظُلاَّمِي/ يَتِيمَاً، عَارِيَـًا، حَافِي/ حَمَلْتُ دَمِي عَلَى كَفِّي/ وَمَا نَكَّسْتُ أَعْلامِي/ وَصُنْتُ العُشْبَ فَوْقَ قُبُورِ أَسْلاَفِي/ أُنَادِيكُمْ/ أَشدُّ عَلَى أَيَادِيكُم»!

          بهذه الشعرية المحتدمة والذاهبة إلى أقصى أمكنتها في عمق القلب بأوضح الكلمات وأدق المفردات صاغ توفيق زيّاد شخصيته شاعرًا ومناضلًا متفردًا في الظرف الفلسطيني الخاص شعريًا ونضاليًا.

          ولد توفيق أمين زيّاد عام 1929م في مدينة الناصرة الفلسطينية، وفيها بدأ حياته الدراسية في مراحلها الأولى، قبل أن ينتقل إلى العاصمة السوفييتية موسكو لدراسة الأدب الروسي السوفييتي، مما عمق ثقافته الشيوعية وكرسها في عمله الدءوب تحت لواء الحزب الشيوعي في إسرائيل لاحقا.

          وعلى الرغم من الهوى الشعري الذي ملأ وجدان توفيق زياد منذ أن كان على مقاعد الدراسة، فإن الهوى السياسي احتل المساحة الكبرى في شخصيته، وهو الهوى الذي أسلمه للعمل الحزبي والنضالي المنظم، حيث كان رئيسا لبلدية الناصرة لما يقرب من 20 عاما، كما انتخب عضوا في الكنيست الإسرائيلي لعدة دورات انتخابية في وضع قلما اتفق لشاعر فلسطيني غيره. فقد كان توفيق زياد مثل عشرات من الألوف من الفلسطينيين الذين تشبثوا بالأرض وبقوا فيها إثر نكبة العام 1948م وقيام دولة إسرائيل، وقد فرض عليهم هذا البقاء أن يتعاملوا بواقعية عملية من دون أن يفقدوا هويتهم الفلسطينية أو إيمانهم بوطنهم أو حتمية عودته إليهم، خاصة أنهم لم يتركوه كي يحلموا بالعودة إليه كما يفعل بقية الفلسطينيين في الشتات.

          وقد تعامل الشاعر مع ذلك الوضع الملتبس في ملمحه الخارجي باقتدار وثقة عالية بالنفس مستمدة من نضالات مستمرة ومبكرة خاضها الشاعر ضد المحتل الصهيوني، من دون أن يتنازل عن حلمه وحلم الفلسطينيين كلهم بفلسطين كدولة حرة مستقلة. وفي سبيل ذلك الحلم الكبير كان على توفيق زياد أن يعزز اقتناعاته السياسية والشعرية، فقد كان دائما شاعرا كبيرا يعرف كيف يتعامل مع المفردة الشعرية بشغف واقتدار في الوقت نفسه، كما كان دائما قائدا سياسيا يعرف كيف يعبر عن الجماهير الشعبية التي لم تخذله يوما، ولذلك استهدفته سلطات الاحتلال الصهيوني أكثر من مرة بطرق مباشرة وغير مباشرة. وعلى هذا الصعيد تعرض توفيق زياد لأكثر من محاولة لاغتياله، في أكثر من مناسبة من المناسبات الوطنية التي شارك فيها سياسيا وشعريا، بل إنهم أقدموا أكثر من مرة على الاعتداء عليه جسديا وسجنه وإحراق بيته العائلي.

          وفي خضم كل ذلك تكونت شخصية توفيق زياد الشعرية، حيث كان الشعر أحد الأجنحة الكثيرة التي حلق بواسطتها الشاعر فوق ثرى فلسطين.

          وقد كان ديوان «أشد على أياديكم» الذي صدر العام 1966م أول ديوان صدر للشاعر كرسالة إبداعية وشعبية من أهل فلسطين في داخل فلسطين إلى أهلها في الخارج. وفي ذلك الديوان برزت ملامح الشاعر الشعرية والتي بقيت منتظمة في خيط إبداعي واحد على الرغم من تعدد وجوهها الخارجية، فمن شعر الغضب العارم المعتمد على الخطابية والمباشرة والمحتشد بالكثير من التنظير السياسي، إلى شعر الحماسة المفعم بالعاطفة الوطنية وحدها، إلى شعر الحنين المختلط بالكثير من الشجن والذي يتكئ فيه الشاعر على مفردات وصور مفعمة بالرومانسية. وعلى الرغم من أن الشاعر تقلب بين تلك الوجوه الشعرية مرحليا فإنه في الوقت نفسه كثيرا ما كان يخلط كل تلك الملامح الشعرية في قصيدة واحدة.

          وبالإضافة إلى ديوانه الأول أصدر توفيق زياد عددًا كبيرًا من الدواوين الشعرية، منها «ادفنوا موتاكم وانهضوا»، و«أغنيات الثورة والغضب»، و«أم درمان المنجل والسيف والنغم»، و«شيوعيون»، و«كلمات مقاتلة»، و«عمان في أيلول»، و«تَهليلة الموت والشهادة»، و«سجناء الحرية وقصائد أخرى ممنوعة» وغيرها، كما ترجم بعض الأعمال من الأدب الروسي ومن أعمال الشاعر التركي ناظم حكمت. كما أصدر عددا من الأعمال البحثية والنقدية والتراثية التي تركها وراءه وترك غيرها من المشروعات غير المكتملة قبل أن يرحل عن عالمنا مفعما بالحماسة والشعر والنضال، إثر حادث مروري مروع تعرض له في الخامس من يوليو العام 1994 وهو في طريقه للمشاركة في استقبال زعيم الثورة الفلسطينية ياسر عرفات بعد عودته إلى أريحا، وهو يبشر شعبه بمرحلة جديدة من مراحل القضية الفلسطينية بدأها بالتوقيع على اتفاقيات أوسلو مع إسرائيل. لكن توفيق زيّاد رحل قبل أن يرى ماذا حل بالشعب وبالقضية وبفلسطين نتيجة لتلك الاتفاقيات.

 

 

سعدية مفرح