قصص أبوالمعاطي أبوالنجا: انفلات السرد من طغيان الفكرة

  قصص أبوالمعاطي أبوالنجا: انفلات السرد من طغيان الفكرة
        

          قبل نحو خمسين عامًا بدأ احتفاء النقاد ببزوغ نجم في فضاء القصة المصرية، ذلك الفضاء الحافل بالحراك الفكري، يبعثه الحراك السياسي والزخم القومي في اندفاع الثقافة العربية نحو اتجاه متصاعد، وحركات استقلال وتحرر متتالية، فقد استقبل د.عبدالقادر القط أبوالمعاطي أبو النجا معلقًا على مجموعته الأولى «فتاة في المدينة» (1960) بوصفه بأنه من ألمع كتاب القصة النفسية ومن أقدرهم على تفتيت اللحظة النفسية الواحدة إلى لحظات جزئية غنية بالدلالة.

          تأكد اعتراف النقاد بجدة وأصالة ما قدمه أبوالمعاطي أبوالنجا - منذ مجموعته الأولى - فيما فعله د.سيد حامد النساج باحث الدكتوراه آنذاك من وضع الكاتب نموذجا من النماذج المهمة للاتجاه الفكري في القصة المصرية مع مصطفى محمود وتوفيق الحكيم ويوسف الشاروني، وهو ما صدر بعد ذلك في كتاب بعنوان «اتجاهات القصة الحديثة».

          خلال أربعين عاما تالية قدم أبوالمعاطي أبوالنجا سبع مجموعات قصصية، بالإضافة إلى مجموعته الأولى، فبدأ بمجموعة «فتاة في المدينة» (1960)، وانتهى بمجموعة «في هذا الصباح» (1999)، وبينهما قدم «الابتسامة الغامضة» (1963)، «الناس والحب» (1966)، «الوهم والحقيقة» (1974)، «مهمة غير عادية» (1980)، «الزعيم» (1982)، «الجميع يربحون الجائزة»

          (1984)، قبل أن يخرج مجموعته الأخيرة بعد خمسة عشر عاما.

          وقدم أبوالنجا في الرواية روايتين هما «العودة إلى المنفى» (1969) و«ضد مجهول»

          (1975)، كما دفع بكتابين في الدراسات النقدية هما: «قراءات في الرواية العربية» (1985) و«طرق متعددة لمدينة واحدة» (1997).

من سرد الفكرة إلى سيولة السرد

          خاضت قصص أبوالمعاطي رحلة كفاح متنامية ومتطورة ضد طغيان الفكرة، حين بدت القصص المتقدمة لاسيما بالمجموعتين الأوليين محتفية بالفكرة وتأكيدها، ما حال دون اندفاع السرد وتدفقه، وظهرت الحركة السردية مسرفة في الوصف والتحليل النفسي، بخيلة مقتصدة في التعاطي مع المشهد، باعتباره النموذج المثالي لاتزان الحركة السردية.

          وهكذا يمكن القول بتحول أبو النجا من بعد حقبة الستينيات، وبعد ثلاث مجموعات تحول من المفكر القاص إلى الفنان القاص، وتحولت القصص من البطء إلى السرعة، ومن الوقفة إلى الحذف، بل من الشخصيات النفسية المأزومة إلى الشخصيات الحركية وسردها سريع الإيقاع. تحولات كانت من التباين بحيث يمكنك الاعتقاد بأنك حيال نوعين متمايزين من السرد وهما تأملي بطيء وحكائي متسارع.

سرعة السرد بين زمنين

          بنى السرديون دراساتهم للزمان على أساس وجود زمنين، تحركت الحوادث بينهما، وتؤول المقارنة بينهما إلى الكشف عن آلية توظيف الزمن في المبنى الحكائي، وفق تريب يختاره المؤلف بما يخالف أو يوافق ترتيبها في المتن الحكائي، وهما المصطلحان «المبنى الحكائي» و«المتن الحكائي» اللذان وضعهما الشكلانيون الروس للأحداث قبل وبعد تدخل المؤلف في إعادة ترتيب ألأحداث، وكذلك تدخله في إبطاء الزمان السردي أو الإسراع به.

          وهو ما قدمه جيرار جينت بصيغة أخرى في تعريفه للحكاية بوصفها مقطوعة زمنية مرتين، فهناك زمن الشيء المروي وزمن الحكاية (زمن المدلول وزمن الدال).

          وتبدو دراسة السرعة السردية Duration في قصص أبو المعاطي أبوالنجا دالة بشكل واضح على هدا التحول من الفكرة إلى الفن، ويتم قياس سرعة السرد في ضوء العلاقة بين زمني القصة والحكاية، حيث وضع نقاد السرديات تدرجا منتظما للسرعة السردية وفق درجات أربع رتبت تدريجيا، هي: الحذف والوقفة والمشهد والملخص، مرتبة تنازليا حسب سرعة الزمن السردي.

  • الحذف Ellipsis وهو السرعة السردية المطلقة حيث يتخطى السرد أحداثا سردية في القصة لا يذكرها في الحكاية، ويمكن تقسيمه إلى قسمين: حذف محدد وحذف غير محدد، أي حذف يفصح عنه السرد ويشير إليه والآخر يكون ضمنيا.
  • الوقفة Pause وهي الحالة المقابلة للحذف ولها مظهران: الوصف Description، والتحليل النفسي Psychoanalyses.

          فالسرعة السردية بطيئة للغاية في التحليل النفسي ومتوقفة في الوصف.

  • المشهد Scene: وهو تلك الحالة التي يستوي فيها الزمانان، زمن القصة في الخارج وزمن الحكاية في الداخل، بما يعني اكتسابه لطابع مسرحي.
  • الملخص Summary: وتتقلص فيه المساحة النصية في الوقت الذي تمتد فيه المساحة الزمنية للقصة.

تواضع الحذف

          جاء الحذف أقل عناصر السرعة السردية تواترا في قصص الكاتب، ما يشير إلى السير البطيء للسرد، لاهتمام أبوالمعاطي أبوالنجا بالتحليل والتوقف، وكانت أكثر المجموعات حذفا «مهمة غير عادية» لأن بها عدة قصص ذات امتداد زمني واسع مثل «ناني القطة السمراء» ذات مستويين سرديين، وأقل المجموعات كانت مجموعة «الجميع يربحون الجائزة» وبها «6» مقاطع فقط، حيث احتفت بالبطء والتحليل والوقفات مثل قصة «ذلك الوجه وتلك الرائحة» ذات التحليل النفسي للشخصية. ومن نماذج الحذف الصريح في قصة «مملكة نبيل»: «وأدرك بعد مرور أسبوعين من العمل في المتجر أنه ليس بمقدوره أن يفعل أي شيء لإرضاء أمه......».

          والحذف الصريح غير المحدد في قصة «الطابور»: «بعد لحظات كانت حمى التعليقات في الطابور قد بدأت تهدأ وفقد الطابور موضوعه المشترك.........».

          أما الحذف الضمني فنراه مثلاً في قصة «هل يموت الأب؟»: «المدرسة تدعوك لحضور الحفل التمثيلي الذي تقيمه، ثم أوضح، ألعب دورا مهما في الرواية الجديدة التي تقدمها المدرسة. في صالة المسرح كانت الأم تجلس بين النظارة، على المسرح كان (راشد) يلعب دور البطولة، وكان الممثلون الصغار يتكلمون جميعا لغة واحدة.......».

تمكن الوقفة

          أما الوقفة بمظهريها: الوصف والتحليل فلها الحضور الأكبر بين عناصر السرعة، فقد جاءت في «665» مقطعا في كل القصص، ولهذا التفوق دلالتان وهما:

          اهتمام الكاتب بالتحليل النفسي والوصف باعتبارهما نموذجي الوقفة.

          تميز السرد بالهدوء والاتكاء على المناقشات العقلية والمنطقية ومعالجة وجهات النظر حول موضوع واحد.

          وقد شهدت الوقفة تطورا مهما، حيث تدرجت تنازليا من المجموعات الأولى نحو المتأخرة، وهو أمر مهم، أراد أبوالنجا به تخفيف التحليل النفسي والوصف المسهب، مفضلا التحول إلى الغاية بالمشاهد السردية والشخصيات المتحركة، فقد بدأت مقاطع الوقفة في الانخفاض الحاد منذ المجموعة الخامسة «مهمة غير عادية» «65» مقطعا لتستمر فيه بعد ذلك، دون العودة للعدد الكثير من المقاطع التي ظهرت في المجموعات الثلاث الأولى حيث كانت «118، 92، 121» على الترتيب، في حين جاءت في آخر مجموعة «72» مقطعا وهي ظاهرة مهمة تشير إلى سير السرد نحو الاهتمام بالأحداث الواقعية والاهتمام بالحركة وتطور الحدث وحركة الشخصيات أكثر من العناية بتحليل جوانيات الشخصيات ووصف الأماكن.

          ومن نماذج الوصف من قصة «سحابة الغبار»: «هذا المخلوق الضئيل... امرأة تحمل طفلها.. امرأة ذات وجه نحيل تبدو عظامه من خلف طبقة رقيقة من الجلد الشاحب الذي يتكرمش حول العينين والفم، وتلمع فيه عينان محمرتان كأنها لم تبصر بهما شيئا مفرحا، تكاد تطرف إحدى العينين دائما كأن خطرا ما يهدده باستمرار.....».

          وعن التحليل النفسي فهو ملعب واسع لمهارات أبوالنجا التي عرف بها منذ مجموعته الأولى، ذلك أن البطء السردي وما صاحبه من جدل نظري طويل النفس، إنما تدعمه تلك القدرة النادرة للكاتب على تحليل نفسيات شخصياته، وهو ما يمنح القصص ثراء فكريا واجتماعيا يقلل من حدة الغلبة الفكرية التي تملأ جنبات قصصه المثقلة بالأفكار.

          من إحدى قصصه المواكبة لنكسة يونيو 1967، التي حاول من خلال تحليل نفسية الشخصية أن يحلل نفسية المجتمع آنذاك وهواجسه في قصة «أصوات في الليل».

          «أحس كأن صوته محتجز...... يحاول أن ينادي، لكن أحدا لا يسمعه.... هو وحده الذي يسمع، الأصوات في الصالة تزداد وضوحا وثقة وهدوءا،... كيف لا تصحو زوجته بعد كل هذه الأصوات؟ لعله تعب النهار! لم يتصور أن يكون للتعب مثل هذه المكرمة! لو سمعت مثل هذه الأصوات! لو عاشت هذه الهواجس! ربما لدفعها الخوف إلى الحماقة أو الثقة إلى ما لا يدري من السلوك الطائش! هل يداخله شك في أنه أحد أبنائه - كيف يوضح لها أو للأولاد ما لا يمكن أن توضحه الكلمات وحدها - وحتى لو تركه اللصوص يفعل ذلك... فكيف يفهمهم أن وجوده، مجرد وجوده، أهم من كل شيء يمكن أن يخسروه... كيف يفهمهم ثم يبقى أبا مسموع الكلمة مستحقا لاحترام أولاده وحبهم.... كيف يقول لهم إن أعظم شيء يمكن أن يفعلوه في هذه الليلة أن يظلوا نائمين حتى ينقذهم ضوء الصباح!».

المشهد ورحلة التطور

          المشهد Scene بدا هزيلا في القصص الأولى والمجموعات المتقدمة، فقد جاء في المجموعة الأولى «فتاة في المدينة» في «29» مشهدا فقط في الوقت الذي ضمت فيه «118» مقطعا للوقفة، وهو ما يؤكد البداية المحتفية بالتحليل والوصف والمستهينة بالديناميكية والحيوية، الأمر الذي تغير تدريجيا، حتى ينقلب الوضع بدءا من المجموعة الرابعة «الوهم والحقيقة» والتي تعد الخط الفاصل بين الطريقتين وفيها يقتربان جدا، فالوقفة «87» والمشهد «88» كانا تمهيدا لتفوق المشهد بعد ذلك في «مهمة غير عادية» و«الزعيم».

          في المجموعة الثامنة «في هذا الصباح»:

          - سلمى ماذا بك؟ - لا شيء.

          - غير صحيح أنه لا شيء لكن إذا كنت لا تريدين الكلام فأنا لا أملك إجبارك عليه.

          - أنت تعرف أنني لا أخفي شيئا، لكن ربما كان الأمر لا يستحق فهي مسألة شخصية... وقد تتهمني بالطفولة.

          - بالنسبة لك الطفولة ليست تهمة.

ظهور متفاوت للملخص

          الملخص Summary جاء من حيث الكثافة ثانيا بعد الوقفة مثله «501» مشهد في مجموع القصص، كانت المجموعة الثامنة هي الأكثر توظيفا له «91» مقطعا، وأقلها الزعيم «37» مقطعا للتلخيص، وهي كثافة تناسب فن القصة القصيرة، حيث يتيح التقديم واختصار الزمن الطويل بأحداثه في مساحة نصية صغيرة.

          وقام أبوالنجا في إحدى قصصه المهمة التي امتدت في مدى زمني ونصي طويلين، استغرق الأول حياة الشخصية من المهد إلى اللحد، واستغرق الآخر ست عشرة صفحة. وعبر هذه المراحل المتفاوتة لحياة الشخصية وأحداثها المختلفة يجد الملخص أرضه الخصبة. ليربط هذه المراحل ويقدم للأحداث ويعقب عليها أيضا.

          ومن القصة المقصودة السيد م م م وحكايته مع الوجه الذي لا يتغير نطالع «أصبح السيد م م م الدكتور م م م وعلاقة الحب أصبحت علاقة زواج، وتوقف طموح الزوجة قبيل الماجستير بسبب الأجور المرتفعة لدور الحضانات في أوربا، والأجور المنخفضة لأعضاء البعثات في مصر........» فالمقطع قد اختزل فترات طويلة من حياة الشخصية في مساحة نصية صغيرة.

          قصص أبوالمعاطي أبوالنجا هي نموذج للتحول من قصة الفكرة في البدايات - والتي اعتبرت معظمها أفكارا أو مقالات فكرية وضعها الكاتب في صورة قصص - إلى الديناميكية والحركة والحوار، وتقدم المشهد إلى صدارة الحركات السردية على حساب الوقفة التي ازدهرت في النصف الأول من المجموعات، حيث جنحت الوقفة إلى التوقف عن هيمنتها، وهو تحول يمكن القول أمامه: إنه من قصص الفكرة الطاغية على الفن إلى قصص الحركة والتدفق والسيولة السردية.

------------------------------------

كَأننا عشرونَ مستحيلْ
في اللّد، والرملةِ، والجَليلْ
هُنا.. على صدوركُم، باقونَ كالجدارْ
وفي حُلوقِكُم كقطعةِ الزّجاجِ، كالصَّبارْ
وفي عيونكُم زوبعةٌ من نارْ
هنا.. على صدورِكُم، باقونَ كالجدارْ
نُنظفُ الصحون في الحاناتْ
ونملأُ الكئوسَ للساداتْ
ونمسحُ البلاطَ في المطابخِ السوداءْ
حتى نسلّ لقمةَ الصغارِ
مِنْ بينِ أنيابِكُم الزرقاءْ
هنا على صدورِكُم باقونَ كالجدارْ
نجوعُ.. نعرَى.. نتحدَّى.. نُنشِدُ الأشعارْ
ونَملأُ الشوارعَ الغِضابَ بالمظاهراتْ
ونملأُ السجونَ كبرياءْ
ونصنعُ الأطفالَ.. جيلاً ثائرًا.. وراءَ جيلْ
كأنّنا عشرونَ مستحيلْ

توفيق زياد

 

محمد أبو السعود