قصص على الهواء

 قصص على الهواء
        

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص?
-------------------------------------------

          تواصلت مع النصوص القصصية القصيرة المرشحة لمسابقة «قصص على الهواء»، وبعد القراءة وإمعان النظر في مُجملها، تبيّن لي ما يلي:

          أولًا: أنها نصوص قصصية تطلّق المفهوم التقليدي المتعارف عليه جماليًا في كتابة القصة.

          ثانيًا: كونها تراهن على بعض التجريب النصّي وتستقدم موضوع العُزْلة بامتياز.

          ثالثًا : احتفاء بعض القصص بالعجائبي (الفانتاستيكي).

          عمومًا، النصوص الخمسة المختارة تكاد تتناصّ وتنهض بينها حوارية غير معلنة، إضافة إلى سيادة ملفوظٍ مُسند إلى ضمير المتكلم، مما يُضفي على الكتابة القصصية سرْديًا طابع الوحدة مع الاختلاف من جهة، ويقود إلى الاقتناع بأن الناظم المشترك هو النزوع إلى الذات، باعتبارها بوصلة للتخيل والرؤية إلى العالم من جهة أخرى: إنها سِمةٌ أنطلوجية تقرب الكتابة القصصية، من خلال هذه النماذج المختارة، من الكتابة الشعرية في العالم العربي، فتعيد إلى الواجهة سؤال الذات والكتابة، بعيدًا عن التجريب الشكلي لمجرّد التجريب، كما شهدناه على مدى عدة عقود، ونشهده الآن من خلال تقريب هذا التجريب من تكسير الحدود بين القصة وغيرها من الأجناس الأدبية الأخرى، وجعل اللغة إطارًا لذلك.

          بناءً على هذا، أرشح وأرجّح كفّة النصوص الخمسة التالية:

  • نصّ «إجهاض» فليحة حسن - العراق

          لما يجسّده النصّ من أفق تجريبي متماسك في اختيار التيمة العجائبية دون إفراط في تمثل العالم المتخيل، وتأتي كتابة هذا النص محكومة بإيقاع لغوي يلتقط التفاصيل ويربط بينها في تسلسل محكمٍ، لا تفاوت بين عناصره السردية والوصفية وغيرها في تشييد المتخيل كمادة مستوحاة من تفاصيل الذات والذاكرة.

  • نص «الغفوة» د. علاء عبدالمنعم إبراهيم مصر

          وذلك لتماسكه وسلاسة اللغة فيه، ورُجحان المتخيل، إضافة إلى متانة الأسلوب وأبعاده البلاغية التي تراعي هوية اللغة العربية أدبيًا وجماليًا، من حيث صياغة الاستعارات والمجازات والتشابيه المستدرجة، دون سقوط في مجانية السّبك الشكلي وحدها دون وازع.

  • نص «حقيقة» أحمد عبد الله خطاب - مصر.

          وذلك لما يمثله من رمزية موضوعاتية في العلاقة المفترضة بين الذوات والكون، كل هذا ضمن تماسك أسلوبي في التعبير والصياغة أيضًا على غرار النص السابق، مع مراعاة خصوصية اللغة العربية أيضًا، وما تتطلبه الكتابة الأدبية من حرص جمالي على نبل هذه اللغة وعدم السقوط في الحشو التجريبي المنفّر للذوق والقراءة والتلقي، وفتح أبواب التأويل الرمزي لمضمون النصّ، وهو الأساس.

  • نصّ «مرآة مسطحة» وجيهة عبدالرحمن سعيد - سورية

          لما يشخصه من كثافة نصّية نموذجية، أساسها الرحيل في عالم متوهّم، لكنه يظلّ مرتبطًا بالواقع من خلال أبعاده المادية، ثم إنه نص له «فلسفة»  في تصور الذات والعالم والصراع الأبدي بين الإنسان وما يتهدده من مَحْوٍ لايتوقف، لكنه محكوم بالتوازن ليحقق كينونته.

  • نصّ «يوم ولد جدّي» د. عبدالعزيز بندق - مصر

          وذلك لما يوفّره من عناصر  رمزية في تمثل العالم، أساسها الذات البشرية وهي تحيا وتتحرك وتعي ما حولها. كل ذلك في نوع من التوزع بين الواقعي والعجائبي ومراعاة التوازن بينهما أيضًا.

----------------------------
إجهاض
فليحة حسن - العراق

          بمجرد شعوري بغثيان وعدم قدرة على تحمل الروائح المألوفة إلى أنفي أيقنت أنه قد تكوّنَ في داخلي، أقلقني هذا الأمر كثيرًا ولم أفكر إلا في كيفية التخلص منه فكيف لي وأنا المعيلة لهم أن أضيف فمًا سادسًا للأفواه التي أكدُّ في سبيل حصولها على ما تأكله؟ استجمعت شجاعة  لم آلفها بي ورحت وبمجرد سماحها لي بالدخول والجلوس على كرسي قريب من مكتبها أحكي لها وبلغة مبتلّة بالدموع كيف أنه قد حدث على سهوة منّا وإني لا أقدر إلا أن أضحي به كيما يستمر إخوته في العيش، لم ترضَ في بادئ الأمر ولكن معرفتها بحالي وسوئه جعلها تتلفتُ يمينًا ويسارًا وهي تسحب درج مكتبها وتهمس لي:

          - اسمعي صديقتي ابتلعي من هذه الحبوب حبتين أربع مرات يوميا ولا تخبري أحدا بذلك مطلقًا، والآن أكملي تنظيف المكتب قبل أن يحضر المرضى. بسرعة كبيرة اختطفت الحبوب، واستكملت التنظيف ودموعي لا تتوقف.

          مرت ثلاثة أيام وأنا أتجرع الحبوب ولم يحدث شيء سوى ألم بسيط احتل ظهري، في اليوم الرابع أضفتُ الى وجبات الدواء اليومية كوبين أحدهما من القهوة المرّة وآخر من الحناء السائلة، ولأنني أعلم أن للحركة دورًا كبيرًا فيما عزمت عليه صرت أصعد السلم عشرات المرات يوميًا وطلبتُ من أثقل بناتي وزنًا أن تعتلي ظهري، وحين كان يغيب الجميع كنتُ اهرع الى قنينة الغاز في المطبخ وارفعها مرارًا.

          في الساعة التاسعة ليلًا بالتحديد، من اليوم الخامس، شعرت بازدياد الألم وتوزعه في جميع أجزاء جسدي وبازدياد الألم صرت أعض على أصابعي وأكتم آهات عدة.

          لم تتجاوز الساعة التاسعة والنصف ليلًا حتى أيقنتُ تمامًا أن ما سعيتُ له تحقق، لم ألتفت الى من كان يشاطرني الجلوس في الغرفة حين رميتُ بالغطاء وركضت يحملني الألم إلى الحمام وقبل أن تمتد يدي لإغلاق الباب شعرتُ بانسيابه سائلًا مني وقد غطى الأرض.

          بعد برهة فتحتْ الباب وشعرتُ بوجود جسد طويل يحمل بيده رمحًا استلها ليغرسها في كتفي الأيسر، سقطتُ، اجتمع كل من كان في البيت وأعني عائلتي وحملوني إلى هناك.

          بوضوح تام كنتُ اسمعهم غير أنني فقدتُ حينها قدرتي على الكلام أدخلوني الى قاعة  كبيرة لا يشوب جدرانها وسقفها الأبيض لون آخر. دخلتْ فتاة ذات ملامح فائقة الجمال عشرينية تتسربل بثوب أبيض طويل تحمل بيدها سيفًا اقتربتْ من جمعنا وصارت تقطع الرأس تلو الآخر دون أن تسيل منه نقطة دم، صرتُ ارتجف هلعًا وأنزوي بين الجموع.

          اقتربتْ مني ونظرتْ إليّ باستغراب لتقول:

          - ما اسمك؟

          -  أجبتها: صديقة بنت خديجة.

          - لست أنتِ  ورفعتْ السيف الى الأعلى وهوتْ به على كفي الأيمن، تلوّيتُ ألمًا.

          صَرَختْ فيهم: أخرجوها،  فسحبتني قوة الى الخارج، استدرتُ الى الوراء فرأيتُ اثنين لم أتبين ملامحهما، عدوت بسرعة فوجدت نفسي في مقبرة، كان الجميع منشغلًا بموتاه بين الحمل والحفر والدفن.

          من صمت المقبرة الذي لا تشوبه سوى معاول الحفر تسلل الى أذني صوت أحدهم وهو يحث زميله على إكمال حفر القبرين بسرعة .

          بعين كادتْ أن تخرج حدقتها هلعًا نظرتُ إلى اسمي مدونًا على شاهدة الى جانب الحفرتين....

          لحظة من فضلكم.

          أرجو أن تنسوا كل ما قصّته عليكم أمي واسمحوا لي أن أقص عليكم ما حدث فعلًا لأنني ببساطة الراوي العليم الوحيد في هذه القصة.

          نعم أمي حاولتْ أن تنزلني قسرًا من هناك، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل الذريع، صحيح إنني وأنا المعلق رأسًا على عقب بحبلي السري كنتُ أتعرض ولمدة أيام لهزات عنيفة، إلا أنني كثيرًا ما كنت ألوذ بركن ذلك المكان الدافئ ممنيًا نفسي بالحصول على هدوء قادم بعدها.

          وحين شعرتُ بوصول مذاق سيئ ممزوج بالمرارة من حبلي السري مددتُ كفايّ وضغطت بهما على الحبل فحال الضغط دون دخول ذلك المذاق مرة أخرى.

          نعم، أؤكد لكم أنني خرجتُ من هناك مكتملًا بعد مرور تسعة أشهر وتسعة أيام وتسع دقائق وتسع ثوانٍٍ، ولديّ دليل على مصداقية كلامي يكمن في شخص القابلة التي أخرجتني بسحبي من رأسي أولًا بكلتا يديها، ورفعي الى الأعلى بيد واحدة من قدميّ، فلا أنسى يومها كيف أخذت تتفحص ملامح وجهي بنظرات غريبة متكهنة بما سأصير إليه.

          - ستغدو قاصًا، وأنا أدعوكم الى الدخول إلى بؤرة الحكي لتتعرفوا عليها فهي طبعًا موجودة ضمن شخصيات القصة.

          نعم لقد جئتُ مكتملًا وعشتُ حياة طويلة، وهأنذا أروي لكم ما حدث فعلًا وإلا كيف لامرأة بسيطة مثل أمي أن تكتب قصة كهذه تتداخل فيها الأزمنة ويصعب على متلقٍ واعٍ أن يعرف بها أيّنا كان البطل؟!

----------------------------
الغَفْوَةُ
علاء عبد المنعم إبراهيم - القاهرة

          كان الشَّارع شديد العتَمة، لا أرى أحدًا غيري يقاوم الهواء البارد و يشقه نصفين، لحظاتٌ قضيتُها أعبث بقدمي في وجه الحجر البُنّي الأملس قبل أن أقذفه بمُقدَّمة حذائي المخروم ليصطدم بالجسد العاري لعمود الإنارة المُطْفأ، مُحدِثًا صوتًا خدش حياء الصَّمتِ القابع في المكان حولي، لحظاتٌ وقفتُ فيها ساكنًا بلا حراك، بلا سبب مفهوم، أنْظرُ إلى أرضية الشَّارع التي ترتعش و هي تسْتقبل قطرة الماء الثَّقيلة بفرحة المُنْتظِر بشارة الموت بعد أنين طويل، تفْتحُ لها ذراعيها المُتربين، أريحيني من عناء حَمْلِ هذا اللعين فوقي، امْتزِجِي بي لأصير طِينًا فتتساوى الرُؤُوس، أرض الشَّارع رخوة، بَرَكُ الماء الصغيرة تعكس بقايا أشعة قمرية تسرَّبتْ من بين الغَمام المُنصرِم.

          أحسُ بحركة بطيئة خلف الكشك الأبيض على بعد خطوات، أشمُ رائحة الحياة مُنبعِثة من هناك، قررتُ ألا أقترب، خفقةٌ سرتْ في جسدي ارتعَشَ معها الجزءُ المُتورَّم أسفل عيني، وضعتُ يدي عليه و أنا أقتربُ من الكشك المُثْخَن بقطرات المطر الحادة.

          أجثو على ركبتي، مُحدّقًا في الملامح الخارجية للجسد المُسجى على الأرض، الملفوفِ في غُلالة حريرية رقيقة،  أرفعُ الغطاء الأسود الشفيف، أرْقبُ الوجه المنحوت بدقة، أتفرسُ لونه شديد البياض، ألْحظُ العينين عميقتين بلا أحداق، وشفتين لامعتين باللون الذهبي البارز، أتحسسُ مكان الأنف الخالي بلا خجلٍ، أمدُ يدي الخشنة إلى الرقبة الملْساء الطويلة، تُوْقفُ مسيرة يدي تفاحةُ آدم، أتلمسُ بروزها الرائق، أودُ لو أقْتطفُها لأتذوق حلاوتها كما فعل أبي القديم.

          فجأة يشق الخطُّ الأزرق اللامع وجه السَّماء الّذي كان قد بدا صافيًا، تسري الروحُ في الجسد النائم، ينهضُ من غفْوته، يعود البريق إلى عينيها وإن ظلا بلا أحداقٍ، ولكني لا أتراجع، أظلُ قابضًا على التفاحة، أواصل تحسسي للجِيد الناعم، تُمْسكُ يدي الباردة برفقٍ، تمررُها بين النَّهْديْنِ البارِزيْنِ اللذين كشفتْ عنهما، أملسين، دافئين، يدي تتصلَّب عند النتوء الصغير، أشعرُ بقطرات الماء الأبيض الحلو تملأ كفي، أنظر إليها بلا دهشة، تنهضُ واقفة دون أن تزيح يدي التي انزلقتْ على جانب جسدها الأيمن فتوزعتْ الحبَّاتُ البيْضاء اللامعة عليه قبل أن تستقر فوق مُقدَّمة ساقها الصغيرة.

          بدَتْ أكثر طولاً مما ظننتُ، رقبتي مشدودةٌ إلى وجهها المُختفِي، وعيناي مُعلقتان بحديقتها كثيفة الأشجار والثمار، مالتْ عليَّ بشدّة فلامستْ جدائلُها المُنسدِلة أذني المُتدلّية، أشمُ ريحها النافذ بأنفي المعقوق، أمدُّ يدي إلى رقبتها مُجددًا، تبتعد قليلاً، أكرّرُ المحاولة، تصفعني بيدها الرقيقة، أعبثُ بإصبعي في النتوْءينِ الصّغيرينِ، أبحث في كفي عن القطرات البيضاء، فلا أجدها، ألهو بذقْني في الفخْذين الثريين، ألثمُ بفمي الجروح المُندملة أسفل البطن، أشعر بروحها تنسحب من المكان، لا أزال ألثم، أشعر بالوهن يغزو جسدي، لا أزال أقاوم، أسقط على الأرض المُوحلة و قد تبلّل شعري المُجعَّد بالماء العكر، أصارع الغفْوة، أشد جفوني بيدي كي لا ترْتخي، ألمحُ ظلها وهي تستدير باتجاه النجم اللامع في نهاية السًّقف الأزرق الصًّافي، أسعى للنهوض، أحاول، أسقط في المرات الثلاث، ذقني يلامس الطّين المُبلَّل، وعيني تتعلق بها و قد استحالت طاقة نور ترفل أمامي وهي تَبْسمُ لي، يتلاشى طيفها، أقذف بوجهي إلى داخل بركة الماء، يختلط ماء الشارع العكر بينابيع عيني المنهمرة، أظل أبكي بلا توقف و أنا أترنمُ باسمها المجهول.

----------------------------
حقيقة
أحمد عبدالله خطاب - الإسكندرية

          تبدأ غشاوة النوم في الزوال عن عقلي تدريجياً، من الواضح أنني الآن في الطريق إلي الاستيقاظ ، أعب الهواء إلي رئتي فأجده هواءً بارداً بفعل التكييف الذي لا يتوقف عن الأزيز المزعج لبعض البشر و المحبب إلى نفسي  ، أفتح عيني لازماً السكون النسبي على الفراش متأملاً فيما حولي مما هو في مجال رؤيتي ، أرى من موقعي الراقد على جانبي الأيمن في ضوء الوناسة الخافت المنضدة عليها هاتفي المحمول و علبة سجائري والولاعة السخان الجديدة ، أحس فجأة بزفير ساخن يهب على ظهري العاري ، أتململ في الفراش قليلاً فاسمع ضحكة عذبة خافتة قائلة "هو أنا صحيتك و لا إيه يا حبيبي ؟؟" ألازم الصمت بينما أحس بيدها تزحف على ظهري العاري ممتدة إلى صدري ثم تضمني إلي جسدها فأحس بملمس جسدٍ غريب بارد من فعل التكييف- يلامس ظهري فأحس بقشعريرة تسري خلال جسدي العاري ، أبدأ الآن في التذكر أنني في شهر العسل فتقل ضربات قلبي الخافقة بشدة بفعل الجسد العاري الملتصق بي ، أتذكر حبيبتي الغالية ، حبيبتي العزيزة ، حبيبتي فقط كما أحببت أن أناديها دائماً ، أتذكرها و أتذكر أيام عشقي لها ،  تلك الأيام التي بدأت منذ سنوات عديدة ، العشق الصبي البريء ، النظرات المتبادلة ، الكلمات الخجولة القليلة المتبادلة ، يوم المصارحة بالحب ، ذلك اليوم الذي لن يمحى من ذاكرتي ما حييت ، أتذكر يوم أمسكت يدها للمرة الأولى واضعاً خاتم الخطوبة في يدها ، أتذكر محادثاتنا الهاتفية المطولة الهامسة بما يجود به قلبانا من عشق متبادل ، أتذكر أيام الشجار و الخصام و التي كانت دائماً ما تنتهي بالصلح إما بهدية مني إن كنت أنا المخطئ أو بقبلة خاطفة على رأسي منها إن كانت هي المخطئة ، أغمض عيني اللتان بدئتا تعتادان الضوء الخافت ، أغمضهما مستحضراً وجهها الأبيض الحليبي بوجنتيها الحمراوات الممتلئتان ، أستحضر ابتسامتها المزينة بغمازتين شقيتين رقيقتين طالما تمنيت أن أطبع قبلة حانية عليهما ، استحضر عينيها الدامعتين لحظات الغضب و اللتان كانت تكفيني نظرة واحدة إليهما حتى أسامحها حتى لو ارتكبت خطايا العالم السفلي أجمع ، افتح عيني إثر مداعبة شريكة فراشي الرقيقة رقبتي بشفتيها البضتين مقبلة إياي قبلات بطيئة متتابعة ثم تهمس بكلمة " أحبك" في أذني مقبلة إياها ، أحس بخصلات شعرها على أطراف شفتي ملامساً أنفي فأستنشق عطره الفواح ، أمد يدي ممسكاً إياها من خصرها العاري البض رافعاً إياها متظاهراً بالقوة ثم واضعاً إياها نصب عيني و ضحكاتها الشقية تصدح إثر رفعتي تلك ، أتأمل وجه حبيبتي فلا أراه ، كل ما استطعت رؤيته هو وجه زوجتي.

----------------------------
مرآة مسطَّحة
وجيهة عبد الرحمن سعيد - سوريا

          لعلَّك فقدت بهجة الحدث وأنت تحاول التقاط المألوف في لوحة الفسيفساء أمامك، قد تراودك أفكار جمَّة عن هول المصاب وأنت تجوب بقدميك الكبيرتين أرجاء المعمورة، تفتش عمن يشبهونك في منمنمات اللوحة المفروشة أمامك على بساط الوقت الذي دهمك، بينما كنت تحصي أيامك المنصرمة.

          ربما يخونك حدسك في ترتيبك بين الأموات على أنَّك ما  زلت رقماً أجرد بين الأرقام، فلم تتطفَّل على يمينك أو يسارك أشنيات الأعداد المتراصة على مرآتك، بينما تحدِّق في وجهك باحثاً عن تفاصيلك.

          هل تشبهك صورتك في المرآة، أم إنَّها خائنة كالميموزا الجميلة، تبهجك ألوانها وتنفرك رائحة الحدث في غمرة اللون.

          مشيت بصندل من جلد الماعز، قافزاً  كماهُ، طاوياً هندسة الحجر، لتصل بظلك عنق المتاهة المؤدية إلى قمة الصواب، حيث تستلقيك النسور ببياضها الواهم جدول الفرضيات.

          لم تجلب لك المتاهة سوى الضياع المستغيث، غبَّ البحث اللامتوازن عن ذات دفنت فيها صمتك.

          لم تكن ضائعاً حينهاً، بل كنت تنبش بأظافرك عما هو غريب عنك، وأثار دهشتك، تتسمر طويلاً أمام الحدث، فاغراً فمك وكأنَّ كل ماتراه لم يكن منذ أمد بعيد، ولكنَّه درج الآن على جدول أعمال الباحثين عن منافذ لكل جديد، يفتحون له الأبواب على مصاريعها.

          ترى نساء عاريات صدورهنَّ، كاشفات عن أفخاذهنَّ للريح، تلتفت فتلتقي بنظرك شباناً في عمر الزوابع، وقد تلونت رؤوسهم وتدلت من أعناقهم حلية ما كانت لتليق بهم كرجال، وأنت الذي تعرف كل شيء عن الرجولة في زمانك، عن زنود مفتولة وشوارب طويلة تخفي الشفتين الناطقتين بالإرث المسكون خفايا أبدانهم. 

          ثمَّ تتقدم بضع خطوات لتدهشك ألعاب الأطفال التي هجرتها البراءة، فإما تراهم يقلِّدون الكبار في سيرهم أو إنهم ما عادوا عجينة الذرة بين الأكف، تحولها كيفما تشاء. كل ذلك أثار تساؤلاتك وحفيظتك، لتنتعل الصندل الذي من جلد الماعز المعزول عن قطيعه.

          واضعاً إرثك وكلُّ تبقى منك في تفسير الظواهر التي تنبأت بها التمائم، والتي تم الاستدلال على بياناتها على أنها ضرب من العولمة.

          ربما ستمضي طويلاً في بحثك الشائك عن تفاصيلك في مرآة الزمن الهارب بساقيه الطويلتين، مخترقاً متاهات ودروباً ضيقة.

          ما كنت لتذهب أبعد مما ذهبت في توغلك في حقل الشوك، تدهسه بصندلك الذي من جلد الماعز، لئلا تشعر بانغراز الشوك في باطن قدميك.

          أَ لأنّك تؤمن بمستقبل ينجز ذاته من اجترار ماضيه، أم لأنَّك ما زلت تدَّخر إرثك العتيق عن امرئ لا بدَّ له من أن يظلَّ قابعاً عنق القارورة، لا يخرج منها خشية الانزلاق على منحدر الاحتمالات، فيضرب أخماسه بأسداسه، ولا يحصل على نتيجة من عملياته الحسابية المتكررة.

          ماذا لو قنعت بالذي يحدث وأسدلت جفنيك ستارة وردية لعينيك، فتعتريك الراحة الأبدية، بأن كل ما تراه سيحدث وإنَّ تلك العجلة ستدور مهما طويت رايات الاستسلام في جعبتك وأخفيتها.

          ألا يجدر بك أن تكون ممن يشاركون في دفع العجلة بما يتناسب مع مفاهيم شكلتها خلال رحلتك الطويلة وعمرك الوهمي.

          لا تعد أدراجك، واصل مسيرتك ....

          وهكذا بعد أن واجهَ صوتُهُ الخفي في أعماقه وهو واقفٌ أمام المرآة يحدِّث ذاته، ويحاور روحه، كان عليه أن يبتسم ليقول همساً:

          ولكنني ما زلت أتنفس، أنا هنا.

          ومن ثمَّ استدار لتلفظ المرآة وجهه، ليلتقي ظهر محدِّثه في المرآة بظهره، واندفع خارجاً، واضعاً لعينيه عدستين أخريين تضعان الأمور في نصابها.

----------------------------
يوم وُلد جدّي
عبد العزيز بندق - مصر

          عندما جدّة أبي ولدتْ جدّي يومها كنتُ صغيراً .. أعطتني أمي بيضة دجاجة لكي أبيعها واشتري بثمنها سكّيناً يقطعون به سرّة جدي .. انطلقتُ اعدو نحو سوق البلدة,  ولكن في الطريق انزلقت تلك البيضة من يدي وسقطتْ على الأرض فانكسرت وخرج منها كتكوت الذي انطلق من فوره هارباً فانطلقتُ وراءه محاولاً الامساك به,  أخذ يبتعد شيئاً فشيئاً متجهاً ناحية البحر وأنا أجري خلفه بكل ما أوتيتُ من خفة .. عندما رأيته يركب عباب البحر سابحاً بمهارة فائقة نزعتُ رأسي وقلبي وتركتهما على الشاطئ بعد أن أوصيتُ كل منهما بحراسة الآخر ريثما أعود .. أخذتُ اسبح وراء الكتكوت وأطارده حتى قطعنا سبعة بحار , عندما اجتزنا البحر السابع أمسكتُ به , وهناك شاهدتُ شيئاً عجيباً وذلك أن الناس في هذه الناحية من الدنيا يركبون ظهور الكتاكيت ويحملون عليها أمتعتهم .. تقدم مني أحد سكان هذا البلد وسألني إن كنت أُريد أن أضع على ظهر الكتكوت " حويّة " أم " بردعة " فأجبته على الفور بأني أريد بردعة لأن كتكوتي لا يملك سنام .. فناولني بردعة جميلة تليق بظهور الكتاكيت .. وفي الحال ربطتُ البردعة جيّداً على ظهر الكتكوت وأخذتُ أحمل عليه أمتعة أُولئك الناس الذين لا يملكون كتاكيت واتقاضى أجرة مقابل ذلك في سبيل تأمين لقمة العيش .

          لم استطع أن امكث طويلاً في تلك الأرض الغريبة ففي أحد الأيام ولم تكن الشمس قد اشرقت بعد حملتُ ذلك الكتكوت ورجعت ادراجي نحو بلادي .. بعد أن اجتزت تلك البحار السبعة وجدتُ رأسي وقلبي في انتظاري فألصقت كل منهما في مكانه واتجهتُ نحو سوق البلدة وفي الطريق خاطبني الكتكوت قائلاً:  أرجوك الاّ تبيعني بأقل من خمسين ديناراً .. ذُهلتُ من هذه المفاجأة ثم قلتُ له:  عجباً كيف أرى كتكوتاً يتكلم .. وهنا قال لي : ليس عجيباً فإنه سوف يأتي في آخر الزمان من يجعل حصاناً يتكلم مع فارسه أحياناً ثم يتحدث عن الانجازات التي يقوم بها أحياناً أخرى , كما سوف يأتي من يجعل جثة تتكلم عندما يقابلها رجل في أعماق النهر وكان يبحث عن عزيز له فُقد على اليابسة منذ أيام فقد أخذ يسأل تلك الجثة عن مصير هذا المفقود وهي تجيبه بما تعرفه .. بل أكثر من ذلك فقد جاء قبل هذا من جعل صاحب صورة في اطار معلقة على جدار غرفة جعله يخرج من ذلك الاطار ويترجّل على أرضية الغرفة يخاطب الناس والدم الغزير ينزف من جسده .. ثم أضاف قائلاً : أمّا أنت فليس بإمكان أحد أن يضاهيك فيما ذهبت إليه فقد تفوّقتَ على الجميع بهذا السرد البديع .

          شكرتُ الكتكوت على تلك المعلومات القيّمة ثم عرضته للبيع فاشتراه مني أحدهم بثمن زهيد الاّ أنه كان كافياً لشراء سكين .. فرحتُ كثيراً بهذا الانجاز العظيم واتجهتُ نحو بيت جدة أبي .. في الطريق استوقفني أحد المارّة وكان يحمل بطيخة على كتفه وطلب مني أن أُعيره السكين لبعض الوقت حتى يقوم بشق تلك البطيخة الاّ أنه عندما شرع في شقها غاص السكين داخلها واختفى , فكان يتعيّن عليّ أن أنزل في جوف البطيخة لأبحث عن السكين المفقود .. بعد أيام قليلة من البحث قابلتُ رجلاً غريباً داخل تلك البطيخة فسألني عن ضالتي..  ضحك مني كثيراً عندما أخبرته بأني أبحث عن سكين وقال لي : مسكين أنت أيها الطفل فأنا منذ ثلاثة أشهر أبحث عن بعير على ظهره هودج ولم أعثر عليه حتى هذه الساعة .

          بعد زمن لم يدم طويلاً عثرتُ على السكين فحملته وخرجتُ من البطيخة .. اتجهتُ إلى بيت العائلة لأجد الجميع هناك في انتظاري .

          تقدمتُ نحو أمي وناولتها السكين والتي بدورها ناولته للقابلة التي كانت تقف على بعد خطوات فقامت بقطع سرّة جدّي ثم رقص الجميع وغنّوا حتى غروب شمس ذلك اليوم الذي سوف يأتي بعد قرن من الزمان.
--------------------------------
* باحث وناقد من المغرب.

 

 

بشير القمري*