حكم تاريخي لصالح «ألف ليلة وليلة»

حكم تاريخي لصالح «ألف ليلة وليلة»
        

يواصل الكاتب رصده لمحاكمة «ألف ليلة وليلة» مقلبًا أوراقه الأدبية

          «باسم الشعب، محكمة شمال القاهرة، بجلسة الجنح والمخالفات المستأنفة المنعقدة علنًا بسراي المحكمة في 23/1/1986 برئاسة الأستاذ سيد محمود يوسف رئيس المحكمة، وحضور السيد أحمد هاني وكيل النيابة والسيد عبدالحميد سيد عبـاس أمين السر، صدر الحكم الآتي في قضية النيابة العمومية رقم 3986 شمال القاهرة، ضد 1- حسن لبيب الزين 2- محمد محمد رشاد.

          اتهمت النيابة العامة المذكورين في القضية رقم 893 لسنة 1985ج. م القاهرة بأنهما في 18/2/1985 دائرة قسم قصر النيل بالقاهرة المتهم الأول استورد مطبوعات منافية للآداب العامة (كتاب ألف ليلة وليلة على النحو المبين بالأوراق) المتهم الثاني: حاز بقصد التوزيع مطبوعات منافية للآداب... طلبت عقابهما بمقتضى المادتين 30، 178/201 من قانون العقوبات.. وبجلسة 19/5/1985 أصدرت محكمة أول درجة حكما حضوريا اعتباريا يقضي أولا: بتغريم كل من المتهمين خمسمائة جنيه ومصادرة النسخ المضبوطة والمصروفات الجنائية. ثانيًا: بعدم قبول تدخل اتحاد الكتاب في الدعوى وبتاريخ 21/5/1985 قرر وكيل المتهمين استئناف ذلك الحكم».

          هذه هي الديباجة التي يبدأ بها الحكم التاريخي بالإفراج عن كتاب ألف ليلة وليلة الذي تعرض للمحاكمة أربع مرات سنة 1985التي كانت، فيما يبدو، سنة اختبار قدرة ترويض القضاء أو اختراقه لتحقيق مآرب تيارات الإظلام، ولكنها لم تفلح مع القاضي الذي أصدر هذا الحكم التاريخي، مع ثلاثة أحكام مماثلة، متعلقة بالكتاب نفسه، معتمدا على أسانيد قانونية وعلى حجج فكرية قوية تبدو في الحكم الذي أتوقف عنده. أما الأسانيد الفكرية، فترجع إلى وعي القاضي بالقيمة الفكرية والإبداعية للكتاب الذي هو من أشهر كتب التراث العربية التي لها طرائقها الخاصة في التأليف المخالفة لطرائق التأليف المعاصرة، وإلا ما كانت كتبا تراثية. والسند الفكري الثاني هو إدراك الغاية النهائية من تأليف الكتب المماثلة لألف ليلة، خصوصا من حيث إنها كتب جد وهزل في آن، وأن هزلها يعين على إدراك جدها، فهي كالأعمال الجمالية التي تقرن الجمال بالمنفعة والتسلية بالتعليم، دون أن تخرج على الأخلاق في التحليل الأخير، لا الأخلاق بمعناها الضيق، وإنما الأخلاق بمعناها الأرقى والأشمل والأعمق الذي يستخلص قيم الفضيلة من أفعال الرذيلة، فالعبرة في مثل هذه الأعمال بالمحصلة الكلية والنهائية، وقياسها الجمالي كالأخلاقي لا يقوم على انتزاع هذا الجزء من العمل والحكم عليه في ذاته، وإنما رد الأجزاء إلى الكل والحكم على كل جزء من خلال البناء الكلي الذي ينتسب إليه. وأعتقد أنه لهذا السبب - على وجه التحديد - يلح نقاد الفنون والمدافعون عن الإبداع بكل أنواعه على أن الحكم عليها، وعلى أي عمل منها، ينبغي أن يترك للمختصين الذين هم أدرى بخصائص الإبداع ومسالكه وأساليبه من غيرهم، سواء كانوا من رجال الدين وخاصة المتزمتين منهم والأخلاق والسياسة على السواء، فالهدف الأول من الإبداع هو الهدف الجمالي الذي لا يخلو، بدوره، من أهداف نوعية ملازمة، معرفية وأخلاقية ودينية وسياسية في آن.

ضد الترصد

          ولذلك فما أكثر ما ظلمت الأعمال الأدبية بوجه عام من سياسي مترصد، سيفه في نطاقه أو مسدسه في خاصرته، أو من رجل دين متعصب، ما أسهل أن يتهم غيره بالتكفير، أو من داعية متعصب، يرمي كل ما خرج عن ما ألفه في حمأة البدعة، والبدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ولذلك كان أعداء الإبداع بوجه عام (والعلم إبداع كالفن) ثلاثة يتكررون كلما سمحت لهم شروط الضرورة السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية فيتدافعون كالوباء الذي يقضي على كل ما هو جميل، وكل ما هو مبشر متقدم، كأسراب الجراد التي لا تترك وراءها سوى الخراب، وليس من الضروري أن يكون القاضي قد فكر في ذلك كله، فحسبه الاستنارة الفكرية التي تتجلى في طرائقه في استخدام المنطق السليم من ناحية، وقياس النتائج على أسبابها المنطقية، فهو يحسن التعليل العقلي والقانوني، ولذلك استطاع أن يقوّض أركان حكم محكمة درجة أولى بالإدانة، ويبني حكمه التاريخي على حيثيات منطقية صلبة:

          أولها: أن الجريمة التي نصت عليها المادة 178 من قانون العقوبات لا تنطبق على حالة كتاب «ألف ليلة وليلة» لا من حيث استيراده أو نشره أو توزيعه، فالمادة تشير إلى ما يدخل في باب التحريض الذي يؤدي إلى الإيحاء والإثارة التي تهدف إلى إفساد أخلاق الشعب، فالمصلحة المقصودة منه هي حماية الأخلاق العامة من حيث أنها عنصر من العناصر التي تتألف منها قوة الأمة، ويتوقف عليها استتباب الأمن فيها، وحيث إن الجريمة تقع بانتهاك حرمة الآداب وحسن الأخلاق وطوائف الأمور التي تتصل بها. أما طابع الفحش الذي يناقض حسن الأخلاق، فإنه لا يتوافر في الفعل بذاته إلا بالنظر إلى قصد فاعله أو غرضه، فعرض صورة عارية لا جريمة فيه إذا كان الجو الذي يحيط بهذا العرض جوا علميا أو فنيا يقتضيه أو يبرره، ولكنه يعتبر انتهاكا للآداب وحسن الأخلاق إذا كان الغرض منه إيقاظ اضطراب شهواني وميول سافلة عند النظارة، أو إذا كان القصد منه إهاجة تطلع ممقوت أو الإثارة الشهوانية (يراجع جرائم النشر، أحمد عبدالله، ط 1951، ص: 518).

جريمة عمدية

          الطائفة الثانية من الأمور المنافية لحسن الأخلاق هي الأمور الجارحة للآداب المتعلقة بالمسائل الجنسية وهذه الجريمة من الجرائم العمدية، بل إن القصد يكاد أن يكون هو كل شيء فيها، أي يكفي أن يكون الفاعل قد نشر ما ينافي الآداب العامة وهو يعلم ويدرك أن ما نشره بالوضع والكيفية التي نشر بها من شأنه إهاجة التطلع الممقوت وإيقاظ الشهوات ولا عبرة بعد ذلك ببواعثه، ولا يتحقق القصد الجنائي فيما ينشر في المؤلفات العلمية والفنية من أمور لو نظر إليها في ذاتها وعلى حدة لاعتبرت منافية للآداب (المرجع السابق، ص522) ومن حيث إن للمحكمة حق تكوين اقتناعها من أي دليل تستند إليه، فإن الرأي السابق فيه ما يدعم عدم اطمئنان المحكمة إلى وصف ألف ليلة وليلة بأنها عمل فاحش يخضع إلى ما تقضي به المادة 178 من قانون العقوبات.

          ثانيا: توافق المحكمة الدفاع على ما نقض به الحكم المستأنف من فصل بين العمل وأجزائه ومقارنته بغيره الذي يختلف عنه، فلا معنى للمقارنة بين طبعة «ألف ليلة وليلة» الأصل، في هذا السياق، وطبعة مهذبة أشرف عليها رشدي صالح، فهذا عمل يحسب على رشدي صالح وله. أما «ألف ليلة» الأصل فموضوع آخر، والاستناد إلى عدد من صفحاتها وردت بها ألفاظ فاحشة ينطبق عليه المبدأ القانوني السابق، فضلا عن أنها صفحات قليلة بالقياس إلى الكتاب الذي يتوزع على أربعة أجزاء، وفضلا عن ما في ذلك من انعدام التناسب الذي يصب في صالح أغلب الكتاب، فلا معوّل على قياس الجزء بعيدا عن الكل، فالعبرة القانونية في السياق الذي ترد فيه هذه الألفاظ، أما عندما يعترف الحكم المستأنف بقيمة ألف ليلة، ويقدر هذه القيمة، ويقصرها على الندوات الأدبية، فهذا فصل بين القيمة الأدبية، للكتاب وبعض سطوره التي نظر إليها الحكم المستأنف بذاتها واعتبرها مخالفة للآداب العامة دون موجب أو مبرر سائغ، «مع أنه كان يتعين على المحكمة أن تنظر للمؤلف بوصفه كلا متكاملا»، والموقف في «ألف ليلة وليلة» على النقيض من ذلك، فالقصد الذي يتجلى من وراء حكايات ألف ليلة وليلة، إجمالا، بعيد كل البعد عن فكر انتهاك حرية الأخلاق «وكان يجب على محكمة أول درجة أن تتحرى صحة دفاع المتهمين في هذا الشأن، وأن ترد عليه بمبررات سائغة، لها أصلها في الأوراق، وهي إذا لم تفعل يكون حكمها مشوبا بالقصور في التسبيب».

          ثالثا: إن الاعتداد واجب بكل ما قيل عن قيمة الكتاب في الشرق والغرب، وأنه قد خلب عقول الأجيال هنا وهناك، وأن قيمته تجاوز ما فيه من قليل اللهو إلى كثير الجد الذي يجمع بين العبرة والحكمة، والعظة والتدبر، وهو أمر يؤكد القصد الجليل للكتاب، وينأى به تماما عن دائرة القصد الرذيل أو الغرض الفاحش اللذين تشترطهما المادة 178من قانون العقوبات، ويمكن أن نضيف إلى ذلك ونرتب عليه الضرر الذي يلحق بصورة الثقافة العربية في أعين العالم كله، شرقا وغربا، إذا استجابت لداعي التعصب الذي طالب بحرق هذا الكتاب في ميدان عام.

          رابعا: تؤكد مراجعة الطبعة البيروتية التي استوردتها دار الكتاب اللبناني المصري أنها حذفت بعض ما جاء في الطبعات القديمة من تعبيرات وألفاظ جنسية كثيرة وهو أمر يحسب لها، ولكنه لا ينتقص من قيمة النص الكامل للأصل، فما فيه موجود مثله، بل ما هو أكثر منه كمًا وكيفًا في كتب التراث الأدبي القديم، التي تتداولها دور نشر مصرية وعربية دون حجر أو حذف، بل موجود مثله في كتب الدين والأحاديث التي لا تتحرج من ذكر الألفاظ والتعبيرات الجنسية ما ظل هناك داعٍ إليها، خصوصا في الموضوعات الإنسانية المتصلة بالجنس الذي هو جزء حيوي من حياة الإنسان وعلاقاته التي تكتمل بها إنسانيته.

القصد الأدبي

          لا ينفصل عن هذا السياق أن القصد الأدبي لكتاب «ألف ليلة وليلة» لا يدخل في كتب الجنس بالمعنى غير السوي، أي الكتب التي لا غرض لها سوى إثارة الغرائز الحيوانية، والشهوات الشاذة، التي تنأى بالإنسان عن إنسانيته، وهو أمر يعيد المحاجة القانونية كلها إلى معنى «القصد» أو «الغرض» وضرورة تحديدهما بعيون منفتحة وعقل إنساني النزعة.

          خامسا: كما أن قيمة ذلك المؤلف، إذا ما نظر إليها ككل متكامل وليس كعبارات منفصلة عن أصلها، تهدم ركن القصد الجنائي لهذه الجريمة في حق المتهمين، فلا يعقل أن يشتري الجمهور ذلك الكتاب من أجل عبارات متفرقة فيه، تخالف الآداب العامة، إذا ما نظر إليها منفصلة عن الكتاب الذي يشفع له أنه كان مصدرا للعديد من الأعمال الفنية الرائعة، ومنه استقى كبار الأدباء مصادر لروائعهم الأدبية، الأمر الذي نفى عنه مظنة إهاجة تطلع ممقوت، أو الإثارة الشهوانية لدى قرائه إلا ما كان منهم مريضا تافها، وهو ما لا يجب أن يحسب له حساب عند تقييم قيمة ذلك المطبوع، فإذا ما انهار بذلك القصد الجنائي لتلك الجريمة لدى المتهمين (حسن الزين، محمد رشاد) فإن الاتهام الموجه إليهما ينهار تبعا لذلك، أما ما ورد في شهادة الشهود الذين استعانت بهم النيابة فلم يطمئن إليه وجدان المحكمة.

          سادسا: إن كل الجهات الرقابية والإدارية التي مرت عليها نسخ الكتاب المستورد من بيروت لم تبد اعتراضا، ولايزال الكتاب يباع في المؤسسات الرسمية للدولة، ولم يسحب من الأسواق، وفي ذلك ما يضيف إلى غيره من تأكيد أن قضاء محكمة أول درجة قضاء غير سديد، يلزم إلغاؤه وبراءة المتهمين مما نسب إليهما عملا بنص المادة 304/11.ج.

          سابعا: تنوه المحكمة إلى أن اتحاد الكتاب سبق أن عدل عن طلب تدخله في الدعوى، وإذ قضت محكمة أول درجة بعدم قبول تدخله تكون قد فصلت في طلب غير مطروح عليها.

          وتهيب المحكمة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب أن يعمل على وضع ضوابط وحصر لكتب التراث والأدب العربي، والعمل على تنقية هذه الكتب من الهنات التي تعلق بها دفعا بكل مظنة بمعاونة اتحاد الكتاب وسائر الهيئات الأدبية والعلمية المعنية.

          فلهذه الأسباب:

          حكمت المحكمة حضوريا بقبول الاستئناف شكلا، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المستأنف والقضاء ببراءة المتهمين مما نسب إليهما بلا مصروفات.

أمين السر
(توقيع) عبد الحميد سيد عباس

 

رئيس المحكمة
(توقيع) سيد محمود يوسف



مع الاستنارة

          هذا هو نص الحكم الذي لا أتردد في وصفه بأنه حكم تاريخي، وبأنه يردنا إلى تقاليد القضاء المصري التي ينبغي أن يفخر بها كل مواطن مصري مستنير، وكل من ينتسب إلى الهيئة القضائية الموقرة، التي لانزال نرى فيها الحصن الحصين لحماية الدولة المدنية وقيمها المتعلقة بالحرية والعدل والتسامح في دائرة الإيمان بالقيم الكبرى للحق والخير والجمال، وهي القيم التي ترتقي بها الأمم وتتقدم إلى الأمام، ما ظل العقل المستنير يقود مسيرتها والقلب العاشق للجمال يهدي مسيرتها، والروح المنجذبة إلى المثل الأعلى للتقدم لا تتوقف عن التوهج الذي يتحول إلى طاقة تثري كل ما حولها، وتتبدد بنورها كل سحائب الظلام والغيوم المعتمة للتعصب والتصلب الذي يعوق الرؤية المتطلعة إلى المثل الأعلى للتقدم، الذي يظل دائما، وأبدا، في حاجة إلى المزيد من الكشف والإضافة في آن.

          ويقيني أن حكم القاضي الجليل سيد محمود يوسف ينتسب إلى سياق التقاليد التي أصدر فيها، بعد ذلك، زميل آخر حكم البراءة لصالح أحد كتب سيد القمني مما نسب إليها، وهناك حكم ثانٍ لزميل له أصدر حكما موازيا لصالح رواية «الجميلات» للروائي الذي فقدناه العام الماضي (2010) محمد عبدالسلام العمري، وغيرهما من القضاة الذين تصدوا للدعاوى الباطلة التي رفعت على أمثال عاطف العراقي أستاذ الفلسفة الإسلامية، داعية العقلانية الرشدية في جامعة القاهرة، وعلى الدعاوى المماثلة التي رفعها متعصبو هذا الزمان على يوسف شاهين وعبدالمنعم رمضان وحلمي سالم الشاعرين، متذكرين الزمن الجميل الذي رفض فيه محمد نور رئيس نيابة عموم مصر الدعوى المقدمة ضد طه حسين صاحب كتاب «في الشعر الجاهلي» سنة 1926، وعائدين إلى العام الماضي الذي رفض فيه عبدالمجيد محمود النائب العام (قرين محمد نور) الدعوى التي أقامتها مجموعة من المحامين لمصادرة «ألف ليلة وليلة» التي أنصفها زميله القاضي سيد محمود يونس في يناير 1986.

القاضي النحلة

          مؤكد أن حيثيات حكم هذا القاضي الجليل أفادت من مذكرة الدفاع الشاملة والمعمقة للأديب المحامي صبري العسكري، والتقرير العلمي الذي كتبه الأستاذ إبراهيم الإبياري وزميلاه، ولكن القاضي، أفاد من كل ما اطّلع عليه، كالنحلة التي تمايز بطبعها بين ما يفيدها وما يضرها، فتقبل على المفيد من الزهور اليانعة التي تحيلها عسلا رائقا فيه شفاء للعقول الباحثة عن الحقيقة، والحق أن المحاجة التي يقوم بها القاضي في بناء حيثيات حكمه تؤكد أنه واسع الاطلاع، وتفسيراته التي يستغلها فيما يكون عنوانا على الحقيقة ونافعا للناس، ولذلك لم أقاوم إعجابي به بعد أن قرأت حيثيات الحكم، وتمعنت فيها، وجلست أتأمل في لوازمها بعد أن تباعدت عنها فانتهيت إلى الملاحظات التالية التي يمكن أن تكون تذييلا لها، أو حاشية على طريقة القدماء، وأجمل هذه الملاحظات فيما يلي:

          1- إن الحيثيات تصدر عن عقل منفتح، عقلاني غير نقلي في تأويلاته التي تصدر عن موقف محايد يبحث عن الحقيقة العادلة، غير منطوٍ على أية أحكام سابقة، أو ضغوط سلفية كانت قد بدأت مع صعود نزعة التديين التي أشاعتها جماعات الإسلام السياسي، التي تحالف معها السادات ضد حلفائه من الناصريين واليساريين والقوميين والليبراليين على السواء، فنحن إزاء حيثيات يصوغها قاض، نزيه القصد، يصوغ ما يقوده إليه عقله لصالح ما ينطوي عليه وينشده من قيم الحق والخير والجمال، وهو ما نفتقر إليه في هذا الزمان الذي غلب فيه القبح الجمال وحل محله، واستبدلت التيارات الغالبة على المجتمع الإظلام بالاستنارة، والظلم بالعدل، والتعصب بالتسامح، والاتهام المسبق بمبدأ «المتهم بريء حتى تثبت إدانته».

          2- إن الحكم مبني على معرفة طرائق العرب في التأليف، ابتداء من طريقة الجاحظ الذي يراوح بين الجد والهزل، تخفيفا على القارئ، ومنعا له من أن يملّ المتابعة، وانتهاء بطرائق غيره من الذين ذهبوا إلى القول المأثور «أجموا النفس ببعض الباطل حتى تقوى على الحق» أو «إن للنفس ملالة كملالة الأجساد»، ولا أدل على ذلك من حديث القاضي إلى يوسف القعيد، بعد المحاكمة، عن مكتبته الخاصة وكتب التراث التي قرأها.

          3- إن القاضي ينطوي على إحساس أدبي صادق، ووعي منطقي سليم يؤدي به إلى الإيمان بأنه لا يمكن الحكم على جزء منفصل عن الكل، ولا على كلمة منفصلة عن سياقها، أو عبارة مجتزأة من نصها الكامل، وإلا توقفنا عند «لا تقربوا الصلاة» ونسينا ما بعدها وما هو شرط أساسي أو مصدر الأمر ومفتاح المقصود منها.

          4- شجاعة القاضي وإيثاره الحق والمصارحة على المجاملة المهنية، وذلك واضح في إشارته التي تدين حكم قاضي محكمة درجة أولى، وتؤكد فساد استدلالالته التي كانت على سبيل الاجتهاد غير الموفق الذي كان يمكن أن تترتب عليه نتائج بالغة الخطورة في تأثيرها على الإبداع الأدبي، معاصرا أو حديثا أو قديما، بل بما يجاوز إبداع الكلمة إلى إبداع اللون والنغمة والحجر ومن المؤكد أن الاعتداد في الحكم بالقيمة الأخلاقية على القصد يكتمل معناه بإضافة السياق الذي لا معنى للجزء فيه إلا بعلاقته بالكل، وهو تكامل يرد القصد على السياق في تجاوب القيمة الأخلاقية والجمالية التي ترتفع بها قيمة العمل الإبداعي من ناحية، وتترتب على نحو صاعد بالإيجاب من ناحية أو هابط بالسلب من ناحية موازية، وبهذا القياس يتمايز العمل اللاإبداعي الذي لا يهدف إلا إلى إثارة الغرائز، والعمل الإبداعي الذي يحرك الوعي الجمالي ويرتقي بالإنسان إلى نوع من المتعة الجمالية التي هي مزيج من الشعور الأخلاقي والجمالي المندرجين في وعي القيمة الموجبة.

          5- وأخيرا، فإن النص على «أن ألف ليلة وليلة كانت مصدر إلهام لروائع الأعمال الأدبية»، وهو الأمر الذي ينفي عنها مظنة إهاجة تطلع ممقوت أو إثارة شهوانية لدى القراء إلا من كان منهم مريضا تافها، وهو ما لا يحسب حسابه عند تقييم قيمة الأعمال الإبداعية، هي ملاحظة تدخل في دائرة الاستقبال الجمالي من ناحية، وحسابه على أساس من المتلقي الذي لابد أن يتمتع بالسواء النفسي والعقلي، فضلا عن الوعي الجمالي المدرب صاحبه على التذوق السليم وهو أمر لا يحتسب فيه المتلقي المصاب بكبت جنسي عنيف، يرى في كل راقصة بالية عاهرة، وفي كل تمثال عار، حتى لو كان لفينوس، تجسيدا كاملا للعهر والفحش الذي يستحق صانعه القذف في نار جهنم وتلقي لعنات الدنيا والآخرة. وهو الأمر نفسه الذي يدفع متأسلمي هذا الزمان إلى الهجوم على كل عمل إبداعي يتناول الجنس الذي هو جزء حيوي وطبيعي في حياة كل إنسان.

          6- وتبقى إشارة تستحق نوعا من التوضيح في نهاية حيثيات الحكم، وهي أن اتحاد الكتاب سبق أن عدل عن طلب تدخله في الدعوى، وأن محكمة أول درجة فصلت في طلب غير مطروح عليها، عندما قضت بعدم قبول تدخل اتحاد الكتاب والحق أني لم أفهم هذه الجزئية في بادئ الأمر، ولكني فهمتها على وجهها السليم عندما قرأت كتاب صبري العسكري «خمسون عاما بين الأدب والمحاماة» وهو مجموعة حوارات أجراها معه الأستاذ إبراهيم عبدالعزيز، ومنها الحوار الذي أجراه معه حول الوجه الآخر لمحاكمة شهرزاد «ألف ليلة وليلة» وأعني السؤال الخاص بموقف اتحاد الكتاب من المحاكمة التي جرت في محكمة أول درجة، فأجاب الأستاذ صبري العسكري بما نصه «قبل صدور حكم المصادرة، أصدر مجلس إدارة الاتحاد قرارا بأنه لا يجوز لأي سلطة المساس بالتراث، وطلب مني - وكنت وقتها مستشارا قانونيا للاتحاد - الحضور عنه في القضية منضما للمتهمين في طلب رفض المصادرة، إلا أن المحكمة اعتبرت أنه لا صفة للاتحاد في الحضور أمامها لأسباب قانونية، وعندما بادرت إلى الكتابة في الصحف بعد صدور حكم المصادرة للرد على مقولة «إنه لا يجوز التعليق على أحكام القضاء» للتعريف بالحدود القانونية والواقعية لذلك الحظر، خصوصا أن انتشار تلك المقولة تسبب في إحجام المثقفين عن متابعة القضية في مرحلة الاستئناف، ونشرت مقالين في جريدتي «الجمهورية» و«الأهرام» بذلك المعنى، وفوجئت بأن الأديب الراحل ثروت أباظة المشرف على صفحة الأدب في «الأهرام»، وقتها، قد ألحق في ذيل المقال عبارة «هذا المقال لا يعبر عن رأي اتحاد الكتاب، وإنما يعبر عن رأي صاحبه»، والحق يقال إنني لم أنتحل لنفسي شرف التعبير عن الاتحاد، لأنني في العادة أوقع كتاباتي في الصحف باسمي مجردا من أية صفة أو مهنة» (ص: 115 116)، ولم يكن يوسف السباعي رئيسًا لاتحاد الكتاب في ذلك الوقت، أعني سنة 1985، فقد اغتيل في نيقوسيا سنة 1978، وورث الرئاسة ثروت أباظة وعلى أية حال، فإن مواقف ثروت أباظة كانت تؤدي به إلى مثل هذه الأفعال.

في الطريق إلى بنها

          وفي النهاية، فمن حسن الحظ أن الروائي والصحفي يوسف القعيد كان جالسا في القاعة رقم (2) في مبنى وزارة العدل القديم بالقرب من ميدان العباسية، حيث كان الطريق الذي يمر أمام المحكمة يؤدي إلى معرض القاهرة الدولي، ولا شك في أن يوسف القعيد كان يتابع وقائع الجلسة الأخيرة لقضايا «ألف ليلة وليلة» الأربع التي أشار إليها في حواره مع القاضي بعد نطق الحكم، وقد جلس مشدود الأعصاب بوصفه أحد عشاق «ألف ليلة» غير أنه بعد أن استمع إلى الحكم التاريخي للقاضي لم يستطع أن يتمالك نفسه، وهرع إلى القاضي الذي خرج على عجل ليلحق بالقطار الذي يعود به إلى مدينة بنها، حيث يقيم مع أسرته، فأوقفه يوسف ليسأله عن نفسه والقضية معا، ويلح عليه في السؤال، إلى أن استجاب القاضي له، فأجرى معه حوارا سريعا، عرفنا منه أن القاضي ابن موظف بسيط من أبناء محافظة المنوفية، وأنه يسكن في أحد المساكن الشعبية في مدينة بنها، وهو قانع بسكنه البسيط الذي يتكون من غرفتين وصالة، لكي يعيش نظيف اليد نقي الضمير في مجتمع الهوس الاستهلاكي، كما يقول يوسف القعيد في الحوار، الذي فرضه على الرجل ونشره في العدد اللاحق بمجلة «المصور»، المهم أن القاضي قبل أن يجلس مع يوسف القعيد قليلا، بعد أن أمطره يوسف بانطباعاته الحماسية الصادقة عن الحكم، فكانت إجابته عن السؤال الأول من أنت؟؟: «أنا واحد من أبناء مصر البسطاء، أنتمي إلى قضاة مصر أنا وسائر زملائي... وأنا واحد من 1500 قاضٍ مصري علينا أن نفصل في 7 ملايين قضية كل سنة» وسأله يوسف ما علاقتك بـ «ألف ليلة وليلة»، ج: لقد قرأت الطبعة التي كانت محل الحكم، وما قدم من طبعات أخرى في القضية التي كانت محجوزة للحكم، ومضت الأسئلة والأجوبة التي عرفنا منها أن القاضي من هواة قراء الأدب، والشعر أولا، وتأتي بعده كتب التراث، وكتب كبار كتاب الأدب المعاصر، والشعراء العرب القدامى، وأنه يمتلك بسبب حبه للتراث نسخته الخاصة من «ألف ليلة وليلة»، ويضيف أن قضيتها أتعبته أكثر من غيرها. وينهي الحديث بقوله «مبدأ الأحاديث الصحفية للقاضي غير مطلوب، لأن القاضي من المفروض أن يعمل في صمت وهدوء، بعيدا عن الرأي العام ولذلك أنا لا أستحب الأحاديث الصحفية». وينهي الرجل الحوار السريع الذي جرى في حجرة المداولة الملحقة بقاعة المحكمة، بعد يوم من الإرهاق والعمل، نظر فيه 43 قضية آداب، منها اثنتان خاصتان بـ «ألف ليلة وليلة» وقد كان حريصا على أن يتحدث مع يوسف، في حضور مساعديه وأمين سر الجلسة، ربما مبالغة في الاحتراس, وسرعان ما ترك يوسف إلى محطة السكك الحديدية ليلحق القطار الذي يعود به إلى مدينته بنها, ولحسن حظي أعطى يوسف نسخة من الحكم بحيثياته وهي النسخة التي أعارني إياها مع حواره مع القاضي بخط يده، وعدد قضايا ألف ليلة الأربع والمتهمين فيها، وكانت آخرها قضية دار الكتاب المصري اللبناني, ويجب شكر يوسف على ما فعل وما زودني به من معلومات ونصوص, أما هذا القاضي الجليل، أينما يكون الآن، فله إجلال مثقف، وتقدير أستاذ جامعي يعرف الحق بأهله.

-------------------------------------

نحنُ أصحابُكَ فالبشرْ يا وطنْ
نحنُ عشاقُكَ فابشرْ يا وطنْ
ننحتُ الصّخرَ ونبني ونعمّر
ونلوكُ القيدَ حتى نَتحرّرْ
نجمعُ الأزهارَ والحلوى
ونمشي في اللهيبِ
نَبذلُ الغالي لِيبقَى
رأسُكَ المرفوعُ.. مرفوعاً
على مرِّ الزمنْ
نَحنُ أصحابكَ..
عشاقُكَ..
فابشرْ، يا وطنْ..

توفيق زياد

 

 

جابر عصفور