زكي نجيب محمود:
المشهد الأخير
بقلم: الدكتور فؤاد زكريا
لم أتردد لحظة واحدة حين اعتزمت الكتابة عن أستاذي الكبير زكي نجيب محمود، في اختيار المحور الذي يدور حوله حديثي عن هذا الرائد العظيم، فقد جاء نبأ وفاته مصحوبا بصورة أليمة رويت عن الرجل في أيامه الأخيرة، إذ بكى بمرارة حين سمع بأنباء الأحداث الإرهابية التي ارتكبها بعض المتطرفين، والتي راح ضحيتها كثير من الأبرياء.
ظلت هذه الصورة تلح على ذهني منذ أن قرأت نبأها في الصحف، ذلك لأن بكاء مفكر كبير في لحظاته الأخيرة ليس مثل كل بكاء، لقد اعتدنا أن نربط البكاء بالضعف البشري، وأن نراه عند الرجال على الأقل مظهرا من مظاهر التداعي أو الانهيار الذي يطرأ حتى على أقوى الرجال في لحظات معينة، ومن ثم فهو أمر يستحق منا التسامح والغفران، ومن ناحية أخرى فليس من المستغرب في حالة إنسان يقف على أعتاب الموت، أن يبكي لأي سبب أو بلا سبب، بعد أن تنهار لديه كل قدرة على المقاومة، وتسقط حواجز الصلابة والتماسك التي كان يحتمي بها طوال حياته، ومع ذلك فإن المشهد في هذه المرة لم يكن ينتمي إلى هذه الفئة أو تلك.
بكاء القضية
لم يكن فقيدنا يبكي لأمر يتعلق بشخصه أو بضعفه، أو حتى بلحظة النهاية التي يعلم أنه يمر بها، وإنما كان يبكي من أجل "قضية".
كان، حتى في أضعف لحظات حياته ينحي نفسه جانبا، ويتجاوز ما هو "خاص" لكي يفكر في وضع عام لشعبه وأمته، كان فيلسوفا حتى اللحظة الأخيرة، لأنك - أيها القارئ العزيز - لو سألت واحدا من أهل الفلسفة عن السمة المميزة للفيلسوف، لأجابك بأنه ذلك الذي لا يتوقف عند المظاهر الجزئية أو الأحداث الفردية، وإنما يبحث من ورائها عما هو عام، كلي مشترك، وحين يكون المرء فيلسوفا بحق، فإنه لا يعبر عن هذه السمة في كتبه وأبحاثه ومحاوراته فحسب، وإنما يتخذ منها منهجا للتفكير طوال حياته، وأسلوبا للنظر حتى في الأمور اليومية التي لا يرى الإنسان العادي فيها إلا ما يمسك شخصه فحسب.
لقد بكى أستاذنا في لحظاته الأخيرة من أجل قضية عامة، هي تلك الأوضاع المؤسفة التي فرضتها فئة من الناس تزعم أنها تبتغي نقل المجتمع من حال إلى حال، وتدعي أن جماهير الناس تساندها فيما تبتغيه، ومع ذلك فهي تختار من أجل تحقيق أهدافها وسائل لا بد أن تنفر الناس منها، وتبعد الجماهير عن مساندتها، ففي تلك الأوضاع التي تفرضها هذه الفئة تزهق أرواح كثيرة، وتشوه أجساد أكثر، معظمها لأناس أبرياء، وفي هذا ما يدعو حقا إلى الحزن، وإلى البكاء.
نبت شيطاني سام
ولكني أزعم أنه ليس مما يتسق مع فكر فيلسوفنا وأسلوبه في النظر إلى الأمور أن يكون قد بكى في لحظاته الأخيرة من أجل الجانب المأساوي الحزين من هذه القضية، أي من أجل تلك الدماء البريئة التي أريقت بلا معنى، فهذا الجانب لا يعدو أن يكون السطح البادي، والحصيلة النهائية لظاهرة أعمق من ذلك بكثير، صحيح أن العنف وإراقة الدماء بين أبناء الوطن الواحد أمر لم نألفه في حياتنا، ومن ثم فلا بد أن يكون مصدرا لألم عميق يملأ جوانح الناس جميعا، غير أن العقل المتميز الذي أكتب عنه هذا المقال لا بد أنه قد أدرك منذ أمد بعيد ما وراء هذا العنف من أسباب، ولا يخالجني شك في أن هذا العقل المتميز قد توصل إلى أن اعتقاد أية فئة من الناس بأنها هي وحدها "صاحبة الحقيقة المطلقة" (بلغتنا نحن) أو هي وحدها "الفرقة الناجية" (بلغتهم هم)، هذا الاعتقاد هو الذي يجر وراءه العنف وسفك الدماء، بل يبيحهما ويحيلهما في نظر أصحابه إلى كفاح مقدس، وبعبارة أخرى فإن الأمر المحزن حقيقة هو أن بلادنا بعد كل ما مرت به من أطوار، أصبحت تغص بهذا النوع من البشر الذين لا يؤمنون فقط بأنهم هم وحدهم أصحاب العقيدة الحقة، بل يصل إيمانهم هذا إلى حد الرغبة في اجتثاث كل من لا يشاركهم اعتقادهم من جذوره وكأنه نبت شيطاني سام.
الأصل إذن ليس في الجرائم التي ترتكب، وإنما في العقلية وطريقة التفكير التي تجعل أصحابها يرون في ارتكاب أعمال العنف الشكل الوحيد المشروع من أشكال "الكفاح في سبيل الله" وبعبارة أخرى فإن ما يدمي القلب حقا هو تراجع رسالة التنوير وانحسارها بعد مائتي عام من بدايتها القوية في أوائل القرن التاسع عشر.
التراجع عن القرن العشرين
وهكذا فإن ما أبكى زكي نجيب محمود حقا في لحظاته الأخيرة، هو في أغلب الظن إحساس الإنسان صاحب المبدأ بأن الرسالة التي كرس حياته من أجلها ما زالت بعيدة عن التحقق، بل هي تبدو في آخر عمره أبعد مما كانت عليه في أوله، ولعل كاتب هذه السطور من أكثر الناس ترديدا للمعنى القائل إن حالتنا الذهنية ونحن نوشك على مغادرة القرن العشرين، أشد تدهورا بكثير مما كنا عليه عندما استقبلنا هذا القرن.
وأعتقد أن زكي نجيب محمود لا بد أن يكون أشد الناس أسفا على هذه الحقيقة، ذلك لأن مفكرنا هو ابن القرن العشرين بكل إنجازاته وإحباطاته، فقد ولد في عقده الأول "1905" ومات في عقده الأخير "1993"، وفي العقد الذي ولد فيه زكي نجيب محمود كان الشيخ محمد عبده يقدم أكثر التفسيرات استنارة للإسلام، وكان قاسم أمين وإسماعيل مظهر وشبلي شميل، بكل ما تحمله أفكارهم من جرأة، وما تحتمله من صواب أو خطأ، هم المسيطرين على حياتنا الثقافية، أما في العقد الذي مات فيه زكي نجيب محمود، فقد انتشرت العقلية الأسطورية الغيبية انتشارا مخيفا، وأصبحت أهم النقابات العلمية تعقد أخطر الندوات من أجل مناقشة موضوعات مثل: هل السياحة حلال أم حرام؟ ويهلل المسئولون عن الثقافة في أكثر من بلد عربي فرحا، وكأنهم عثروا على كنز ثمين، حين يصدر كتاب يهدف إلى إثبات أنه لا تعارض بين بعض أنواع الفن وبه الدين، ويفتي بعض فقهاء الدين "المعتدلين" بأن الدولة إذا! تأخذ على عاتقها قتل المفكر "المرتد" (حسب تعريف لهذه الكلمة كله ظلم وافتراء) فلا لوم على أفراد الناس لو أخذوا القانون بأيديهم وتولوا تطبيقه برصاص بنادقهم.
التفكير المضاد
لقد أحس زكي نجيب محمود بأنه يغادر الدنيا وقد سادت مجتمعه قيم مغايرة لكل ما بذل حياته في سبيله، وسيطرت عليه أساليب في التفكير مضادة لكل ما ظل يكتب ويحاضر ويناقش من أجله، فالأجيال الجديدة يغلب عليها الافتقار إلى الحاسة النقدية وتجد راحة في الاستسلام لما يملى عليها وتصديق ما تؤمر به، و"السلطة الفكرية"- تلك الآفة التي ظل المفكرون الأحرار يحاربونها منذ عصر النهضة، بل منذ أيام المعتزلة - أصبحت طاغية، وأصبح الخضوع لها هو القاعدة، أما مناقشة مدى جدارتها بان تكون سلطة - وهي الخطوة الأولى في سبيل أي تقدم علمي أو فكري - فقد أصبحت في بلادنا أمرا محفوفا بالمخاطر. والحرص على شكليات الدين، من ملبس ومظهر خارجي وقوالب لفظية محفوظة مكررة، أصبح يطغى في أهميته بمراحل على الجوهر الحقيقي للدين، الذي هو نقاء الضمير وصلاح العمل.
كل مظاهر حياتنا في الفترة التي اختتم فيها أستاذنا حياته، تدل على أن التنوير قد هزم هزيمة مؤكدة، وحتى أولئك الذين ظلوا على ولائهم للقيم التنويرية، أصبحوا يدافعون عنها على أرض أعداء التنوير، مستخدمين لغتهم وحججهم وأساليبهم الفكرية، بعد توظيفها لخدمة أهداف التنوير، وأصبحوا في وضع دفاعي دائم، لا يجرءون فيه على اقتحام أية أرضا جديدة بل يبذلون كل طاقاتهم من أجل الدفاع عن الأوليات التي كنا نظن أنها قد أرسيت واستقرت منذ أمد بعيد.
هزائم فكرية
بل إن المسرح الدولي في بعض من أهم جوانبه قد انعكست عليه هذه الهزائم الفكرية والحضارية ورسمت صورة قاتمة تشيع الألم في نفس كل إنسان مؤمن بالعقل، وترغمه على إعادة النظر في كثير من مقولاته السابقة عن الإنسان والحضارة الحديثة، فقد عادت إلى الظهور نزعات عرقية وطائفية وشعوبية كنا نظن أن التنوير الحديث قد طواها إلى الأبد، وعبرت هذه النزعات المتخلفة عن نفسها بقدر من الوحشية يدعو إلى الشك في أن يكون الإنسان الحديث قد تجاوز بحق مرحلة الحيوانية البدائية، في تلك الشعوب التي يفترض أنها مرت بتجربة التقدم والعقلانية والحداثة، رأينا الجار يقتل جاره الذي كان طوال حياته على وفاق معه، ويعمل على إفناء العشيرة المغايرة له بأبشع الأساليب، لمجرد الاختلاف في مذهب ديني أو أصل عرقي، وطفت على السطح نزعات فاشية هدامة تتغافل عن كل ما يجمع بين البشر من قيم وتطلعات وطموحات، وتركز همها على ما يفرق بينهم من مشاعر بدائية.
لم يبك زكي نجيب محمود على مصيره ولا على ما أصاب هذا الفرد أو ذاك، وإنما بكى على لحظة موته، التي عادت فيها إلى الظهور سواء في بلاده أو في العالم المحيط بها كل الآفات العقلية التي كرس حياته لمحاربتها، من تعصب وضيق أفق وقسوة وغياب للعقل واحتكام إلى القوة الغاشمة، ولا يخالجني شك في أن هذه لحظة انتقالية مؤقتة، تولدت عن الهزات والتقلبات التي طرأت على العالم في العقدين الأخيرين، فمن المؤكد أن الغيبوبة الراهنة سوف تنقشع ولن يستطيع العالم وضمنه مجتمعنا أن يعيش طويلا في ظل الهوس اللا عقلي الذي نشهده في هذه الأيام، بل إن رد الفعل العاقل سيأتي عاجلا أم آجلا، وسيكتسح في طريقه ما يسود. الآن من غباء وسطحية وتخلف.
ولكن الأمر المأساوي حقا والذي يفسر بوضوح بكاء زكي نجيب محمود هو أن تحين لحظة غياب رجل أفنى عمره من أجل التنوير، في هذه الأيام الحالكة التي بلغ فيها التخلف مداه واشتد فيها ساعد التراجع والنكوص عن كل ما عاش هذا الرجل من أجله.
زكي نجيب محمود:
فيلسوف الأدباء
وأديب الفلاسفة
بقلم: الدكتور جابر عصفور
وصف عباس العقاد كاتبنا الراحل زكي نجيب. محمود "1905- 1993" يوما بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، فهو مفكر يصوغ فكره أدبا، وأديب يجعل من أدبه فلسفة، والمدهش أن هذا الأمر كان ينطبق على الاثنين معا "الواصف والموصوف".
الواقع أن هذا الوصف يلفت الانتباه إلى المثل الأعلى الذي كان العقاد يتصور عليه الأديب عموما، فهو لم يكن من شعراء الوجدان الذين يؤمنون بأن الشعر تدفق تلقائي للانفعالات، ولا من الأدباء الذين يكتبون كل ما يفيض به وجدانهم، بل هو واحد من الأدباء الذين يفكرون فيما يكتبون، وقبل أن يكتبوه، ولذلك كانت كتاباته الأدبية "فيض العقول" إذا استخدمنا هذه الصفة القديمة التي وصف بها أبو تمام شعره، وكانت قصائده عملا عقلانيا صارما في بنائها الذي يكبح الوجدان ولا يطلق سراحه ليفيض على اللغة بلا ضابط أو إحكام، وكانت صفة الفيلسوف فيه ممتزجة بصفة الشاعر، فهو مبدع يفكر حين ينفعل، ويجعل انفعاله موضوعا لفكره، وهو يشعر بفكره ويجعل من شعره ميدانا للتأمل والتفكير في الحياة والأحياء، ولذلك كانت صفة أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء صفة تنطبق على العقاد قبل انطباقها على زكي نجيب محمود، فالعقاد مفكر يصوغ فكره أدبا، وأديب يجعل من أدبه فلسفة، وأحسب أن العقاد عندما وصف صفيه وتلميذه زكي نجيب محمود بهذه الصفة كان يصدر لا شعوريا عن المبدأ القديم الذي أوجزه الشاعر الرومانسي الإنجليزي الذي كان العقاد يعجب به كل الإعجاب، أعني كولردج Coleridge في قصيدته الشهيرة "أنشودة الكآبة" حين قال:
نحن لا نأخذ إلا ما نعطيه
وفي أعماقنا وحدها تحيا الطبيعة
والسطر الأول دال في نظرية المعرفة الرومانسية، حيث تخلع الذات العارفة نفسها على الأشياء والكائنات، فتغدو هي إياها، أو تسقط الذات المدركة صفاتها على الموضوع المدرك "بفتح الراء" فتصفه بصفاتها، وهكذا فعل العقاد عندما وصف زكي نجيب محمود بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، فوصفه بها فيه، ومنحه من القيمة ما يرى هو ابتداء، أنها القيمة التي تميز أديبا عن أديب في ميزان الخلود، أو تميز فيلسوفا عن غيره في الميزان نفسه، فلا قيمة لأديب يعرى من الفلسفة عند العقاد، ولا قيمة لفيلسوف لا يعرف تلهب الفن وغوامض أسراره. ولكن العقاد ما كان يمكن أن يصف زكي نجيب محمود بهذه الصفة ما لم يكن عند زكي نجيب محمود ما يؤكدها، وذلك ابتداء من الإعجاب الذي يدني بصاحبه إلى الاتحاد بموضوع إعجابه مرورا بالتشابه في طرائق الكتابة، وانتهاء بالمزج بين الفن والفلسفة، في المنطقة التي يغدو بها الفن فلسفة وتغدو الفلسفة فنا، أما إعجاب زكي نجيب محمود بالعقاد فقديم، بدأ بالتأثر بكل ما كتبه فكريا، والإعجاب بكل ما صاغه قلمه إبداعا، والاقتناع المضمن - على الأقل - بما انحاز إليه من أنواع أدبية، وإذا جاوزنا التأثر بالفكر إلى الإعجاب بالإبداع، فالعقاد الشاعر هو النموذج الأسمى للإبداع الشعري عند زكي نجيب محمود، ترجم قصائده إلى الإنجليزية أثناء طلبه العلم في إنجلترا، وقدمه بوصفه نموذج الأدب العربي الحديث إلى قراء الإنجليزية، وكتب عنه أهم دراساته التي كتبها عن الشعر على الإطلاق، والتي تتميز عما عداها من الكتاب الذي جمع فيه كل ما كتبه عن الشعراء، بعنوان "مع الشعراء" وأصدره وهو في الثالثة والسبعين من عمره "عام 1978".
وشعر العقاد عند زكي نجيب محمود هو الشعر بألف لام التعريف، هو الشعر في إحكام البناء، والاعتماد على العلة الصورية التي تتميز بها المنجزات في الهوية والقيمة، وهو الشعر في الوصل بين الشاعر والفيلسوف، خصوصا حين يتفلسف الشاعر أو يشعر الفيلسوف، وهو الشعر حين يجاوز الشاعر ظواهر الأشياء ليدرك ما وراءها فيكشف بصره عن موضوع بصيرته التي تنتقل من المحدود إلى المطلق. ويستهل زكي نجيب وصفه لشعر العقاد بقوله: إن شعر العقاد هو البصر الموحي إلى البصيرة، والحسد المحرك لقوة الخيال، والمحدود الذي ينتهي إلى اللا محدود، هذا هو شعر العقاد وهو الشعر العظيم كائنا من كان كاتبه.
من حيث الشكل، شعر العقاد أقرب شيء إلى فن العمارة والنحت، فالقصيدة الكبرى من قصائده أقرب إلى هرم الجيزة أو معبدالكرنك منها إلى الزهرة أو جدول الماء، وتلك صفة الفن المصري الخالدة، فلو عرفت أن مصر قد تميزت في عالم الفن طوال عصور التاريخ بالنحت والعمارة عرفت أن في شعر العقاد الصلب القوي المتين جانبا يتصل اتصالا مباشرا بجذور الفن الأصيل في مصر، ومن أراد أن يقرأ شعر العقاد وهو ملقى على ظهره في استرخاء اللاهي، فليس شعر العقاد شعره، أما من يدخل إلى الشعر دخوله معبدا رفيع العمد متين الجدران، كل شيء فيه يدعو إلى التمهل والتأني، فديوان العقاد ديوانه. ومن حيث المضمون، شعر العقاد يبين عن شخصية صاحبه الفكرية، فهو يجلي من صاحبه الرجل قوي البناء، متين الأخلاق، ماضي العزيمة، الذي ينهض وسط الشدائد كالطود الأشم تكتنفه في دنيا الفكر مشكلات فينفذ فيها بشعاع العقل حتى يهدي ويهتدي، أما عندما يتجاوب الشكل والمضمون، فإن شعر العقاد ينكشف عن خاصية أخرى، وهي أنه أدخل في باب "الجليل" منه في باب "الجميل". الجميل من شأنه أن يهز النفس بعاطفة الحب لا الإعجاب، وعاطفة الإعجاب مركب يأتلف من عناصر أولية منها: الهول والروعة والرهبة والقداسة، وشعر العقاد جليل لأن فيه شموخ الجبال وصلابة الصوان وعمق المحيط، وفيه من الحب جناح العزة لا جناح الذلة، وفيه من الإرادة عزمها لا تراخيها وضعفها، وفيه من الخيال جده لا لعبه، فلا عجب أن يمس ديوانه العابثون فيتركوه قائلين: هذا فلسفة وليس شعرا.
تلك كلمات زكي نجيب محمود في شاعرية العقاد، وهي كلمات أتبعها صاحبها بدراسته الفريدة عن قصيدة العقيدة "ترجمة شيطان" التي كانت سابقة على قصيدة "الأرض الخراب" للشاعر الإنجليزي - الأمريكي ت. س. إليوت في تصويرها التمرد بعد الحرب، وفي وصولها إلى أعماق روح العصر وذراه الفكرية، فيما يراه زكي نجيب محمود.
وليس من الضروري أن نوافق على ما وصف به زكي نجيب محمود شعر العقاد أو لا نوافقه، فالأكثر أهمية أن نلاحظ أن إعجاب الرجل بصاحبه إنما هو صورة معكوسة من إعجاب صاحبه به، في المنطقة التي يمكن أن يوصف بها العقاد بأنه شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء بالقدر الذي وصف به العقاد زكي نجيب محمود بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة. وليس من المصادفة والأمر كذلك أن تجد في اللغة التي يصف بها زكي نجيب محمود شاعرية العقاد ما يذكرنا بلغة العقاد نفسها، وأهم من ذلك أن تمييزه بين "الجليل" و"الجميل" وانحيازه إلى "الجليل" دون "الجميل" إنما هو تمييز وانحياز عقادي، يرجع إلى كتابات العقاد الأولى التي استهل بها فلسفته الجمالية المعروفة.
أفكار عن الشعر
هذا الاتحاد الوجداني الذي وقع بين الناقد "زكي نجيب محمود" والمنقود "عباس العقاد" هو الذي صاغ أفكار زكي نجيب محمود عن الشعر، وجعل منها امتدادا لأفكار صاحبه، يرفض العقاد شعر البارودي لأنه يعتمد على محفوظه أكثر من اعتماده على التجربة المباشرة، ويصف زكي نجيب محمود البارودي بالصفات نفسها، فيما كتبه بعنوان "رأي في شعر البارودي"، ويكشف العقاد عن نزعة أخلاقية، تتسرب في كتاباته، ويتوقف زكي نجيب محمود عند "طبيعة الشعر وصلتها بالأخلاق"، ويعجب العقاد بالمضمون الرومانسي الذي ينبني في معمار كلاسيكي يكبح جماحه فيضيف إلى صفة الجمال الجلال، ويشيد زكي نجيب محمود بهذا المضمون نفسه في كل ما كتبه عن أمين الريحاني وفلسفته الإنسانية، وعن الشعراء الشبان في الجيل الماضي "الشابي، الهمشري، التيجاني"، وينفر العقاد من حركة الشعر الحر التي مثلتها قصائد صلاح عبدالصبور وحجازي والسياب وأدونيس، ويتخذ موقفه المعروف حين كان مقررا للجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، فيرفض كل إنتاج الشعراء الجدد، ويحيله إلى لجنة النثر للاختصاص، وكذلك يفعل زكي نجيب محمود في حدة أقل وسماحة أكثر، ولكن دون مغايرة في جذر الموقف، في التحليل النهائي الذي يصله بصاحبه العقاد وصل الزمالة في لجنة الشعر هذه، ويصله بصاحبه وصل المطابقة في الفكر الذي انطوى عليه الموقف من هذا الشعر.
هكذا، كتب زكي نجيب محمود مقالاته عن "التجديد في الشعر الحديث"، وتساءل ساخرا عن "الجديد في الشعر الجديد"؟! وعلق على الديوان الأول لصلاح عبدالصبور بمقاله "ما هكذا الناس في بلادي" وسخر من الطاقة الشعرية التي بددها حجازي بعدم احترامه للشكل في ديوانه الأول "مدينة بلا قلب"، وتشكك في قدرة ديوان أدونيس "أغاني مهيار الدمشقي" على البقاء في مقاله "موقف شاعر"، وتعاطف مع استخدام السياب للرمز والأسطورة في ديوانه "أنشودة المطر" ولكنه ضم شعره إلى بقية الشعر الحر الذي "فقد الشكل الذي يغري بحفظه" فليس هذا الشعر في النهاية من قبيل التحفة المحكمة الدقيقة، بل أقرب إلى "حفنة من الرمال سائبة".
قل هذه نظرة عقادية، ولكنها نظرة فهمت "الجليل" على أنه إحكام الصنعة بالشكل، أو الصورة المتقنة التي تحفظ الوزن والقافية، وتستمد قيمتها من قدرتها على تطويع المادة الصلبة، وممارسة الحرية بها لا ينقض النظام، وتلك عقادية أخرى، ولكنها العقادية التي تكتسي ثوب الوضعية المنطقية، والتي تلوذ بمفاهيم حديثة عن "الصورة في الفلسفة والفن"، حيث تغدو القيمة الجمالية قرينة "الصورة" أو "طريقة التركيب" وليس نوع المادة، وحيث تغدو "الصورة" في الشعر (أو "الشكل") قرينة الحفاظ على انضباط الوزن والإيقاع، وحيث يغدو هذا الانضباط، بدوره لازمة من لوازم "الفورم" الذي هو مصدر الفاعلية والحركة والنشاط في الأشياء والإبداعات.
والانحياز إليه..
هذه العقادية لا تتوقف عند التشابه الذي يدني بالطرفين إلى حال من الاتحاد في النظر إلى الشعر، حيث لا فارق كبيرا بين أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء من ناحية، وشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء من ناحية ثانية، فالأمر يتجاوز ذلك إلى علاقة الشعر بغيره من الأنواع الأدبية، حيث تتجلى عقادية زكي نجيب محمود في الانحياز إلى الشعر على حساب غيره من أنواع الأدب، وآية ذلك أنه أنفق "مع الشعراء" ما استوعبته مقالات كتابه الشهير، ولم يفعل ذلك قط "مع القصاصين"، مرة واحدة، تحدث عن "أبعاد القصة" في كتابه "فلسفة وفن" "1963". وأغلب الظن أنه لم يكررها فيما بعد كما لو كان قد وافق ضمنا على رأي العقاد الذي وصف "الرواية" أو "القصة"، عموما، بأنها أشبه بالخروب "قنطار خشب ودرهم حلاوة"، وذلك على النقيض من الشعر الذي هو إبداع اللغة في أصفى حالاتها وأكثرها كثافة. ولا يتحرج زكي نجيب محمود تلميذ الوضعية المنطقية ونصير الحداثة الأوربية، في أن يكشف عن نزوع تراثي في هذا المقام، فالشعر هو ديوان العرب، وكل نوع أدبي يمكن التسامح فيه ما عدا الشعر، ذلك لأننا أمة تتابعت في تاريخها منذ زمن بعيد عصور الشعر عصرا في أثر عصر، ولكل عصر منها خصائصه، إلا أن ديوان الشعر العربي يجمعها جميعا بين دفتيه، وديوان الشعر له شكله الأرقى بالقياس إلى غيره من الأنواع الأدبية، وشكله الأكثر ثباتا الذي لا ينبغي الاجتراء عليه تجديدا أو تجريبا أو حتى حداثة. بعبارة أخرى، الشعر هو ما كتبه ابن سينا في العينية، والغزالي في التائية، والعقاد في دواوينه، خصوصا ترجمة شيطان، ولا يفارق الخصائص المتوارثة عند الرومانسيين. أما ما عدا ذلك فانكسار للشكل وخروج على الصورة التي هبطت في قصائد العقاد من المحل الأرفع للشعر.
هل حاول زكي نجيب محمود كتابة الشعر؟ أغلب الظن أنه فعل. ولكنه لم يظهر ما كتبه. وآثر أن ينافس أستاذه في مجال آخر يمكن أن يتفوق فيه "لو نظرنا إلى الأمر من منظور التضاد العاطفي". وذلك هو مجال المقال الأدبي من ناحية والسيرة الذاتية من ناحية ثانية. أما المقال الأدبي ففي كتاب "جنة العبيط " "1951" ما يكشف عن طموح صاحبه ذلك، وحرصه على أن يترك بصمته في هذا المجال، خصوصا في المنطقة التي يمكن أن يثبت بها المقال أن صاحبه أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء على السواء. ولم تتوقف كتابة هذا النوع من المقال، ظلت مستمرة في الكثير من الأعمال اللاحقة: "أيام في أمريكا" "1955" "قشور ولباب" "1957" "قصاصات الزجاج" "1974".. وغير ذلك.
السيرة الفكرية
أما السيرة الذاتية، فمن اللافت للانتباه أن زكي نجيب محمود لم يكتبها بطريقة طه حسين في "الأيام" مثلا، ولكنه كتبها بطريقة العقاد في كتب من مثل "أنا" واقرأ الثلاثية المترابطة "قصة نفس" "1965" و"قصة عقل" "1983" و"حصاد السنين" "1992" التي كتبت عبر سبع وعشرين سنة على وجه التحديد، تجد أن الذات التي تتحدث هي ذات يثقلها وعيها بنفسها، ويدفعها إدراكها لدورها إلى تحويله لموضوع للدرس، وبقدر ما تحرص هذه الذات على تخفيف التوازن بين الصياغة الأدبية والتوثيق التاريخي في بناء "الشكل الخاص" بالسيرة، وهو توازن يؤثر "الجليل" على "الجميل" في المنظور والاختيار، والإخبار على الإنشاء، فإن هذه الذات تنقسم على نفسها الانقسام الذي يتميز به الفكر الذي يستطيع أن يجعل من نفسه موضوعا لتأمله، فتتحول "الأنا" الساردة إلى موضوع للرد في الثلاثية التي أشرت إليها، ولكن تتسرب من السرد الجوانب العاطفية الشخصية، كما لو كانت جوانب تضعف معمارية الهيكل الجهم في جديته، أو تعكر على رصانته. وتتحول الذات الموضوع إلى موضوع منفصل، لا ينفيه إلى مجال الفكر إلا أن سرده لا يفارق الشعور الأدبي لهذه الذات، وهو شعور يحرص على التقاط المغزى الأخلاقي من الوقائع (وكل "قصة" لها مغزى يمكن تلخيصه في "حصاد السنين") وتصعيد النموذج السلوكي الذي تنطوي عليه "قصة نفس" أو "قصة عقل" إلى الدرجة التي يمكن أن نصفها فيه بأنها "سيرة فكرية" كتبها فيلسوف يتأدب في صياغة تأمله، وأديب يهرب من ذاتيته إلى تفلسفه، لكنه في الحالين موصول بأستاذه الذي وصفه بأنه "فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة".
تولد الشكل من وضوح الأفكار
وإذا شئنا أن نبحث لهذا النوع من "السيرة الفكرية" عن مبدأ جمالي يمكن أن يحدد طبيعة "فورم" الكتابة أو شكلها بالقياس إلى الفيلسوف، حيث يتميز أديب الفلاسفة عن غيره، قلنا مع زكي نجيب محمود إن "وضوح الأفكار" وتحديدها هو البداية التي يتولد عنها "الشكل"، وإن هذا الشكل ينبني بمبدأ لغوي يرد سر البلاغة إلى "الوصل والفصل" ومعناه أن الصنعة الأدبية للفيلسوف - كالصنعة الأدبية للأديب - ترجع إلى ما يحسنه من وصل وفصل بين أجزاء الكلام، بحيث تجيء عبارته موصولة منسابة في يسر، كأنها مسلسل من ينبوع دافق لا يتعثر فيها القارئ عند الفواصل، لكنها - مع ذلك الانسياب المتصل - لا يفوتها أن تقف وقفات مفاجئة، بطريقة من طرق الفصل بين سابق ولاحق، وذلك عندما يراد للقارئ أن ينتبه لحقيقة أو فكرة مهمة يوردها الكاتب في سياق حديثه، لأنه إذا امتد الأمر بالقارئ في انسياب موصول منغوم، فقد تأخذه سنة من خدر.
وعندئذ، يصبح في حاجة إلى "فصلة" تشق عليه الطريق المطرد، فتوقظه، وهكذا يظل القارئ بين انزلاق يسهل فوق سطح أملس، من كلام محبوك الوصلات بين أجزائه، في حال الوصل، ووقفات تقطع الرتابة، عند مواضع ينفصل فيها سابق عن لاحق، في حال الفصل. ولقد شرح زكي نجيب محمود هذا المبدأ البلاغي الملازم لأدبية الكتابة، في سيرته الأخيرة "حصاد السنين"، كأنه يتحدث عن سر بلاغته هو، في كتابته التي استحق معها أن يصفه أستاذه بأنه "أديب الفلاسفة". ولكن هذا الشرح نفسه يمكن أن ننظر إليه من زاويتين أخريين تكملان دلالته في منطقة "فيلسوف الأدباء"، أعني أن هذا الشرح يتحول، في التحليل الفلسفي للوضعية المنطقية، إلى نوع من اللغة الشارحة Metalanguage التي تنقسم بها اللغة على نفسها، فتغدو موضوعا وذاتا للخطاب في آن. بعبارة أخرى، يمارس زكي نجيب محمود أدبية الكتابة الفلسفية، فيغدو أديبا للفلاسفة. ولكنه يجاوز هذا الأمر ليصل إلى اللغة التي تصف نفسها بنفسها أو تتحدث عن موضوعها الذي هو إياها، فتبين عنه في الوقت الذي تكشف عن أسرار إبانتها له، وتصفه في الوقت الذي تبين عن كيفية وصفها له في حالي الوصل والفصل، هكذا يمكن التمييز بين لغة الموضوع Object Language واللغة الشارحة لهذا الموضوع Metalanguage، وهو تمييز يرجع إلى المنطق الرمزي، وإلى ما ذهب إليه رودلف كارناب Rudolf Carnap من أننا نحتاج إلى اللغة الشارحة لكي نتحدث عن لغة أي موضوع.
إن أفقا جديدا من المعرفة ينفتح أمام عقولنا عندما ندرك قدرة اللغة على أن تصف نفسها بالقدر- أو في الوقت - الذي تصف فيه نفسها. وإذا كان الفكر البشري قد بدأ تقدمه حين وعى نفسه، وأصبح قادرا على أن يحيل نفسه إلى ذات متأملة وموضوع للتأمل، أو تأمل للفكر وموضوع له: فإن أسرار "الأدبية" تتكشف في بعد جديد عندما تنعكس لغة الموضوع على نفسها، فتشرح نفسها في علاقتها بالموضوع في فعل من أفعال التحليل المزدوج.. وإذ ينفتح هذا المجال على فلسفة الفن والنقد معا، ويكشف عن الإسهام الوضعي لزكي نجيب محمود، في فنون النقد التطبيقي والنظري ونقد النقد وفلسفة الجمال، فإنه ينفتح من منظور يوازي بين الموضوع من حيث هو لغة واللغة الشارحة لهذه اللغة. وذلك على نحو يتبادل فيه "الفيلسوف" و "الأديب" صفتي الفاعلية والمفعولية، أو صفتي الذات والموضوع، فيغدو كل واحد منهما موضوعا لتحليل الآخر وفاعلا له.
تحليل الذات والتحليل الموازي
من هذا المنظور، يجتلي زكي نجيب محمود لغته في سيرته الفكرية الذاتية كما تجتلي الذات نفسها في المرآة، ويحلل نفسه في الوقت الذي يجعل من تحليله موضوعا لتحليل مواز، ويجاور بين آرائه في فلسفة النقد وما يقرأه في كتابته هو، ويصف لغة موضوعه بلغته الشارحة، فيحدثنا عن الوصل والفصل، من حيث هو سر من أسرار البلاغة في علاقته بوضوح الفكر، ولكنه لا يكشف عن سر كتابته وحدها حين يفعل ذلك بل يكشف - فضلا عن ذلك - عن المبادئ الجمالية التي أفادها من فلاسفة غير بعيدين عن الوضعية المنطقية بوجه أو بآخر، ومنهم الناقد الإنجليزي الشهير ريتشاردز I.A.Richards الذي يرد المبدأ الجمالي للإيقاع إلى المراوحة المستمرة بين إشباع التوقع النغمي وإحباطه، مؤكدا بذلك ما ذهب إليه جون ديوي John Diphony في كتابه "الفن خبرة" حين رد الخاصية الجمالية للموسيقى إلى التوتر المتصل بين تناغم الأصوات Diphony وتنافر الأصوات Cacophny .
ويمزج زكي نجيب محمود ذلك كله بتراث المبدأ الفلسفي القديم للوحدة التي لا بد أن تقوم على التنوع، وهو مزج يعطي أولوية خاصة للفلاسفة الأقرب إلى الوضعية المنطقية في الاهتمام باللغة وطرائق تحليلها، ولكن هذا المزج نفسه يبتعث من التقاليد الفلسفية ما يؤكد علاقة الوصل بين زكي نجيب محمود وأستاذه العقاد، خصوصا حين يكشف التلميذ عن فهمه للوحدة بما يجعله أقرب إلى المنطق الصوري "الأرسطي" الذي لا يفارقه أستاذه، ويتجلى ذلك - على سبيل المثال - حين يتحدث زكي نجيب محمود عن الوحدة الشكلية في "المقالة" التي لا تفارق حالين: تتابع الأجزاء رأسيا بما يشبه درجات السلم الذي يرقى بالصاعد من أرض المبنى إلى سقفه، حيث تفضي كل درجة إلى ما بعدها، إفضاء السبب إلى النتيجة. وتتابع الأجزاء أفقيا بما يشبه حركة الدائرة التي تتلاقى جميع خطوطها عند موضع واحد، هو المركز، أو النقطة التي يريد الكاتب توصيلها إلى القارئ. وصفة "الوحدة" الشكلية الناجمة عن هذين الحالين تسمية أخرى للعلة الصورية "الأرسطية" التي تتميز بها الأشياء حيث يفترق أدب عن أدب، ومصنوع عن مصنوع، بالشكل "أو الفورم" أو خلطة الترابط التي تصل الأجزاء بنسب من قانون العلية الذي يرد النتائج إلى مقدماتها منطقيا.
هل أقول إن هذا الفهم الصوري الشكلي الأرسطي للوحدة هو المسئول عن نفور زكي نجيب محمود من الشعر الحر، حيث لا توجد البنية المنطقية للشكل بهذا المنحى الأرسطي، حيث الاندفاعة الوجدانية أقوى من الفورم الصوري المتوارث للنوع؟ إن الأمر يبدو كذلك بالفعل، فهذا الفهم قرين الوضوح، الساطع، القاطع، لمعمار المعبد والأهرام، حيث لا التواء ولا غموض، وحيث الخطوط المستقيمة القاطعة التي تناقض - في ثباتها واطراد نظامها ما بين الوصل والفصل - التدفق المتفجر، اللامنتظم لبراكين الشعور واللا شعور.
هذا الفهم نفسه كان العلة الفاعلة وراء هجوم العقاد على شوقي في مطالع العشرينيات من هذا القرن، حين وصف شعر شوقي بالتفكك والإحالة والولوع بالأعراض دون الجواهر، وكان ذلك منه تطبيقا لوحدة منطقية أرسطية، ولنزوع كلاسيكي يؤثر الجواهر على الأعراض، إذا استخدمنا لغة العقاد، أو يؤثر اللباب على القشور، إذا استخدمنا لغة زكي نجيب محمود التي سطعت في عنوان كتابه "قشور ولباب" (1957) الذي بدأ بالترجمة عن شاعر أثير عند العقاد في قضية وصلت الجميع، في الاهتمام بالألفاظ فكرا وإبداعا.